رمضان وإحياء الليل

ابنُ الرُّومِيِّ:

أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ العَبَّاسِ بْنُ جَرِيْجٍ، وقيل: جُورجِيْسُ، المعروف بِابْنِ الرُّوْمِيِّ، ولد بالعُقَيْقَةِ في بغداد، في الثاني من رجب عام واحد وعشرين ومئتين للهجرة (221هـ/ 836م)، وكان مولى لعبدِ الله بنِ عيسى، ولا يشكُّ أنَّه روميُّ الأصلِ، فإنَّه يذكرُهُ ويؤكِّدُهُ في مواضعَ من ديوانه، وكانت أُمُّه من أصلٍ فارسيٍّ، وهي امرأة تقية صالحة رحيمة، كما يتَّضِحُ من رثائه لها.

شاعرٌ كبيرٌ من طبقةِ بشَّارٍ والمتنبِّيِّ، شهدت حياتُه الكثيرَ من المآسِي التي تركَتْ آثارَها على قصائدِه، فتنوَّعَتْ بينَ المدحِ والهجاءِ والفخرِ والرثاءِ، وديوانُه من أضخمِ الدواوينِ العربيةِ.

توفِّيَ مسمومًا، ودُفِنَ ببغداد سنة ثلاثٍ وثمانينَ ومئتَيْنِ (283هـ/ 896م)، قال العقادُ: “إن الوزيرَ أبا الحسينِ القاسمَ بنَ عبيد الله بنِ سلمان بن وهب، وزيرَ الإمامِ المعتَضِدِّ، كان يَخافُ من هَجْوِهِ وَفَلتاتِ لسانِهِ بالفُحْشِ، فدَسَّ عليه ابنُ فِراشٍ، فأَطْعَمَهُ حَلوى مسمومةً، وهو في مجلِسِه، فلمَّا أَكلَها أحسَّ بالسُّمِّ، فقالَ له الوزيرُ: إلى أينَ تَذْهَبُ؟ فقالَ: إلى الموضِعِ الذي بعثْتَني إِليهِ، فقالَ لَهُ: سَلِّمْ عَلى والِدِي، فقالَ لَهُ: مَا طَريقِي إِلى النَّارِ!!

قال من الكامل:

