الأخلاق في القرآن

الإسلام دين الفطرة السليمة، والعقول الرشيدة والنفوس المستقيمة التي تتبع منهج أخلاقي إسلامي واضح المعالم يتميز بالفطرية والكمال والثبات والصدق والشمول، والعمومية. وقد أرسى هذا المنهج الأخلاقي الإسلامي قيم وقواعد أخلاقية متينة تهدف إلى خير الإنسان في الدنيا وسعادته في الآخرة.

 ولذلك فإن التنديد بأخلاقيات الجاهلية قد بدأ منذ اللحظة الأولى، مع التنديد بفساد تصوراتهم الاعتقادية، واستمر معه حتى النهاية، وفي ذلك دلالة معينة، وهي أهمية العنصر الأخلاقي في هذا الدين، وارتباط التصور الاعتقادي بالسلوك الأخلاقي في شتى مناحي الحياة. فالأخلاق ليست شيئًا ثانويًّا، وليست كذلك محصورة في نطاق معين من نطاقات السلوك البشري. وإنما هي ركيزة من ركائزه، كما أنها شاملة للسلوك البشري كله. ويندد القرآن بأخلاقيات الجاهلية منذ السورة الأولى، سورة العلق، بل يندد بها قبل أن يتحدث عن الفساد العقيدي ذاته، وكأنه ينبهنا بذلك إلى أن الفساد العقيدي ليس فسادًا نظريًا ولا فسادًا في  التصور المكنون في داخل الضمير فحسب، بل إن له آثارًا سلوكية عملية يعرف بها ويتميز. “كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى” “العلق 6-7”. والطغيان خلق جاهلي ينشأ من فساد عقيدي “أن رآه استغنى” فحين يتوهم الإنسان أنه قد استغنى بما في يده من المال والبنين والسلطان الممدود في الأرض، فإنه يطغى ويتجبر.

 وإذا كان الإسلام قد قلب تمامًا ما كان عليه العرب في جاهليتهم من العقائد، لأنه وجدها كلها باطلة وضالة عن الحق، فإنه لم يفعل ذلك في ناحية الأخلاق، وكان هذا أمرًا طبيعيًّا. إنه لم يأت ليهدم كل شيء في ناحية الأخلاق وخلق غيره وإن كان صالحًا للبقاء.

 ولذلك نراه يستبقي ما وجده خيرًا من الأخلاق التي درج عليها العرب في حياتهم، وأخذوا أنفسهم بها، فأمر بها وحث عليها، ووعد من يسير عليها حسن العاقبة وخير الجزاء في الدنيا والآخرة. ولم يطرح في ناحية العادات والتقاليد والأخلاق، إلا ما كان منها سيئًا وقبيحًا تنفر منه الطباع السليمة، ولا تقوم عليه حياة الأمة التي تحرص على أن تأخذ مكانها الجدير بها، وعلى أن تكون مثلاً أعلى لغيرها.

 ومن أجل ذلك كان العرب على استعداد كبير لقبول ما جاء به القرآن من هداية وإرشاد وأخلاق بها صلاح الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، وذلك بعد أن استقر الإيمان بالله ودار الجزاء في قلوبهم، فكان الواحد منهم ربما سمع الآية أو الآيتين من القرآن فيكتفي بما سمع ويعمل به، لأن الإسلام أزال ما كان على عقله وقلبه من غطاء، وكشف له عن فطرته السليمة التي فيها استعداد لقبول الحق والعمل بالخير. فهذا صعصعة بن معاوية، كما يروي الإمام أحمد وغيره، أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه من سورة الزلزلة قوله تعالى: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره” “الزلزلة 7-8″، فقال: حسبي، لا أبالي أن أسمع غيرها.

 فالإسلام يعمل دائمًا على تحقيق النمو الأخلاقي للفرد المسلم، لأن حسن الخلق زينة الإنسان وهي التي تجعله محبوبًا في المجتمع ولدخوله في الآخرة.

