سلبية المشاعر عدوانية مقنعة

كثير من الناس أصبح يتحدث في كل شيء، وأحيانًا يتحدث بأشياء مؤذية دون أن يعي ذلك وهو ما يسمى في علم النفس بـ ” التمييز الخفي” أو نزعة المشاعر السلبية.

فهنالك عامل مربِك واضح وهو نزعة الشخصية للمشاعر السلبية (العصابية) فالأفراد ذوو الشعور السلبي العالي هم أكثر قابلية ليعتقدوا أنهم قد تعرضوا للتميز الخفي، كما أنهم معرضون لمشاكل صحية عقلية، فاحتمالية كون المشاعر السلبية هي المسؤولة عن التعرض للتمييز الخفي وللمشاكل الصحية العقلية احتماليةٌ معقولة خاصة أنه لا يوجد تعريف دقيق للتمييز الخفي فهو يُعرَّف بناءً على تفسيرات المستمع.

عُدَّ هذا الاضطراب حالة مزمنة، يصعب التعامل معها؛ إذ يعاني مريض اضطراب الشخصية العدوانية السلبية من الازدواجية تجاه ذاته والآخرين.

يعبِر مرضى اضطراب الشخصية العدوانية السلبية عن أفكارهم ومشاعرهم بطريقة سلبية أو غير مباشرة؛ وهو ما يخلق تناقضًا وازدواجية بين ما يتفوهون به وما يفعلونه.

إن مريض هذا الاضطراب مشاعره الحقيقية، ولا يعبر عنها بصدق، بل يراوغ ويماطل الآخرين ويتهرب من الحديث عما يزعجه، ويتفنن في إبراز مشاعره السلبية بطريقة غير مباشرة.

مثال: يختلق صاحب الشخصية السلبية العدوانية الأعذار المتكررة لتجنب الحديث مع أحد الأشخاص؛ كأحد أنواع التعبير عن غضبه واستيائه دون الإفصاح عما يشعر به.

ودائمًا ما ينكر مريض اضطراب الشخصية العدوانية السلبية غضبه، بل يزعم مرارًا وتكرارًا أنه بخير، ولكن يبدو الغضب جليًّا في سلوكياته وتصرفاته.

وفقًا لجمعية علم النفس الأمريكية؛ فإن “السلبية” في هذا الاضطراب تشير إلى المقاومة المستمرة التي ينتهجها صاحب الشخصية السلبية العدوانية لأفكار الآخرين ومقترحاتهم، والاتصاف بسلوكيات مغايرة لِما يتوقعه الآخرون منه، وبالطبع لا يعبِر مريض هذا الاضطراب عن ذلك مباشرة.

يواصل الشخص المصاب بهذا الاضطراب السلوك السلبي العدواني تجاه الآخرين على الرغم من قدرته على التكيف، وتعلم سلوكيات إيجابية جديدة.

عادة ما يؤثر اضطراب الشخصية العدوانية السلبية سلبًا في العلاقات الاجتماعية، والعمل، وغيرها من مناحي الحياة المختلفة. 

العلاج النفسي ليس هواية

تعد الشخصية السلبية العدوانية عبئًا على من يتعامل معها؛ فمن الصعب أن تتعامل بأريحية مع من لا يعبر بصدق عما يشعر به تجاهك، بل يراوغ ويتفنن في التعبير عما يشعر به بطريقة سلبية… تؤذي ولا تنفع!

كما ناقش لوكيانوف وهايدت في كتاب: تدليل العقل الأمريكي أن التدريب حول التمييز الخفي قد لا يهيئ الأشخاص للتفاعل مع بعضهم باحترام (كما اُفترض أنه سيفعل) لانتهاز الفرص وتصيد الإهانة في كلمات الآخرين.

لقد صرنا جميعًا حاذقين في لغة العلاج النفسي، وسرعان ما نقوم بتشخيص أصدقائنا والآخرين، وحتى المقربين منا لم يسلموا من محاولة تصنيف عللهم النفسية. ليس من المستغرب إذن حين قام الأمير هاري بهذه العملية مع زوجته ميجان ماركل، في سلسلة من خمسة أجزاء حول الصحة العقلية شارك في إنتاجها أوبرا وينفري.

وبعد فحص الحالة الذهنية لزوجته التي راودتها “أفكار انتحارية” أثناء حملها، أن يقدم الأمير هاري هذا التشخيص: “الشيء الذي منعها من متابعة هذه الأفكار، هو إدراكها مدى المأساة والظلم الذي كنت سأتعرض له بعد كل ما حدث لأمي [الأميرة ديانا] حيث كنت سأضطر مرة أخرى لفقدان امرأة عزيزة علي، لكن هذه المرة سأفقد معها طفلي”.

