مقاصد الصيام الدينية وفوائده الدنيوية

لا شيء أقرب إلى الصحة الجسدية والروحية من الصيام بحيث إنه تطهير للنفس وللقلب، كما أنه أيضًا وبالقدر نفسه هام للصحة الجسدية، فالأجسام تحتاج إلى الراحة وبفضل الصيام يصير الإنسان أكثر نشاطًا وأكثر صحة وحيوية حين يتخلص من ترسبات الطعام وثقله، فما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية هو قدرته على التحكم في شهواته، والصيام يعلم الإنسان ضبط النفس والتحكم في الشهوات.

وعلى الرغم من أن الصيام لا ينظر إليه عادة إلا باعتباره شعيرة دينية وفريضة من الفرائض، باعتباره ركنًا أساسيًّا من أركان الإسلام، إلا أنه في الواقع لا بد من الإشارة إلى فوائده الأخرى التي تجعل لرمضان وللصيام عمومًا أهدافًا و مقاصد أخرى تنفع الإنسان في دنياه، وهو ما يدخل في باب المقاصد، إذ إن الإسلام لم يلزم الإنسان بالقيام بأي شعيرة من الشعائر إلا لمقصدية وغاية تنفعه في الدنيا وفي الآخرة.

الصيام وارتباطه بالمقاصد الشرعية

ما يميز الشعائر الدينية الإسلامية هو أن لها مقاصد نفعية في الدنيا وفي الآخرة؛ وذلك على عكس ما نجده من ممارسات وطقوس في بعض الديانات الأخرى التي تم تحريفها، أو تلك الديانات الوضعية التي تهدف إلى التضحية بالإنسان من أجل الإله؛ ذلك أن الإسلام ينظر إلى كل التعاليم على أنها في صالح الإنسان في حياته الدنيوية، قبل أن تكون لها غايات و مقاصد أخرى دينية أو مقاصد روحية محضة.

لقد شُرعت الصلاة مثلاً لتنظيم حياة الإنسان ووقته و فضلاً عن كونها رياضة للعقل والقلب والجسد، من خلال التأمل في ملكوت الله تعالى والتواصل مع الله عز وجل بلا رابطة ولذلك سميت صلاة باعتبارها صلة ورابطة بين العبد وربه عز وجل، كما أن الزكاة مثلاً شُرعت تطهيرًا للنفس من درن الطمع والجشع والبخل، والذي يسبب في كثير من الأضرار للإنسان وللمجتمع، كما أنها تخلق التضامن الاجتماعي بين الناس، و تقضي على الفقر.

و يعتبر الحج رحلة روحية إلى الله تعالى من أجل ولادة جديدة تخرج الإنسان من درن الفقر الروحي إلى درجة الغنى الروحي والنفسي، كما أن الشعائر التي يؤديها الحاج في الحج كلها لها مقاصد روحية واجتماعية وثقافية لغايات ومقاصد يجني ثمرتها الإنسانُ في الدنيا قبل الآخرة، ولعل أبرزها أنها تعمل على توحيد كلمة المسلمين حين تجمع المسلمين من كافة أقطار المعمور ومن مختلف الأجناس والألوان ليصلوا صلاة واحدة وخلف إمام واحد، ولكي يقوموا بشعائر موحدة ويلتفوا حول كلمة واحدة هي كلمة الله تعالى.  

أما الصيام فهو الذي قال فيه الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة: “قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” (رواه البخاري ومسلم). وقد خصه الله تعالى بعناية كبيرة كما خصه المسلمون بعناية فائقة، كما أنهم جعلوا من رمضان شهرًا تعبديًّا يتعمقون فيه في باقي أركان الإسلام الأخرى من صلاة وصدقة واعتمار.

فما مقصدية الإسلام من الصيام؟

1- تطهير النفس البشرية من الرذائل

لقد شدد الإسلام على الصيام وأكد عليه باعتباره مُطهرًا للنفس من الأدران والدنائس التي قد تعلق بها في سائر الشهور الأخرى، و ذلك مصداقًا لقوله تعالى في كتابه: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أيامًا معدودات” (البقرة، الآية 183) والتقوى هنا تقوى الإنسان ربه وخوفه من الوقوع في المحرمات، فضلاً عن كونه هو في حد ذاته تقوى لله، فهو “مدرسة يتربى فيها المسلم على سلوك الطريق المستقيم، والمنهج القويم، لما فيه من تقوية القلب، وتعويده الصبر، والتحمل ومراقبة الله عز وجل من جهة”(1).

