العزاء والتعزية في التراث الأدبي العربي

الموت كما جاء في خزانة الأدب للبغدادي: “دويهية تصفر منها الأنامل (المراد من الأنامل الأظفار، فإن صفرتها لا تكون إلا بالموت)، وتعصر القلوب ويهتز بها الكيان، ففقد عزيز يشل التفكير، ويستوجب المساواة، ويتطلب العزاء”. ولهذا جاء العزاء محتفىً به في التراث، تعددت صيغه، واختلفت شعبه، وأبدع في القول فيه القائلون، وتفنن الفصحاء، فجاءوا بما يدهش، هؤلاء غرفوا من معين الفكر الذي لا ينضب، وأسسوا قولهم على ما يعرفونه مما يجول في داخل نفس الحزين، فحاولوا أن يأتوا بما ينطلق من ذلك، فصار قولهم بول، أزاح من كاهل الحزين حزنًا مخيمًا أو خفف وطأته، والمعزي، وهو في موقف يسمح له بالتفكير كان قادرًا على صياغة ما يأتي بالقبول، وتوالي العزاء بصيغه المختلفة، من أناس متعددين، لا بد أن يؤثر التأثير المقصود.

العزاء لغة: الصبر، والتعزية: التصبر، ومعناها: الحمل على الصبر بذكر ما يسلي المصاب ويخفف حزنه ويهون عليه مصيبته.

والتعزية إحدى الآداب الإسلامية التي من شأنها توثيق الروابط الأخوية بين أعضاء المجتمع وتقوية الإحساس المشترك بينهم وتخفيف مصيبة الفقد، فلم يؤثر عند شعراء الجاهلية -الذين هم لسان المجتمع ووسائل إعلامه في ذلك الوقت- تعزية بعضهم لبعض في أشعارهم وإنما كان الشاعر يجتر آلامه ويعزي نفسه بنفسه بإظهار التجلد خشية شماتة الشامتين لذلك لم يعرف العرب في جاهليتهم إلا الرثاء حيث تحتل المراثي مساحة كبيرة من ديوان الشعر الجاهلي على حين لم تحظ التعازي من ذلك بأدنى نصيب فالرثاء في حقيقته بكاء على الميت وتحسر على فراقه، ومن أهم أهدافه تحفيز الهمم والعزائم على الأخذ بثأره- إذا كان قتيلاً- أما التعازي فإنها على خلاف ذلك فهي تنطوي على تهوين المصيبة وتخفيفها على المصاب ودعوته إلى التغلب عليها بالصبر والسلوان.

والعزاء عند الناس يقترن بمواساة أهل المتوفَّى في العادة، وفي الأغلب، والعزاء له مظاهر مثل العادات، بل هي جزء منها، وشعبه من شعبها، تختلف باختلاف الشعوب، ومللهم، ونحلهم. والعزاء في فقد عزيز شعبة من شعب العزاء، وليست أهم شعبة فيه، إنما الأساس هو التعزية في أمور أخرى، في المال عند فقده، أو عند خسارة محدودة تقع فيه، وتأتي عن زرع يصاب بضرر، وحيوان بنفق، فأنت تتعزى عندما ترى شخصًا يعاني مثل ما تعاني منه، أو أشد. لهذا يعمد المعزون إلى تخفيف المصاب أيًّا كان بالمقارنة بين ما حدث، وما كان يمكن أن يحدث، ويحمدون الله في كل أمر جلل، مهما كبر، على أن الله لطف، فلم ينزل بهم ما هو أشد منه، وفي هذا أمل في أن يقتنع المنكوب، أو المصاب، بما يقوله المعزي.

فلن نستقصي كل ما يتعلق بالعزاء والتعزية استقصاء العالم الباحث ولكننا سنستقصي بعض أقوال وأشعار العرب في تراثهم الديني والأدبي عن العزاء والتعزية.