 كذلك فإن الأخلاق الحسنة من عوامل النهوض والأمن والاستقرار الاجتماعي، وسوء الأخلاق من أسباب تفكك المجتمع وانهيار الدولة وسقوط الحضارات.وعلم الأخلاق باختصار هو علم الخير والشر. والتربية الخلقية هي التي تحقق الروح الخيرة، لأن هدفها الأول بناء إنسان خير يكف شره وجرمه عن الناس ويعمل باستمرار لخير نفسه وخير أمته.

 إن الإسلام منذ أول ظهوره قد استحدث باعثًا آخر يجب أن يكون هو الدافع إلى مكارم الأخلاق غير ما كان عليه الأمر عند العرب قبله، فقد كان العرب قبل الإسلام -في الغالب من أمرهم- يفعلون الخير اتقاء للذم، وطلبًا للثناء، وحفاظًا على الحسب والمجد، وطلبًا لحسن الأحدوثة والذكر، فحاتم الطائي مثلاً يؤكد كرمه ويقول: “أخاف مذمات الأحاديث من بعدي”. ولكن الإسلام نظر إلى الباعث على الأخلاق نظرة أخرى، وذلك حين ألغى التفاخر بالأجداد والأحساب، وجعل مناط الفضل التدين وعمل الخير لأنه خير ابتغاء وجه الله ورضاه، وذلك ظاهر في كثير من الآيات ومنها قوله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” “الحجرات13″، وقوله في تفضل أبي بكر على من أساء إليه: “وما لأحد عنده من نعمة تجزى* إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى* ولسوف يرضى” “الفجر 19-21”. كما أن بعض ما يحسب على العرب من الرذائل والأخلاق والعادات السيئة لم يكن إلا مبالغة وإفراطًا في الخير بزعمهم، أو نشأ عن سوء تقدير لمعنى الخير في رأيهم. فالإسراف في العطاء مثلاً، ليس إلا مبالغة وغلوًّا في الكرم، ووأد البنات ليس إلا ذهابًا إلى أقصى الحدود في الغيرة على العرض، والتهور الذي كان من طباع الكثير منهم ليس إلا إفراطًا في الشجاعة، وقتل الأبرياء أحيانًا ما هو إلا غلو في الأخذ بالثأر وتقدير الحسب والاعتداد به، وهكذا الأمر في عادات سيئة أخرى. فكان من الإسلام أن أخذ هذه النفوس المملوءة بحب الفضيلة إلى درجة الإفراط فيها، إلى الاعتدال والتوسط في الأمر، وكان من اليسير على العرب أن يتقبلوا ما جاء من أخلاق بقبول حسن. فإن النزول عن الإفراط في الكرم مثلاً إلى الاعتدال أيسر على النفس من الصعود من البخل إلى الجود باعتدال. وهكذا الأمر في الشجاعة والغيرة على العرض، وغيره من العادات والتقاليد والأخلاق الأخرى.

 وقد اهتم الإسلام وأعلى من قيمة الإنسان صاحب الفعل الأخلاقي حيث أفاضت آيات كثيرة في تقدير وعزة الله له، كما في قوله تعالى: “وإذا قال ربك للملائكة إنى جاعل في الأرض خليفة” ” البقرة30″. فالإنسان خليفة الله في الأرض، وكفى به ذلك كرمًا، وقدرًا، وعزة.

 ويأتي وصف القرآن للإنسان الكامل في مقابل تصوير الفلاسفة والمفكرين له، حيث يقول الله عز وجل “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا* إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أُف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا* وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا” “الإسراء23”. فهذه الآية توضح أن الإيمان بتوحيد الله جل وعلا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإيمان بمبادئ الأخلاق الرشيدة، والتي تظهرها الآية في حسن معاملة الوالدين.

 لقد حث الإسلام على مكارم الأخلاق ودعا الناس إلى الفضيلة والخير، بل إن الأديان السماوية كلها كانت دعوة هادفة إلى تحرير الإنسان من العقائد السابقة وإرشاده إلى الفضائل. فالخلق الكريم والاستقامة والفضيلة أساس من أسس السعادة، وهدف من أهداف الرسالات السماوية.

