الذكاء الاصطناعي والنزاهة العلمية

نما المجتمع البشري وتطور الإنسان ببطء عبر ملايين السنين حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن. وفي هذه المسيرة الطويلة اخترع البشر الكثير من الأشياء بناء على حاجتهم، من المحراث وحتى المركبات الفضائية. وعلى الرغم من أن الآلات مصممة لتقليد البشر، فإنها لا تستطيع ابتكار أي شيء بناء على إرادتها الخاصة، فكل ابتكاراتها موجهة ومصممة من قِبَل الإنسان وما يحتاجه.

لقد تعلم البشر وابتكروا الأشياء أثناء نموهم وتطورهم، لكن جاء الذكاء الاصطناعي وهو مختلف، حيث تتم تغذية الآلات بالبيانات بدلاً من أن تتعلمها أو تدركها مع الزمن. لذا، يمكن القول إنه لا يوجد في الذكاء الاصطناعي شيء اسمه التعلم من التجربة إلا ضمن نطاق محدود جدًّا ومبرمج مسبقًا.

برز الذكاء الاصطناعي كأولوية تكنولوجية عليا للشركات والمنظمات على مدى السنوات القليلة الماضية، مدفوعًا إلى حد كبير بتوافر البيانات الضخمة وظهور تقنيات جديدة وبنية تحتية متطورة. وذكرت الدراسات أن عدد المنظمات والشركات التي تطبق الذكاء الاصطناعي، نما بنسبة 27 بالمئة في السنوات الأربع الماضية.

الأبحاث المزيفة أصبحت تمثل مشكلة تزداد تعقيدًا وانتشارًا مرعبًا؛ فقد وجدت العديد من دور النشر العالمية، وخاصة الدار الشهيرة “تايلور آند فرانسيس”، دلائل عديدة على سوء سلوكيات البحث العلمي، بل كل البحوث في كل المجالات.. حتى إن سلوكيات سوء السلوك البحثي زادت في عام 2022 بمقدار عشرة أضعاف ما كانت عليه في عام 2019، وكانت تزييف وفبركة الأبحاث تقف وراء أكثر نصف هذه الحالات.

هناك من الناشرين من يستخدم برامج كشف التزييف البحثي، إلا أن هناك طرقًا أخرى يمكن الاستعانة بها للتأكد من أصالة البحث وخلوِّه من التزييف، قد يكون من بينها مطالبة الباحث بتقديم البيانات التجريبية الأوَّلية التي تم استخدَمها في البحث، وحبذا لو تكون مطبوعة على ورق مدموغ بعلامات مائية.

ولا عجب أن الذكاء الاصطناعي قادر على توفير مزايا تنافسية كبرى للشركات في سوق العمل، وهو مفيد أيضًا في إنشاء بنى تحتية أكثر كفاءة، وإحداث تأثير إيجابي على مناحي الحياة. لهذا السبب تعمل البلدان والحكومات على صياغة إستراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي لضمان عدم تفويتها، حيث يتمتع بالقدرة على تقديم نشاط اقتصادي عالمي إضافي بحوالي 13 تريليون دولار بحلول عام 2030، أو حوالي 16 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي التراكمي مقارنة.

قالت جامعة “كارديف” إنها واعية لموضوع استخدام الذكاء الصناعي في الأبحاث، ولكن اعترف طلاب جامعيون، بكتابة مقالات بمساعدة برنامج الذكاء الاصطناعي “شات جي بي تي”، وقال طلاب من جامعة “كارديف” إنهم حصلوا على تقييمات عالية للمقالات المكتوبة، باستخدام برنامج الدردشة الآلي هذا المدعوم بالذكاء الاصطناعي، والقادر على إنتاج ردود شبيهة بالردود البشرية وإنتاج أعمال أكاديمية.

قالت جامعة “كارديف” إنها تُراجع سياساتها، وستصدر إرشادات جديدة على مستوى الجامعة قريبًا؛ بعد أن قدّم “توم” مقالين يتكون كل منهما من 2500 كلمة، أحدهما بمساعدة روبوت المحادثة، والآخر بدونه. وحصل “توم” على المرتبة الأولى -وهي أعلى مرتبة يحصل عليها في الجامعة- عن المقال الذي كتبه بمساعدة الذكاء الاصطناعي.

وكشف طلب حديث تلقته جامعة “كارديف” ضمن نظام حرية المعلومات، أنه خلال فترة التقييم في يناير 2023، كانت هناك 14.443 زيارة لهذا البرنامج في موقع على شبكات النت الخاصة بالجامعة، في حين لم تكن هناك زيارات مسجلة قبل ذلك بشهر واحد. وعلى الرغم من زيادة الزيارات خلال فترة الامتحانات في يناير، اعتقدت الجامعة أنه لا يوجد ما يشير إلى أن الزيارات كانت لأغراض غير مشروعة.