في القرآن الكريم:

قوله تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى” (المائدة: 2)، فالتعزية مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله …” (آل عمران: 110)،

وقوله تعالى: “ولنبلونكم بِشيء من الخوف والجوع ونقص من الأَموال والأنفسِ والثمرات وبشر الصابرين، الذين إِذا أصابتهم مصيبة قَالوا إنا لله وإِنا إِليه راجعون، أولئك عليهِم صلوات من ربهِم ورحمة وأولئك هم المهتدون” (البقرة155-157)،

وقوله تعالى: “قل لن يصيبنا إِلا ما كتب اللهُ لنا هو مولانا وعلى اللهِ فليتوكل المؤمنون” (التوبة: 51)،

وقوله تعالى: “كل نفس ذآئقَة الموت وإِنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عنِ النار وأدخل الجنةَ فقَد فاز وما الحياة الدنيا إِلا متاع الغرور” (آل عمران، 185)،

وقوله تعالى: “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” (الرحمن: 26-27)

في السنة المطهرة:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة” (رواه ابن ماجه 1601)،

وقال: “من عزى ثكلى كسي من رداء الجنة” (رواه الترمذي3/ 385).

وقال أسامة بن زيد: “أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم تقول: إن ابنًا لي قبض فأتنا، فأرسل صلى الله عليه وسلم يقول: إن لله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمي فلتصبر وتحتسب” (رواه البخاري 1482)،

وقال: “ما يُصِيبُ الْمُسْلِمَ من نصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حزن ولاَ أَذًى ولاَ غمٍّ، حتى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفر اللَّه بها من خطَايَاه” (متفق عليه).

في التراث الأدبي العربي:

عزى علي بن أبي طالب عنه الأشعث بن قيس في ابنه فقال: إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم وإن تصبر ففي الله خلف من كل هالك واعلم أنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور، سّرك وهو بلاء وفتنة وحَزَنك وهو ثواب ورحمة.

وقال عمر بن عبد العزيز: ما أحسن تعزية أهل اليمن: لا يحزنكم الله، ولا يفنيكم، وأثابكم ما أثاب المتقين، وأوجب لكم الصلاة والرحمة.

وقال الفضيل بن عياض لرجل فقد ولده: يا هذا أرأيت لو كنت وابنك في سجن فأفرج عن ابنك قبلك أوَما كنت تفرح؟ قال: بلى، قال: فإن ابنك قد خرج من سجن الدنيا قبلك. فسرى عن الرجل ودعا بطعام ليأكل.

ودب المرض في رجل عروة بن الزبير فقطعها، ثم قدم المدينة ونزل منزله بالعقيق، فبلغه أن ولده محمدًا قُتل، فقال: اللهم أخذت عضوًا وتركت أعضاءً، وأخذت ابنًا وتركت أبناءً، فإنك إن كنت أخذت لقد أبقيت، وإن كنت ابتليت لقد عافيت. فعاده عيس بن طلحة فلما رأى رجله قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا منك ما كنا نحتاج إليه منك: رأيك وعلمك. فقال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك.

وفي زمن الخليفة المعتصم أصابت وصيف التركي والي الشام مصيبة، فركب إليه محمد بن عبد الملك الزيات فعزاه بأخبار وأشعار وأمثال. ثم أصيب الزيات بمصيبة فركب إليه وصيف وقال: يا أبا جعفر، أنا رجل أعجمي لا أدري ما أقول، ولكن انظر ما عزيتني به ذلك اليوم فعز به نفسك الآن. فاستظرف الناس كلامه.

وعزى أعرابي رجلاً فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها.

وقيل: إن أعرابيًّا مات له ثلاثة بنين في يوم واحد فدفنهم وعاد إلى مجلسه فجعل يتحدث كأنه لم يفقد أحدًا فلاموه في ذلك فقال: ليسوا في الموت ببديع ولا أنا في المصيبة بأوحد ولا هوى للجزع فعلام تلمونني.

