إن البحث عن الإنسانية بحث عن الكرامة والحرية والاحترام والتضامن، وغيرها من الأخلاق التي تؤسس الإنسانية بمفهومها العميق. وكل المآسي الاجتماعية المقلقة اليوم مصدرها غياب الإنسانية في تعامل الأقوياء مع الضعفاء، وتعامل الكبار مع الصغار، وتعامل الذكور مع الإناث… “وقد جاء الإسلام دين السماء على لسان الأنبياء السابقين وبخاصة النبي محمد عليه الصلاة والسلام يعزز كرامة الإنسان ويعلي من قدره ويرفع عنه الأصر والأغلال التي طرحتها عليه جهالات الأجيال المتعاقبة فنادى بحرية الإنسان وحارب الرق وهتف عمر بن بن الخطاب أمير المؤمنين في وجه عامله عمرو بن العاص «يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا». وقال صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم». وإذا كان الإسلام قد سخر كل ما في الكون لسعادة الإنسان وكرامته بصرف النظر عن أصله أو عرقه أو زمانه أو مكانه، فإن الإسلام من خلال نظرته العادلة الوسطية التي يعبر عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا» قد أكد أن إنسانية الإنسان تقوم في التوسط بين حاجاته المادية وحاجاته الروحية، بين مطالبه الفردية ووجوده الاجتماعي ففتح بذلك عين البشرية على الطريق الأقوم والسبيل الأسلم للفلاح في الحياتين الدنيا والآخرة على السواء.

إن التوسط في الإسلام يأتي متلازمًا مع مبدأ التيسير في ديننا الحنيف، وهما من أهم المبادئ الإنسانية التي ينبغي الالتفات إليهما والاهتمام بهما ذلك أن الإنسان كائن حي له طاقات محدودة لا يملك أن يتجاوزها وله نزعات وأهواء من الخطر الكبير تجاهلها أو إهمالها، ولذلك فقد كانت النظرة الإسلامية كما وردت في القرآن وفي الجامع الصحيح تركز على هذين المبدأين الإنسانيين العظيمين فتخاطب الإنسان بهما وتكلفه بأن لا يحيد عنهما أما بخصوص مبدأ التيسير فيقول تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر». ويقول: «فاتقوا الله ما استطعتم».

كثير من الناس يساهمون متعاونين من أجل إيجاد شقة لأفراد أسرة مشردة تسكن كهفًا أو مغارة، أو دنهما، يجري ذلك في شتى بقاع العالم.

أحيانًا تجد شيخًا طاعنًا في السن بجانب الطريق يتسول يطلب غذاء أو كساء، فيحسن إليه أبناء ليسوا أبناءه، وأحفاد ليسوا من أحفاده.

لكن بالمقابل تجد أبناء هذا العجوز قد غادروا البيت أو بمجرد أن شعروا بالقدرة على الاعتماد على الذات. والمؤسف له كثيرًا أن بعض الأبناء يجرؤون على إخراج أبويهم من المنزل الذي بنياه بعرق جبينهم في وقت هم بحاجة إلى الحنان والاحتضان.

حدث أن كنت في مدينة أتجول في أحد شوارعها فاسترعى انتباهي امرأة عجوز ذكرتني بإحدى جداتي، وجداتي كلهن عشن مع عائلتهن حتى وافتهم المنية.

اقتربت منها اقتراب الفضولي كي أسألها عن قصتها، فدمعت عيناها، وبعد أن مسحتها بطرف كُم قميصها أخذت تتحدث فجعلتني أعيش مأساتها بعمق.

قالت: أنا جدة أبنائي وأحفادي كالطيور، كانوا فراخًا، وحينما ترعرعوا واستطاعوا الطيران، طاروا في الأجواء العليا وتركوني في الحضيض، بعضهم تآمروا علي فأخرجوني من بيت زوجي ـ جدهم رحمة الله عليه ـ لم يعودوا يتحدثون عن جدة فرحت وزغردت عند ميلاد كل منهم. كل يوم أتساءل: لِمَ ولدت وفرحت، وأطعمت، وكسيت، ونظفت…؟ سخنت، وغطيت، وحاذرت البرد حتى لا يستبد بأجسامهم الصغيرة، وها أنت ترى، أعاني من الجوع، من البرد، من العطش، من العري، من الحفاء… أبكي، ثم أكفكف دمعي، وأقول: وما جدوى البكاء، ما الذي سأناله من دمعات وهي تتدحرج على وجهي الشاحب الهزيل.

كنت أستمع إلى المرأة العجوز، ولم أتمالك نفسي حتى ركعت أقبل رأسها وكأنها أمي وجدتي وأختي… بكيت لبكائها، وحزنت لحزنها، وتأسفت لأسفها…

فتَّشت في جيبي، وأخرجت ما به من دراهم، ودفنتها في كفها، أرادت أن تقبل يدي فقبلت أنا يدها… بكيت ثانية، وأنا أفكر في حقيقة إنسانيتنا، وهل كل إنسان إنساني.

أن تكون إنسانيًّا يعني أن تكون متقيًا، تخشى خالقك الذي جعل لك عقلاً تفكر به فتهتدي إلى ما يجعلك إنسانًا يستحق مكافأة أبدية لا تزول، إنها جنة الفردوس التي لن يخشى أحد في حضنها موتًا ولا ضياعًا.

فعلينا تعويد أنفسنا الالتزام بأوامر الله وشريعته كي نصير قدوة لغيرنا في الإنسانية.

يقول الشاعر الصوفي اليافعي:

نفوس البرايا كالمطايا يقودها إذا عودت كل شيء تطاوع
فنفسك عودها حميدًا من التقى وعلم وآداب لها الزهد رابع
وصبر وشكر والتوكل والسخا ومع ورع فقر به العبد قانع
وصدق وإخلاص وحسن استقامة وكن راضيًا فيما بك الحق صانع

فكما نقوي أبداننا بالرياضية يوميًّا، علينا تقوية نفوسنا بتربية روحية تبعد عنا نوازع الوحشية واللامبالاة بما يجري أمامنا من مكاره تضر بغيرنا فيعانون يائسين من إحسان يأتيهم منا ليجزموا بموت الإنسانية فينا.