ذكرت الجامعة: “تم تحديد أن معظم الزيارات تأتي من شبكة أبحاثنا، فمدرستنا لعلوم الكمبيوتر والمعلوماتية -على سبيل المثال- لديها اهتمام أكاديمي ببحث وتدريس الذكاء الاصطناعي”.

طالب جامعي آخر اسمه “جون”، اعترف باستخدام البرنامج لمساعدته على إنجاز مهامه، قائلاً: “لقد استخدمته عدة مرات منذ ديسمبر الماضي. أعتقد أنني استخدمته قليلاً في كل عمل أكاديمي أنجزته. لقد أصبح جزءًا من عملي، ومن المحتمل أن يستمر كذلك إلى أن أفقد إمكانية الوصول إليه”. وأضاف: “عندما بدأت في استخدامه لأول مرة، طلبت منه كتابة أشياء، مثل مقارنة نظرية متخصصة مع أخرى بطريقة أكاديمية وقد نجح في ذلك. إنه حقًّا أداة جيدة للتخلص من الهراء الذي يذهب إليه بعض المحاضرين في النظريات التي لا تحتاج في الواقع إلى التحدث عنها في المقالات. قد يستطيع أن يختصر حوالي 20 بالمئة من الجهد الذي سأحتاج إلى وضعه في مقال. أما بالنسبة لإمكانية افتضاح الأمر، فإني متأكد من أن تأثير الذكاء الاصطناعي في عمله لا يمكن اكتشافه.. لا أرى أي طريقة يمكن لأي شخص أن يميز من خلالها بين ما أنجزتُه بنفسي بشكل كامل، وعملي الذي استعنتُ فيه بالذكاء الاصطناعي”.

رغم كل هذا، يشعر “جون” بالقلق بشأن الوقوع في فخ في المستقبل؛ يذكر أنه إذا تم العثور على نسخ من اتصالاته مع شبكة الذكاء الاصطناعي، فإنه يخشى أن يتم سحب شهادته منه. يقول: “أنا سعيد لأنني استخدمتُها في السنة الأخيرة من شهادتي، وأشعر أن تغييرًا كبيرًا قادمًا إلى الجامعات عندما يتعلق الأمر بالمقررات الدراسية، لأنه من السهل جدًّا الغش بمساعدة الذكاء الاصطناعي”.

وقال متحدث باسم الجامعة: “على الرغم من عدم الإشارة إلى الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد، فإن الاستخدام غير السليم له سيتم التعامل معه من خلال سياسة النزاهة الأكاديمية الحالية لدينا”. نحن ندرك التأثير المحتمل لبرامج الذكاء الاصطناعي على تقييماتنا ودوراتنا الدراسية”. وأضاف: “الحفاظ على النزاهة الأكاديمية هو أولويتنا الرئيسية، ونعمل بنشاط على منع أي طالب من سوء السلوك الأكاديمي بأشكاله العديدة”.

إن عالم البحث العلمي قبل الذكاء الاصطناعي ليس ذات العالم بعده، فالتغير يطال كل شيء حولنا، ويصل إلى كل القطاعات ليغيرها بشكل نهائي، حيث يمكنه المساهمة في تحسين كل منتج. وفي الواقع فإن الذكاء الاصطناعي قادر على تحويل مستقبل البشرية للأفضل إذا ما أُحسن استخدامه.

هناك حدود لما يمكن أن يصل الذكاء الاصطناعي إليه وما لا يمكنه ذلك، مثل القدرة على التحليل والتفكير بالقياس كما يفعل البشر؛ حيث يستطيع الذكاء الاصطناعي معالجة معلومات أكثر من البشر، إلا أن هذا الذكاء لا يداني قدرة البشر على التفكير بالقياس، ويعتبر هذا النوع من التفكير المنطقي المبني على السبب والنتيجة، أعظم قوة للذكاء البشري، إذ يمكن للبشر التفكير في حلول لمشاكل جديدة قد تواجههم في الحياة، قياسًا على مواقف سابقة شبيهة حدثت في الماضي، ولعل هذه القدرة غائبة فعليًّا عن الذكاء الاصطناعي.

لقد خرج الذكاء الاصطناعي من مختبرات البحوث ومن صفحات روايات الخيال العلمي، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ابتداء من مساعدتنا في التنقل في المدن وتجنب زحمة المرور، ووصولاً إلى استخدام مساعدين افتراضيين لمساعدتنا في أداء المهام المختلفة.. واليوم أصبح استخدامنا للذكاء الاصطناعي متأصلاً من أجل الصالح العام للمجتمع.