وقال الأصمعي مررت بأعرابية، وبين يديها فتى في السياق (يحتضر)، ثم رجعت، ورأيت في يدها قدح سويق تشربهن فقلت لها:

ما فعل الشاب؟

قالت: واريناه

فقلت: فما هذا السويق؟

فقالت: على كل حال يأكل القوم زادهم على البؤس والبلوى وفي الحدثين.

وبلغ الشافعي أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعًا شديدًا، فبعث إليه الشافعي يقول: يا أخي عزِّ نفسك بما تعزِّ به غيرك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك واعلم أن أمض المصائب فقْد سرور وحرمان أجر فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر، ألهمك الله عند المصائب صبرًا، وأجزل لنا ولك بالصبر أجرًا.

وقال علي بن أبي طالب معزيًا عمر بن الخطاب:

إنا نعزيك لا أنا على ثقة  من الحياة ولكن سنة الدين
فلا المعزَّى بباق بعد ميتة  والمعزِّي وإن عاشا إلى حين.

ولما توفي العباس أحجم الناس عن تعزية ولده عبد الله إجلالاً له وتعظيمًا حتى قدم رجل من البادية يقول:

اصبر نكن بك صابرين وإنما صبر الرعية عند صبر الرأس
خير من العباس صبرك بعده والله خير منك للعباس.

فكان ذلك خير عزاء

وقال أبو تمام:

وقال عليّ في التعازي لأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم
أتصبر للبلوى عزاء وخشية فتؤجر أو تسلو سلو البهائم؟

وقال ابن النبيه في أبيات مشهورة يتبادلها الناس في مواقف العزاء، يُصبِّرون بها أنفسهم وغيرهم من المكلومين بالموت، ويستمسكون بها في مواقف فجأة الرّدى، وعصفه بحياة البشر:

الناس للموت كخيل الطراد فالسابق منها الجياد
والله لا يدعو إلى داره إلا من استصلح من ذي العباد
والموت نقاد على كفه جواهر يختار منها الجيادْ
والمرء كالظل ولا بد أن يزول ذاك الظل بعد امتداد
لا تصلح الأرواح إلا إذا سرى إلى الأجساد هذا الفساد
أرغمت يا موت أنوف القنا ودست أعناق السيوف الحداد
كيف تخرّمْتَ عليا، وما أنجده كل طويل النجاد
مصيبة أذكت قلوب الورى كأنما في كل قلب زناد.

وقال الشاعر معزيًا ابن عم له في والده:

وأن أخاك الكاره الورد وارد وأنك مرآي من أخيك ومسمع
وأنك لا تدرى بأية بلدة صداك ولا عن أي جنبك تصدع
أتجزع إن نفس أثارها حمامها فهلا التي بين جنبيك تدفع.

وقال الشاعر:

لا بد من فقد ومن فاقد هيهات ما في الناس من خالد

وكتب شاعر إلى أولاد صديقه           يعزيهم ويسليهم في والدهم فقال:

فلو كان فيض الدمع ينفع باكيًا لعلمت غرب الدمع كيف يسيل
فإن غاب بدر فالنجوم طوالع ثوابت لا يقضى لهن أفول
يغاث بها في ظلمة الليل حائر ويسري عليها بالرفاق دليل

وقال شوقي:

خلقنا للحياة وللممات ومن هذين كل الحادثات
ومن يولد يعش ويمت كأن لم يمر خياله بالكائنات
هي الدنيا. قتال نحن فيه مقاصد للحسام وللقناة.

وختامًا:

قيل: لا بد للمحزون من سكون، إما أن يسكن عزاء، أو يسكن إعياء، فحقيق بالعاقل أن يسكن تعزيًا، كما قال محمود الوراق:

إذا أنت لم تسل اصطبارًا وحسبة سلوت على الأيام مثل البهائم

وكما قال أبو تمام:

أتصبر للبلوى عزاء وحسبة فتؤجر أم تسلو سلو البهائم.