لقد فرض الصيام أولاً لتقريب الإنسان من ربه سبحانه وتعالى وهنا مكمن المقصدية والغاية التي على المسلم أن يراعيها من خلال تقربه من الله تعالى، دون التركيز على الفضائل الصحية التي يحدثها الصوم بشكل عام، والذي يشترك فيه المسلم مع باقي الصائمين في الديانات الأخرى من غير المسلمين، بل حتى من غير المتدينين، فعلى المسلم أن يجعل نيته هي الصوم لله تعالى، وفي ذلك يقول النبي عليه السلام: “مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ” (2)، فيكون الأمر مبنيًّا على الغاية التعبدية من أجل التقرب من الله تعالى إلى جانب الأـمور الصحية. ولهذا فالصوم في الثقافات الأخرى بالنسبة لغير المسلمين تكون غايته صحية ومن ثمة لا يمكن أن نقارنه بصيام المسلمين كما هو الحال للرياضات التي تحاكي صلاة المسلمين كالرياضات الروحية التأملية التي هي لغاية صحية وليست لغاية تعبدية. 

بناءً على ذلك يمكن التمييز بين مفهوم “الصيام” الذي يدل على الفعل التعبدي الشرعي الذي يتماشى مع قوله تعالى “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم” (البقرة، 183)، وبين كلمة الصوم التي تعني الإمساك فقط عن الأكل أو الشرب أو الكلام أو ما شابه لغايات ليست بالضرورة تعبدية وذلك يتماشى مع قوله تعالى: “فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا” (مريم، 26).

2- الصوم جنة

يقول الرسول عليه السلام: “الصوم جنة” (3)، أي وقاية من الوقوع في الآثام، بحيث إنه يمنع الإنسان من الوقوع في المحرمات ومن ثمة فإن الرسول عليه السلام كان يوصي بالصيام الذين يقعن في الحرام من غير المتزوجين فعليه بالصيام فإنه له وجاء والذي يعني أن السنان الذي يصون لا يكذب ولا يفعل المحرمات ولا يزني وما إلى ذلك من الأمور التي تبني شخصية الإنسان والتي تجعله في نهاية المطاف أكثر تقربًا من الله تعالى ومن ثم فعلى على المستوى المادي القريب أن الإنسان الصائم لا يقع في المحرمات التي قد تجعله في ورطة ما يجعلنا في نهاية المطاف نبني الإنسان الصالح من خلال الصيام.

3- الصيام يعلمنا الصبر

يعلمنا الصيام الصبر، فحبس النفس عن الوقوع في الشهوات سواء منها شهوة البطن أو الفرج يُعوِّد المؤمن على التحكم في نفسه وفي شهواته، ومن ثمة فإن رمضان هو مدرسة تمكن الصائم من أن يتعلم الصبر في أمور الحياة بشكل عام؛ فمن بين مقاصد الصيام تنشئة مسلم قوي، والرسول عليه السلام يقول: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير” (4)، فالمسلم يصبر على الجوع من الصباح إلى المساء، ويصبر على جميع الشهوات، وعلى قول الزور أو التشاحن، وبذلك يمكنه أن يصبر على أمور أخرى أهم من ذلك بكثير، ويكون بذلك إنسانًا صالحًا.

4- الصيام والعمل

على الرغم من اعتقاد البعض بأن رمضان هو فقط شهر عبادة  من صيام وقيام، إلا أن الصيام كان عبر التاريخ محفزًا للقيام بالأعمال الشاقة والمآثر العظيمة، بما في ذلك الحروب والغزوات الإسلامية التي نجح فيها المسلمون بفضل الصيام، بحيث كانت في الغالب تتم في شهر رمضان والمسلمون صيام، فالمسلم يكون وهو صائم أقوى شكيمة وأكثر استعدادًا للعمل، من ذلك غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون والتي تمت في رمضان، وبالتحديد في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة. (5) فضلاً عن فتح مكة الذي تم في العاشر من رمضان في السنة الثامنة للهجرة، وقد خرج الرسول عليه السلام للفتح مع اثني عشر ألف جندي. فالصيام يعلم الإنسان التحمل والصبر ومن ثمة يتيح إنجاز الأعمال العظيمة، فرمضان ليس شهر راحة وإنما هو شهر عبادة وعمل.

5- الصيام وتوفير الوقت

يوفر لنا شهر رمضان الوقت للقيام بكثير من الأشغال، ذلك أن الصيام القائم على وضع برنامج محكم يجمع بين العبادة والعمل هو من الأمور التي لا نجدها إلا في رمضان، فالابتعاد عن الأكل والشرب الذي يأخذ وقتًا طويلاً، يوفر للمسلم أن يقوم بأنشطة متنوعة وذات فائدة، كما أن الرسول عليه السلام يدعونا إلى تجنب إضاعة الوقت في ما لا طائلة منه، وفي ذلك يقول الرسول عليه السلام: “مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه” (6)، فالصيام يدعو المسلم إلى أن يشغل وقته في مرضاة الله تعالى ومن ذلك العمل الصالح الذي فيه خير للمسلم في دينه ودنياه، وهو ما يعتبر معه رمضان فرصة للمسلم لحسن استغلال ليله ونهاره في الأعمال الصالحة.