هذا تشخيص سطحي إلى حد ما؛ حيث يعرف أي شخص مطلع على حقيقة الانتحار أن الانتحار هو فكرة تنشأ في مكان مظلم داخل نفس الفرد، بعيدًا عن أي اعتبارات لما هو ظالم أو عادل بالنسبة لأحبائه.

ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالصحة العقلية، فإننا نحب جميعًا أن نلعب دور “أبو العريف”، أو المتعالم الذي يظن أنه يعلم كل شيء. ستسمع دائمًا عبارة “على طيف” كذا وكذا من الأمراض؛ حيث تُشخّص الأمراض والعلل النفسية وتناقش في حفلات العشاء، تمامًا كما لو كان كل المشاركين حاصلين على رخصة مزاولة العلاج النفسي.

النرجسية

مصطلح شائع آخر هو النرجسية؛ فكل شخص أعرفه مقتنع بأن كل شخص يعرفه لديه نوع أو آخر من النرجسية. لدى صديقة لا تتحدث إلا عن نفسها، وعن حياتها المهنية، وأطفالها الرائعين؛ وفي نفس الوقت ترمي – بانتظام- صديقتها المقربة السابقة بأنها تعاني من “نرجسية مطلقة”، لأنها تحدثها دائمًا عن نفسها وعن حياتها المهنية وأطفالها الرائعين!

نعم، يتحدث الناس عن أنفسهم طوال الوقت، ثم يقاطعون ذلك ليسألوا سؤالاً اعتياديًّا هو: كيف حالك؟، وذلك قبل العودة بسرعة إلى موضوعهم المفضل: أنفسهم.

هذا أمر مثير للسخط؟ نعم. هل هذه هي النرجسية؟ لا؛ فالانشغال بالنفس ليس هو النرجسية. النرجسي هو الشخص الذي تحول انشغاله بنفسه إلى هاجس ذاتي؛ إنه يطلب اهتمامك وحبك وتفانيك المستمر، ولا يعطيك شيئًا في المقابل.

لقد لاحظت أنه عندما تنتهي العلاقة بين اثنين بشكل سيئ، فبالنسبة لكل طرف ليس ذلك بسبب سلسلة معقدة من العوامل التي يتحمل فيها كلاهما درجة معينة من المسؤولية. لا، بل ما يقال عادة هو أن العلاقة لم تنجح لأنه أو لأنها “نرجسي/نرجسية”. فالقول بأنك فشلت في علاقتك مع شخص نرجسي يبدو أكثر جدية – وأكثر تعقيدًا من الناحية النفسية – مما لو قلت أنك وقعت مع شريك أحمق مثلاً.

لا يقتصر الأمر على إلصاق الأمراض النفسية بالأشخاص الآخرين بشكل اعتباطي، ولكن يسعد الأشخاص بتشخيص أنفسهم ببعض هذه الأمراض؛ فقد قال لي أحد الأصدقاء “أنا عصابي”؛ وقال آخر: “أنا مصاب بالتوهم المرضي hypochondriac”، ولدي ثلاثة أصدقاء مصابون بالوسواس القهري، واثنان يعانيان من الاضطراب ثنائي القطب، وآخران يعانيان من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، وآخر مدمن جنس.

قد يكون لديهم بالفعل مثل هذه الحالات، ولكن – باستثناء المصاب بالعصاب – وكلهم لم يشخص أيًّا منهم طبيب أو معالج نفسي مؤهل. ويبدو الأمر كما لو أنهم ذهبوا إلى مركز تسوق الأمراض العقلية، ولم يُرضِ غرورهم سوى الأمراض ذات الأسماء الجذابة؛ لذا فإن ما كان يطلق عليه اسم الشعور بالحزن أو البؤس – وكان يعتبر جزءًا طبيعيًّا من الحياة – يسمى الآن بـ “الاكتئاب”، وصار يحتاج إلى العلاج بالأدوية. لسوء الحظ، ولا يعرف الفرق بين هذا وذاك سوى الأشخاص المصابون بالاكتئاب “الحقيقي” الذي يعيقهم عن متابعة حياتهم بشكل طبيعي.

لقد صارت التشخيصات النفسية – التي وُضعت أول ما وضعت لتسهيل العلاج – تخضع لنفس نزوات الموضة، تمامًا كما لو كانت أسماء لعلامات تجارية براقة.

منذ حوالي خمس سنوات، مازحني أحدهم قائلاً إن كونك ثنائي القطب قد أصبح موضة شائعة كما كان الحال في السابق؛ فالأشخاص الذين يتعرضون لتقلبات مزاجية جذرية، لم يعد بالإمكان القول إنهم يعانون من تقلبات الحياة العادية؛ بل يقولون إنهم “ثنائيو القطب” ويفتخرون بذلك.

