الأطفال في عصر الثقافة الرقمية

في هذا العصر تتشابك الأحداث ويتشابك التاريخ، لا سيما مع تطورات التكنولوجيا الحديثة، ومن ثم تنحسر أشياء كثيرة وتقفز إلى السطح قيم جديدة. وقد غدت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم موضة العصر، ووسيلة التواصل الأساسية، والأكثر انتشارًا، بل إنها بدأت تحل محل التواصل الإنساني المباشر لمصلحة الانفتاح الافتراضي الواسع.

ويشير مصطلح الثقافة الرقمية إلى معطيات جديدة يفرضها عالم التطور العلمي والتكنولوجي، فقد وحدت هذه الثقافة شعوب العالم وجعلتها تتوق إلى تشكيل معرفة واسعة، وأصبح يطلق على هذا المجتمع الموحد تسميات مختلفة منها “مجتمع المعرفة”، و”مجتمع المعلومات”، حيث صارت المعرفة أهم مصادر التنمية، وصار إنتاج المعرفة من أهم مصادر الدخل القومي، وتوافر كم هائل من المعلومات مع توظيفها لصالح المجتمع. (فتحية شفيري، 2018)

وقد أوضح تقرير اليونسيف “حال الأطفال لعام 2017” أن الأطفال والمراهقين يمثلون ثلث مستخدمي الإنترنت على مستوى العالم، وأن الشباب ما بين 15 إلى 24 سنة هم الفئة العمرية الأكثر وصولاً للإنترنت؛ فعلى مستوى العالم، فإن نسبة 17% من تلك الفئة مُوصَّلون بالإنترنت مقابل 48% بالنسبة لمجموع السكان، وأنه في بعض البلدان، يكون معدل استخدام الإنترنت بين الأطفال دون 15 سنة مماثلاً للمعدل عند البالغين فوق 25 سنة، فقد صار استخدام الطفل للإنترنت أمرًا غاية في السهولة، خصوصًا مع توافر وانتشار الهواتف الذكية في أيدي الأطفال، والتي كرست كما يشير التقرير “ثقافةَ غرفة النوم”، حيث أصبح الوصول للإنترنت بالنسبة لكثير من الأطفال أمرًا أسهل وفرديًّا بصورة أكبر عن الماضي، وصاروا أقلّ خضوعًا للإشراف من قبل الكبار. (اليونسيف، 2017)

وأوضحت دراسة منظمة كومون سينس ميديا (2015) أن الأطفال في المرحلة العمرية ما بين ثماني سنوات واثنتي عشرة سنة يقضون ست ساعات يوميًّا في المتوسط على مواقع التواصل الاجتماعي. كما أظهرت دراسة أخرى لكومون سينس أن مقدار الوقت الذي يقضيه الأطفال البالغون من العمر ثماني سنوات فأقل على مواقع التواصل الاجتماعي تضاعف من 15 دقيقة يوميًّا في عام (2013) إلى 48 دقيقة يوميًّا في عام 2017. (طارق راشد، 2018، ص 176)

وفي ضوء تلك الأرقام يبرز السؤال “ما أثر الإسراف في استخدام المحتوى الرقمي على الأطفال؟”، وهذا السؤال هو مثار اهتمام الكثير من الدراسات. فعلى سبيل المثال وجدت دراسات حديثة أن وجود جهاز رقمي كالهاتف الذكي يمكنه الاستحواذ على التركيز وتعطيل الوظيفة الإدراكية سواء أكان الجهاز قيد التشغيل أم متوقفًا عن العمل. فإذا كان الطفل يؤدي اختبارًا وكان هاتفه الذكي مضبوطًا على نمط الطيران ومحفوظًا داخل حقيبة ظهره الموضوعة تحت طاولته فقد يتأثر تركيز الطفل ووظيفته الإدراكية على الرغم من ذلك بسبب قرب الهاتف. كما أن هناك دراسة أخرى أجرتها جامعة ستانفورد الأمريكية حيث قامت باختبار الاستخدام المتزامن لوسائط إعلامية متعددة، كمشاهدة التلفزيون أو تبادل الرسائل النصية أو التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي وعلاقته بالقدرة على التركيز وتحقيق أداء جيد في الواجبات المدرسية، ووجدت الدراسة أن من يكثرون من الاستخدام المتزامن لوسائط إعلامية متعددة وجدوا صعوبة أكبر في تكريس انتباههم إلى مهام معينة والتنقل بين المهام وتحديد العناصر الأساسية بين المهام.