ولحسن الحظ، إننا وصلنا إلى نقطة فريدة وغير مسبوقة في تاريخ البشرية، فنحن أمام حقبة جديدة تعرف باسم الثورة الصناعية الرابعة، هذه الثورة خلقت لنا فرصة كبيرة لإعادة تشكيل الطريقة التي ندير بها بيئتنا اليوم، حيث يتم تسخير قدرات الرقمنة والتحولات المجتمعية، من أجل حل المشاكل البيئية وإيجاد ثورة في مجال الاستدامة.

وإدراكًا لهذه الفرصة الفريدة، أعلنت كلٌّ من “مايكروسوفت” و”ناشونال جيوغرافيك” عن شراكة جديدة؛ للمضي قدُمًا في الأبحاث التي تدور حول التحديات الكبيرة من خلال استخدام قوة الذكاء الاصطناعي. أحد الذين حصلوا على منحة الابتكار في الذكاء الاصطناعي من أجل الأرض، هو “سولومون هسيانج”، حيث تركزت أبحاثه على فهم تأثير تغير المناخ على هجرة البشر في إفريقيا. ولقد استعان “سولومون” بـ1.6 مليون صورة جوية تاريخية جمعتها القوات الجوية الملكية البريطانية، التي استخدمتها طائرات تجسس أثناء الحربين العالميتين، من أجل مسح الدول التي كانت خاضعة للحكم البريطاني آنذاك. ونتيجة لذلك تم التقاط ملايين الصور للمشهد الأرضي على مدار القرن الماضي في جميع أنحاء إفريقيا.

إحدى الحاصلات -أيضًا- على منحة للبرنامج “الابتكار في الذكاء الاصطناعي من أجل الأرض” الدكتورة “ميرس لونجاهو”، وهي عالمة تغذية وعالمة أبحاث في المركز الدولي للزراعة الاستوائية. تستخدم “ميرس” الذكاء الاصطناعي لإيجاد حلّ لسوء التغذية وهي أحد أكبر مشاكل إفريقيا المعاصرة. قامت “ميرس” بتوظيف الذكاء الاصطناعي لدعم برنامجها التشخيصي “نظام الإنذار المبكر للتغذية”، حيث يقوم هذا البرنامج بالتنبؤ بأزمات التغذية قبل حدوثها.

أحد الجوانب الإنسانية أيضًا، استخدام الذكاء الاصطناعي الذي تم الاعتماد عليه بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، والذي استطاع عن طريق أدوات الذكاء الاصطناعي من تمكين ذوي الاحتياجات الخاصة بالحصول على الاستقلالية والإنتاجية، وهو نموذج قيد التطبيق حاليًّا.

تم تطوير التطبيق من قبل “ساكيب شيخ”، وهو مهندس برمجيات يدرك شخصيًّا معاناة فاقدي البصر، حيث فقدَ بصره في سن السابعة من عمره. وهو الآن يكرس نفسه لاستخدام التكنولوجيا، لبناء عالم أكثر شمولية بمساعدة تطبيقات “مايكروسوفت” للخدمات المعرفية والتعلم الآلي. صنع المهندسون تطبيق “الذكاء الاصطناعي لمساعدة المكفوفين”، الذي يمكن من خلاله قراءة النص بصوت عال، والتعرف على الأشخاص وعواطفهم، إضافة إلى وصف المشاهد اليومية. وعلى غرار مبادرات الذكاء الاصطناعي من أجل الأرض، سوف تسخر “مايكروسوفت” جميع جهودها وخدماتها لدعم المنظمات الخيرية، من خلال المنح المقدمة والشراكات الإستراتيجية والاستثمارات التكنولوجية.

إن الذكاء الاصطناعي اختُرع من أجل إمكانية الوصول إلى ما يسعد البشرية جمعاء وتعزيز قدراتهم، إلا أننا نعيش في فترة استثنائية غير مسبوقة من التاريخ، إذ أصبح لدينا -ولأول مرة على الإطلاق- حلول حقيقية لمعالجة بعض من أكبر المشاكل حول العالم. ولقد حان الوقت لجعل الذكاء الاصطناعي يأخذ دورًا رياديًّا إيجابيًّا في خدمة الإنسانية وإنقاذ كوكبنا.

(*) سفيرة بوزارة الخارجية المصرية / مصر.

المراجع

(1) Science Direct.

(2) Patrick Gensing. “Deepfakes: Auf dem Weg in eine alternative Realität?”. 2023-2.

(3) Schwartz, Oscar (2022). “You thought fake news was bad? Deep fakes are where truth goes to die”.

(4) Kharpal, 4-Arjun (2022)”It took us less than 30 seconds to find banned ‘deepfake’ AI smut on the internet”.