إن المعنى الذي نقصده من “الكينونة الذاتية” هو إبراز هويتنا الداخلية المنسوجة من ميراث حضارتنا الذاتية وثقافتِنا الذاتية، وجعلُها “المحورَ” الذي ندور حوله.
فلربما يَفهم بعضُ الأوساط في أيامنا هذه كلمةَ “الذاتية” على أنها العروض الفلكلورية التي لا علاقة لها بالجذور “المعنوية” لأمتنا، و”الغرائزُ” التي تطفح حينما تحس الكتل البشرية بالحاجة إلى إشباع نزواتها “الجسمانية”، والمراسيمُ التي تقام في مناسبات الأكل والشرب والأعياد والأعراس.
إن معنى “الكينونة الذاتية” إبراز هويتنا الداخلية المنسوجة من ميراث حضارتنا الذاتية وثقافتِنا الذاتية، وجعلُها “المحورَ” الذي ندور حوله.
لكننا نقصد من تعبير “الذات” معنى أوسع وأشمل وأعمق؛ فهي “ظاهرة” أجرت فاعليتها في كل شرائح المجتمع، وتغذت من ذاكرة الأمة وشعورها ووجدانها على مر الزمان إلى أن وصلت إلى عصرنا هذا، وانعكست على مشاعر الأمة وأفكارها ولسانها وتصوراتها الفنية وتمثلت فيها، وعشناها في أعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا باعتبارها أهم عمق من أعماق الحياة في كل أوان؛ فنحن نحس ونشعر بها في كل وحدة من وحدات الحياة، وفي كل صفحة من صفحاتها وكل مرحلة من مراحلها، وفي كل محطة من محطاتها؛ من الرعاية التي نلقاها في أحضان أمهاتنا إلى سلوكيات أجدادنا المشبعة بروح الأبوة الحانية التي تعكس طبيعتنا الذاتية.. ومن طبع برامجنا التربوية ومضامينها بروحنا الذاتية إلى نفخ المربي لهذه الروح بأكمل وجه.. ومن أشكال الطهي في مطابخنا إلى تصرفاتنا في حقولنا ومزارعنا.. ومن قيامنا وقعودنا في مكاتبنا إلى أخلاقياتنا المهنية.. ومن أساليب كلامنا وكتابتنا إلى علاقاتنا بالآخرين.
قد لا يُدرِك البعضُ على المدى القريب الفوائدَ العملية أو الاجتماعية للعيش في أجواء “محور الذات”. لكن من الطبيعي والبدهي أنه على المدى البعيد وبالإصرار عليه سوف تبدو الأهمية الحيوية له في مراحل التقدم كلها.
علينا في هذا السياق أن نواصل السير في إطار ديننا وتراثنا وأعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا، مع أخذ ما يستجد من تفسيرات الزمان بعين الاعتبار. وبمرور الزمان ستكون قيمنا الذاتية جزءًا لا يتجزأ من طباعنا. وما نقتبسه من الخارج سيصطبغ بصبغتنا وسنتبناه فيكون لونا مهما من ألوان الخطوط في نسيج أطلسنا الذاتي؛ الفكري والثقافي.
المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص: ٢٣-٢٤، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١١، الطبعة الثانية، القاهرة
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.