 ولقد تربى المؤمنون الأولون على أخلاق الإسلام فكانت قلوبهم نظيفة وأيديهم طاهرة ووجوههم مشرقة بنور الإيمان، فلما فتحت لهم البلاد وخضعت لهم العباد لم يأخذهم الغرور، ولم تلههم الدنيا عن الآخرة، ولم يخرجوا عن الله، بل حفظوا الأمانة وأحسنوا القيادة وسهروا لمصلحة الرعية وكانوا نجومًا ساطعة في تاريخ البشرية.. وكل ذلك يرجع إلى أن الإسلام جاء رسالة سمحة تدعو إلى مكارم الأخلاق وتحث على الفضيلة والخير وتنهى عن الإثم والشر، وتدعو إلى الاعتقاد بأن الله مصدر كل شيء في الكون. وكما خلق الله تعالى الإنسان، وضع له نظامًا يتبعه، وطريقًا يسير عليه، وشرح له أمورًا من عدل وصدق، وأمره باتباعها، وجعل السعادة في الدنيا والآخرة جزاء، ونهى عن الرذائل من ظلم وكذب فيقول تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون” “النحل 90”.

فلقد أتم الإسلام رسالات السماء ودعم القيم وحث على التحلي بمكارم الأخلاق. وتميز القرآن بأنه روح وحياة أحيا العرب من موات الجاهلية وأخرجهم من الظلمات إلى النور وجمع شملهم ووحد كلمتهم فصاروا خير أمة أخرجت للناس.قال تعالى: “قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم” “المائدة 15-16”.

 والقرآن الكريم بصفة عامة هو المعجزة التي ليس لها سابقة ولا لاحقة في تاريخ الحياة الروحية والإنسانية، إنه نور يهدي الإنسان سواء السبيل متنقلاً به من الظلمات إلى نور الهداية الربانية بما شرعه له من قيم روحية خالصة ترسم له أصول عقيدة إلهية رفيعة، وعبادات وفضائل تطهر نفسه، وقيم عقلية تخلصه من السحر والكهانة والخرافة، وتعده للعلم والمعرفة، وقيم اجتماعية تدفعه للعدالة والمساواة، وقيم إنسانية تكفل له كرامته وحريته. والإسلام يجعل حسن الخلق في قمة الأهداف التي ينبغي أن يتنافس فيها الأفراد، ويجعل حسن الخلق لذاته درجة دينية ترفع قدر صاحبها عند الله.

 إن روح القرآن هي الروح الأخلاقية التي ترسم للإنسان طريق الخير في الحياة وتدفعه إلى السير فيه وتعمل لإبعاده عن الشر. وذلك على أساس أن الأخلاق علم الخير والشر حيث إنه يبصر بالخير وتدفع الإنسان إلى الإلتزام به ويبصر بالشر ويزجر عنه. ولهذا ترى الإسلام ما من خير إلا ودعا إليه، وما من شر إلا ونهى عنه. وتجد أن كل ما هو ضار في حياة الفرد أو المجتمع سواء كان ضارًّا بنفسه أو كان سببًا إلى الضرر أو ما يترتب عليه في المستقبل فهو محرم في الشريعة، وما من فعل يؤدي إلى الخير إن عاجلاً أو آجلاً فهو ممدوح قد حض عليه الإسلام، ثم إنك تجد أن غاية الشريعة تتفق تمامًا مع غاية الأخلاق، إذ إن غاية الأخلاق تحقيق السعادة عن طريق دفع الناس إلى الخيرات وردعهم عن الشرور، وكذلك الإسلام جاء ليبين للناس الطريق المستقيم أو الخير، وليبين لهم الطريق الضال أو الشر.

 وإذا نظرنا إلى حسن الخلق من الناحية الاجتماعية نجد أن الدعوة إليه تعني الإسهام في تكوين مجتمع فاضل، وهذا المعنى من الأهداف الجوهرية في الإسلام، فإن الإسلام يهدف إلى تكوين أمة لا ينبغي أن تكتفي بحسن الخلق، وإنما يكون هدفها أن تكون مثلاً ونموذجًا أعلى بين الأمم، أو حسب تعبير القرآن الكريم: “كنتم خير أمة أخرجت للناس” “آل عمران110”.