تدريب الأجيال على الخروج من ضيق البدن إلى سعة الروح والكون

إن أنجع الأمور وأجداها في بناء الجيل الحاضر هو تيسير تنقلهم بين عوالمهم الداخلية وحقائق الوجود بتحفيز عزم التفكر المنظم لديهم، وتحبيبُ الإيمان والتعلم والتمحيص والتفكير إليهم بتدريبهم على مطالعة الآفاق والأنفس ككتاب مفتوح.

علينا أن نقدم إلى آفاق مداركهم وعقولهم تلك التصوراتِ المذكورةَ بالوسائل المرئية والمسموعة، وأن ننقلهم إلى عوالم أرحب عن طريق إنقاذ أرواحهم من السجن البدني الضيق. ثم إزالة الكدر والقسوة من أرواحهم، وإيقاظ قلوبهم المتأججة شوقا إلى الآفاق الماورائية على أجمل التطلعات الإنسانية وأرقها وأخفاها وأكثرها سحرا ودلالا. وإذا نجحنا في ذلك فسنكون قد بشرناهم بالانبعاث من جديد.

إن أنجع الأمور وأجداها في بناء الجيل الحاضر هو تيسير تنقلهم بين عوالمهم الداخلية وحقائق الوجود وتدريبهم على مطالعة الآفاق والأنفس ككتاب مفتوح.

إن الأرواح التي لم تكتسب خفة بالتصفية بالايمان والمعرفة والمحبة لن تَقْدر أبدا على التحليق في سماواتِ ما بعد الأفق. بل دع التحليق في سماوات ما بعد الأفق، فتلك الأرواح الجائعة لا تنفك عن التلوث بالرغبات الدنيوية، فتمتلئ قلوبهم بالأحقاد وتطفح بالكراهية، ويقع نظامُ الروح أسيرا في قبضة جهاز النفس، ولا يزيدون على الأكل والشرب والنوم والجلوس والقيام، فيغدون عبيدًا للبدن يأبون الانعتاق!

إن الحقيقة الفريدة التي يتلقاها روح الإنسان من كل من الإيمان والمعرفة وتعلقِ القلب بالله هي المحبة، أما الحقد والكراهية وجوانب الضعف البشري فتزول -حتما- بحلول هذه القيم السامية. أجل، إن معاني الإيمان والمعرفة والمحبة توحد بين الإنسان والكون، وفي الوقت عينه تنجيه من عذاب الكثرة وآلامها، فتذيب وحدته ووحشته الجوانية في إكسيرِ “معية” الحق تعالى، فتحوِّل حياتَه إلى لذة أبدية ونشوة خالدة تجعله يرتشفها كأسًا بعد كأس.

الحقيقة الفريدة التي تتلقاها روح الإنسان من الإيمان والمعرفة وتعلقِ القلب بالله هي المحبة، أما الحقد والكراهية فتزول بحلول هذه القيم السامية.

إن الأجيال المنطلقة إلى الغد المجهَّزةَ بهذا الجهاز والمزودةَ بهذا الزاد، تنتشر وتهاجر إلى جهات الأرض الأربع بعشق عميق وشوق عظيم ومن غير الانسياق لمكسب أو مربح، بل من أجل الارتقاء بالنوع البشري كله إلى الكمالات الإنسانية. ومع الابتعاد عن تطلعات الشهرة والمجد ابتعادا كاملا، ستتحمل أقسى الظروف وتنهض بأثقل الأعمال ثم تغادر ولا تلتفت إلى الوراء ولا تعبأ بحمد أو إطراء.

هؤلاء، أينما حلوا، سيَصبغون كل عين وكل قلب بألوان الاحترام والخشية البادية والفائضة على تصرفاتهم، حتى إن لم يتحدثوا عن الدين، أو لم يلفظوا بقول عن التدين. وسينفتح كل من يتصل بهم على آفاق “الروح” الرحبة والغنية، بدلاً عن الحقائق النسبية والقصيرةِ الأبعادِ للمادة، فيبلغ سعةً تتعدى الخيال في الدنيا نفسها، وينال “عرش مملكة” يعجز الكلام عن وصفها.

 

المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص: ١٠-١١، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١١، الطبعة الثانية، القاهرة

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.