وأوضحت دراسة جامعة شفيلد البريطانية أن استخدام وسائط التواصل الاجتماعي بين الأطفال يجعلهم أقل سعادة في الغالبية العظمى من جوانب حياتهم، بل إن قضاء مجرد ساعة واحدة بإمكانه أن يقلل من شعور الطفل بالسعادة الكلية في مجالات العمل المدرسي والمدرسة التى يرتادها ومظهره وأسرته وحياته بوجه عام بنسبة 14%. (طارق راشد، 2018، ص 176)

الآثار الإيجابية للثقافة الرقمية

تقدم مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت العديد من المزايا للأطفال تتمثل في: (عبد المجيد قاسم، 2018، ص 66)

1- الناحية التربوية والتعليمية: يسهم الإنترنت في تنمية شخصية الطفل وتوسيع أفكاره، ومداركه، وتطوير إمكاناته وقدراته المعرفية، والفكرية والتعبيرية، واللغوية. فقد أصبحت مصدرًا هامًّا تمده بالعادات والقيم والاتجاهات، بل منظومة تربوية متكاملة تمامًا إذا ما وظفت بشكل سليم.

2- الناحية التثقيفية والتعليمية: فالإنترنت تمثل وسيلة هامة لتطوير ثقافة الطفل، وأتاحت له التعرف على أحدث المعارف والاكتشافات، والاستفادة من خدمات المواقع الثقافية والمكتبات الإلكترونية، كما أدت دور إيجابي في عملية التعليم، وتزويد الطفل بخبرات متنوعة، وتعزيز المفاهيم الإيجابية حول القيم الثقافية والتعليمية الحديثة.

3- الناحية الانفعالية: يسهم الإنترنت بدور مهم في تهذيب انفعالات الطفل، ومعالجة بعض المشكلات النفسية، وتنمية فضائل الحوار والتفاعل، وتبادل الأفكار والآراء مع الأقران، وإشاعة أجواء البهجة والمتعة والتشويق، كونها تجمع بين المادة المسموعة والمرئية، وما يحمله هذا الجمع من الموسيقى واللون، والحركة المتواترة.

4- الناحية الاجتماعية: فالإنترنت ينمي مفهوم الحياة الاجتماعية لدى الطفل، ويساعده في عملية التكيف مع البيئة المحيطة به، واكتساب السلوكيات التي ترسخ علاقات اجتماعية سليمة، واكتساب القواعد الأساسية التي تنظم تلك العلاقات، إضافة إلى خدمات المراسلة والبريد الإلكتروني وإمكانية التصفح من أي مكان.

الآثار السلبية للثقافة الرقمية

مع قضاء الأطفال الكثير من الوقت أمام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لحد قد يصل إلى الإدمان، فإن هناك العديد من الآثار السلبية المرتبطة بالوقت الذي يقضيه الطفل، ونوعية المواد التي يتعامل معها وتتمثل في:

1- مشاهدة بعض البرامج والمسلسلات والأفلام التي تبث أفكار وقيم لا تتناسب مع طبيعة مراحله الطفولة وخصائصها، لاحتوائها على مفاهيم عقائدية أو فكرية غريبة عن القيم الدينية والثقافية، وما تبثه بعض المواقع من عنف، أو شذوذ أو انحرافات سلوكية، أو تكريسها لقيم سلبية، وغرس أفكار من نوعية أن العالم قائم على الصراعات، أو وجود حلول سحرية للمشكلات والمواقف.

2- المشكلات الصحية والنفسية كالاضطرابات الغذائية، وزيادة الوزن، والتعرض للإصابة باضطرابات ما قبل النوم وأثناءه أكثر من غيرهم، وزيادة معدلات المشكلات النفسية مثل سرعة الانفعال، والجنوح عن الواقع، والبرود العاطفي والتقلب المزاجي، والانعزال والانطوائية، والشعور بالخمول، والإرهاق، والتعب.

3- الآثار الاجتماعية السلبية لإدمان الإنترنت كتقليل فرص التواصل والحوار الأسري الطبيعي، وضعف اكتساب مهارات التواصل مع الآخرين، وتقليل فرص ممارسة الطفل للأنشطة الرياضية والثقافية والفنية التي يحتاجها النمو العقلي والفكري والاجتماعي.