فِطْرٌ تَوَسَّطَ يومُهُ الأُسْبُوعَا  وافَقْتَ فيهِ مِنَ السُّعودِ طُلُوعَا
وَاهًا لَهُ فِطْرٌ غَدا بِرَبيعِهِ   وربيعُكَ الغَدِقُ الحَيا مَرْبُوعا
فالنَّاسُ والأَنْعامُ طُرًّا قد غَدُوا   فِي المَرْتَعَيْنِ المَمْرَعَينِ رُتُوعا
وكأنَّ فيهِ من فِعالِكَ سُنْدُسًا   وكأنَّ فيهِ مِنَ الرِّياضِ قَطُوعا
ما أَفْرَحَ المَلْبُوسَ مِنْ أيَّامِنا   بِكَ، لا عُدِمْتَ، وَأَكْسَفَ المَخْلُوعا
تتحسَّرُ الأيامُ عَنْكَ، وَكُلُّها   تَشْكو فِراقَكَ آسِفًا مَفْجُوعا
رَحَلَ الصيامُ وشهرُهُ، وكلاهُما   لَهِجٌ بِذِكْرِكَ ما يُفِيقُ نُزُوعا
وَلَقَدْ تناجَتْ بالرُّجوعِ مُناهُمَا  لَوْ مُلِّكا بعدَ المُضِيِّ رُجُوعا
أَقْسَمْتُ بالشَّهْرِ الذي أَخْضَلْتَهُ   بالجودِ والتَّقوى نَدًى وَدُمُوعا
لَلَبِسْتَهُ لِبْسًا أَطابَ نَسِيمَهُ   يا ابنَ الأَطايِبِ مَحْتِدًا وفُرُوعا
وَخَلَعْتَهَ خَلْعَ العَروسِ شِعارَها   قَدْ رَدَّعَتْهُ مِنَ العَبيرِ رُدُوعا
أَعْبَقْتَهُ مِنْ طيبِ رِيحِكَ نَفْحَةً   كادَتْ تَكونُ ثَناءَكَ المَسْمُوعا
لِمَ لا يكونُ كذا؟ وَقَدْ أُلْبِسْتَهُ   فَلَبِسْتَ فيه سكينةً وخُشُوعا
وَكَدَدْتَ فيهِ بالبكاءِ مَدامِعًا   وَجَهَدْتَ فيهِ بالزَّفيرِ ضُلُوعا
وَرَفَدْتَ فيهِ كلَّ أَشْعَثَ بَائِسٍ   ما زالَ عَنْ طَلَباتِهِ مَدْفُوعا
أَحْيَيْتَ فِي الشهرِ المُبَارَكِ لَيْلَهُ   وَفَقَيرَهُ، وَقَتَلْتَ فيهِ الجُوعا
بِــ يَــدٍ إِذا قَسَتِ الأَنامِلُ فَجَّرَتْ   مِنْ كُلِّ أُنْمُلَةٍ لَها يَنْبُوعا
أَنْشَأْتَ، تَكْحَلُ بالهُجوعِ مَعاشِرًا  بَعْدَ السُّهادِ، وَما اكْتَحَلْتَ هُجُوعا
ما كانَ ليلُكَ مُذْ أَهَلَّ هِلالُهُ   إلا سُجُودًا – كلُّهُ – ورُكُوعا
وَطَوى نهارَكَ فيهِ صَومٌ طاهِرٌ   جَعَلَ المَآثِمَ مَحْرَمًا مَمْنُوعا
صومٌ غَدَتْ عَيْنُ الخَنَا مَطْروفَةً  فِيهِ، وَراحَ لِسانُهُ مَقْطُوعا
وَتَساجَلَتْ عَيْناكَ فِي آنائِهِ  وَيَداكَ صَوْبًا لا يزالُ هُمُوعا
جَعَلَ الإلهُ عَوارِفًا أَسْدَيْتَها   حُلَلًا عَلى ابْنِكَ في العُلا، ودُرُوعا
هَذي تُزَيِّنُهُ، وتِلْكَ تُجِنُّهُ  مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، أَحَمَّ وُقُوعا
وَاسْعَدْ أَبا سَهْلٍ بِعِيدِكِ نازِلاً  فَوْقَ الحَوادِثِ مَنْزِلًا مَرْفُوعا
في حيثُ تَلْقَى أَنْفَ مَجْدِكَ شامِخًا   وَيَرى عَدُوُّكَ أَنْفَهُ مَجْدُوعا
وَتَبِيتُ مِنْ قَرْعِ القَوارِعِ آمِنًا  وَيَبيتُ مَنْ يَهْوى رَداكَ مُرُوعا
أَضْحى أَبُو رَوْحٍ سَلِيلَكَ مَوْرِدًا  أَضْحى بنو الآمالِ فيهِ شُرُوعا
خِرْقٌ لهُ كَفٌّ يكونُ سَماحُها  كَرَمًا، إذا كانَ السماحُ وَلُوعا
مُتَكلِّفٌ فوقَ الطِّباعِ مَكارِمًا   سَمَّيْنَهُ المُتَكَلِّفَ المَطْبُوعا
لولاهُ لم تَلْقَ النَّوالَ مُفَرَّقًا  أبدًا، ولا شَمِلَ العُلا مَجْمُوعا
ما الطَّالبُ المَخْدوعُ طالِبُ رِفْدِهِ  وَوجَدْتُ طالِبَ شَأْوِهِ المَخْدوعا
أصبحتَ تحفظُ كلَّ مجدٍ ضائعٍ  حِفْظًا كحفظِكَ دِينَكَ المَشْرُوعا
وأراكَ نِلْتَ مِن الأمورِ أَجَلَّها  بَدْءًا، وَفُزْتَ بِخَيْرِها مَرْجُوعا