ثم جاء دور الوسواس القهري، وهي حالة ارتبطت ذات مرة في ذهن الجمهور بـ (هوارد هيوز) المجنون بلحيته الكثيفة. وفجأة بدأ الأشخاص الذين يعانون من الوسواس القهري بالظهور في كل مكان! سألت أحد الأصدقاء ذات مرة لماذا يعتقد أنه مصاب بالوسواس القهري، فقال لي: “في كل مرة أذهب فيها إلى الحمام، يجب أن أغسل يدي. أشعر أنني مكره على ذلك”، فقلت: “لا، إنها العادة”.

تأثير الإغلاق المصاحب لأزمة كورونا

يجب أن أوضح أنني لا أتحدث عن الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية خطيرة تسبب معاناة رهيبة؛ أنا أشير هنا إلى أقلية صغيرة من الطبقة المتوسطة والعليا الذين يعيشون في المدن. إنهم أحفاد البرجوازية الراقية في أوروبا، الذين اعتبروا – في القرن التاسع عشر- ظروفًا مثل الاكتئاب أو الاضطرابات العصبية علامة على الإحساس الراقي، والعقلية الإبداعية.

لقد كانوا يزورون بانتظام المصحات الأوروبية، والمنتجعات الصحية الأنيقة خارج لندن، حيث يمكنهم التباهي بأمراضهم بين الناس العصريين. أما في القرن الحادي والعشرين، عندما أصبح التحليل النفسي سائدًا، توجهوا إلى مراكز الاستشارات النفسية: كمركز فرويد في فيينا، ويانج في زيورخ.

أعرف العديد من الأشخاص الذين يتعاطون الأدوية أو يخضعون للعلاج، هم أشخاص لديهم وظائف جيدة، وأصدقاء، وحققوا درجات مختلفة من النجاح، ومع ذلك فهم غير سعداء للغاية.

أحد التفسيرات الواضحة لذلك هو تأثير الإغلاق المصاحب لأزمة كورونا على صحتنا العقلية. لكن الناس كانوا بائسين قبل الجائحة، وبعد هذا التعليق لكافة الأنشطة، أراهن أنهم سيكونون بائسين مرة أخرى بعد زوال الجائحة.

وفي الحقيقة، لا أعرف أي شخص يصف نفسه بأنه سعيد، أو حتى أنه راضٍ. ينطبق هذا بشكل خاص على الشباب، الذين لا تكون السعادة بالنسبة لهم متماشية مع السائد، أو لا تمثل بالنسبة لهم شيئًا يجذب الانتباه.

إن إرث الرومانسية في القرن التاسع عشر، والثقافة الشعبية في القرن العشرين تعني أن الأشخاص السعداء هم أناس مزيفون، “أناس سعداء من الخارج فقط”، على حد تعبير العالم REM وعلى النقيض من ذلك، يُنظر إلى الألم على أنه علامة على الأصالة ونقاء الروح.

إن إغراء الانضمام إلى موكب الجرحى والبائسين، وإطلاق المصطلحات النفسية لرفع مستوى الدراما التي تثيرها الأمراض الشائعة، صار منتشرًا أكثر من أي وقت مضى؛ إنه يمنح معاناتك – مهما كانت صغيرة – أهمية اجتماعية، ويضفي على حالتك سلطة أخلاقية، لا توفرها لك الكلمات العادية التي تعبر عن محنتك.

ومن ثَم، لم يعد كافيًا أن يكون الشخص غير سعيد أو مكتئب بعمق؛ حيث تحتاج معاناته إلى سرديّة تضم الأفكار الانتحارية، فالتفكير في الانتحار – الذي ينتاب الكثير من الناس، والذي غالبًا ما يكون تفكيرًا عابرًا – ليس مثل أن تكون لديك أفكار انتحارية؛ فهذه الأخيرة تجعل بؤسك يبدو أكثر أهمية ويثير المزيد من التعاطف.

أنا لا أحاول التقليل من شأن وضع أولئك الذين يعانون من صحة نفسية سيئة؛ لكن هذه قضية مهمة للغاية ولا ينبغي أن تكون مادة يستخدمها النشطاء والمشاهير.

———————————————————————————————

 المراجع:

*Colombetti, Giovanna from affect programs to dynamical discrete emotions”، Philosophical Psychology،

Ekman, Paul (2009) ، “An Argument for Basic Emotions”، Cognition and Emotion *

Schlosberg, H. (2010) ، “Three dimensions of emotion”، Psychological*

 Posner, Jonathan؛ Russell, J.A.؛ Peterson, B. S. (2020) ، The circumplex model of affect: An integrative approach to affective neuroscience, cognitive development, and psychopathology”، Development and Psychopathology       

A comparison of dimensional models of emotionMemor؛ (Talerico, J.M. (2021*