6- الصيام والصحة الجسدية

لا شك أن الصوم ممارسة كونية ولا يرتبط بالمسلمين وحدهم، فمعظم الأمم والشعوب المتدينة تصوم بطريقة أو بأخرى وذلك نظرًا لإدراكهم أهمية الصوم على صحة الإنسان الجسدية، فضلاً عن ارتباطه بالشعائر والطقوس الدينية، بحيث إن بعض الباحثين يشير إلى أن الفراعنة مارسوا الصوم تطهيرًا لذنوبهم وتكفيرًا عن أخطائهم وخاصة منهم الكهنة، وكان الصوم يتم طلوع الشمس إلى غروبها، ويمارس اليهود الصوم فيما يُسمى عندهم بيوم الغفران وهو اليوم الذي جاء فيه موسى عليه السلام، حسب التوراة بألواح الشريعة، كما يصوم المسيحيون أيضًا في أوقات متفرقة، بحيث لم يخصص الإنجيل، زمنًا محددًا للصوم (7).

فالصوم له مزايا عديدة  على صحة الإنسان بحيث إنه يخلص الجسم من السموم ومن الأمراض والعلل، ولهذا يوصي الأطباء في الدول الغربية اليوم بالصوم لمحاربة بعض الأمراض منهم الخبير الألماني في التغذية ماتياس ريدل الذي أكد الأثر الإيجابي للصوم لمحاربة بعض الأمراض، وخاصة أثره على  الوزن الزائد وما ينتج عنه من أمراض مثل مرض السكر وأمراض القلب والدورة الدموية، كما يؤكد المستشار الصحي الألماني ميشائيل ديسبيجل -وهو صاحب مؤلفات في هذا المجال- أن تناول الأكلات السريعة بشكل دائم يؤثر سلبًا على عملية التمثيل الغذائي، في حين أن الصوم يخفف عن الجسم ويجدد نشاط أجهزته ويحفز عملية الأيض(8).

ولقد سبق الإسلام الذي هو نظام حياة بالنسبة للإنسان، إلى تأكيد المقصدية الصحية من الصيام، فرَوَوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “صوموا تصحوا” وعلى الرغم من الحديث ضعيف الإسناد، إلا أنه يدل على وعي مبكر من طرف المسلمين بأهمية الصيام وفضله على صحة الأبدان. والحق أن طريقة الصيام الإسلامية هي الأصح من أجل الصحة الجسدية عوض الصوم المتقطع الذي يقوم به البعض من أجل الصحة، بل إن في صوم شهر كامل كما في ديننا الإسلامي حِكَم صحية بالغة، وذلك ما اهتدى إليه بعض خبراء الصحة اليوم؛ يقول البروفيسور نيكولايف بيلوي من موسكو في كتابه “الجوع من أجل الصحّة” 1976: “إن على كل إنسان أن يمارس الصّوم بالامتناع عن الطّعام لمدّة أربعة أسابيع كلّ سنة كي يتمتّع بالصحّة الكاملة طيلة حياته” (9).

هكذا يبدو أن رمضان هو من الشهور العظيمة التي تتعدد غاياتها ومقاصدها، والتي تعلم المسلم عديد العادات الجيدة التي يمكنها أن تجعل منه إنسانًا قويًّا وصالحًا فهو يجمع بين العبادات التي يرسخها من خلال تكثيف أمور العبادة من صلت وصدى وأذكار وزارة واعتمار وما إلى ذلك من الفضائل التي يتنافس فيها المسلمون على فعل الخيرات، وبين أعمال الدنيا من خلال تذكير المسلم بضرورة أن يكون متوازنًا في حياته من خلال تنظيم أكله وشربه وتنظيم وقته وشؤون حياته، فقد تجَمَّع في هذا الشهر العظيم ما تفرَّق في غيره من الفضائل والمزايا.

هوامش:

  • سليمان بن إبراهيم اللاحم: “” في: ” https://www.alukah.net“، تاريخ الاطلاع: 27 مارس 2023.
  • أخرجه أبو داود في سننه.
  • أخرجه النسائي في سننه.
  • أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2/ 725)، رقم: (2144).
  • عن موقع ويكيبيديا: https://ar.wikipedia.org/wiki/غزوة بدر، تاريخ الاطلاع: 30 مارس 2023.
  • أخرجه البخاري في صحيح.
  • عن موقع: https://www.bbc.com، تاريخ الاطلاع: 3 أبريل 2023.
  • انظر موقع: https://www.aljazeera.net، تاريخ الاطلاع: 3 أبريل 2023.
  • فتحي الشوك: “صوموا تصحوا”، في: https://www.aljazeera.net، تاريخ الاطلاع: 3 أبريل 2023.