4- زيادة فرص تعرض الطفل لممارسات ضارة كالتهديد أو الابتزاز، أو استغلاله استغلالاً غير مشروع.

كيف نتعامل مع العلاقة بين أطفالنا والثقافة الرقمية؟

لا ينبغي الاكتفاء بإلقاء اللوم على العولمة وثقافتها المنتشرة بصفة خاصة عبر الإنترنت والفضائيات وتحميلها مسئولية ما يحدث في المجتمعات العربية وفي أوساط الأطفال والشباب العربي من غزو ثقافي نوعي مكثف، لأن الأمر يتطلب دراسة الظاهرة بصورة موضوعية والبحث عن بدائل وقائية للتخفيف من حدة الظاهرة وتحويل بعض مكوناتها إلى عناصر إيجابية وممارسة ثقافة النقد والتغيير والمراجعة. (عبد الرازق الداوي، 2013)

إن من أهم واجباتنا تجاه أطفالنا هي أن ننمي التواصل بينهم وبين العالم الخارجي، ونتيح لهم فرص الانفتاح على الثقافات العالمية، وأن ندربهم على لغة الحوار والمشاركة وتفهم الرأي الآخر، لكي ينشؤوا مؤمنين بذواتهم، وقادرين على التكيف مع الأهداف الإنسانية المشتركة، ولعل الإنترنت هو أحد أفضل الوسائل لتحقيق هذه الأهداف، والوصول إليها.

ولا بد لنا في العالم العربي من التفكير في أوضاع أطفالنا واستخدامهم للتكنولوجيا الرقمية، والتصدي لما قد يحمله استخدام الطفل للتكنولوجيا من مخاطر، والاستفادة من إيجابيات التكنولوجيا الرقمية، ويمكن أن يكون ذلك من خلال تبني الدول العربية للسياسات والتشريعات والقوانين التي تحمي الطفل على شبكة الإنترنت، فقد آن الأوان لصياغة قانون يحمي الطفل، وخصوصيته، وعقاب كل من يحاول استغلال الطفل أو يؤذيه والإفادة في ذلك من القوانين المماثلة في دول العالم، وعلى الحكومات إلزام مزودي الإنترنت بإتاحة برمجيات لحماية الطفل من المواقع الضارة والمؤذية، وهي العملية التي يطلق عليها “فلترة المواقع”.

ومن الناحية الأخرى على الدول العربية العمل على إتاحة التكنولوجيا الرقمية بصورة أكبر، وبأسعار في متناول جميع الأفراد من مختلف الشرائح الاقتصادية والاجتماعية دون تمييز.

كما أنه يجب توعية الآباء والأمهات بمخاطر شبكة الإنترنت المتنوعة وكيفية تعويد أطفالهم على التعامل مع شبكة الإنترنت بصورة آمنة، وألا يتعامل الأطفال مع الغرباء على الإنترنت، ويمكن أيضًا أن يكون تعامل الأطفال خاصة في المراحل الصغرى بإشراف ومتابعة الوالدين، وتعويد الطفل على النقاش حول ما يجده من موضوعات في شبكة الإنترنت وكيفية التعامل معها. وعلينا تعويد أطفالنا على الموازنة بين الجلوس على الإنترنت، وبين الأنشطة المختلفة، وتشجيعه على القراءة والمطالعة، وممارسة هواياته الأدبية والفنية والرياضية، وتشجيعه على الاندماج والتفاعل الاجتماعي المطلوب، وتكوين علاقات اجتماعية جيدة، فضلاً عن مرافقته في النزهات والرحلات وزيارة المعارض وبعض النشاطات الأخرى.

المراجع

1- عبد المجيد قاسم (2018): الأطفال والإنترنت.. إيجابيات وسلبيات، مجلة الوعي الإسلامي، العدد (634)، ص ص 66-67.

2- عبد الرازق الداوي (2013): في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ص 172.

3- طارق راشد (2018): الوالدان وضرورة الانتباه لاستخدام الأطفال للمحتوى الرقمي، مجلة العربي، العدد (711)، ص 176-178.

4- فتيحة شفيري (2018): تأثير الثقافة الرقمية في المنظومة التربوية، مجلة العربي، العدد (711)، ص 172-173.

5- اليونسيف (2017): حال الأطفال لعام 2017: الأطفال في العصر الرقمي، نيويورك.