ديوان “مقامات”، ديوان صدر للشاعر المغربي “إدريس الرقيبي”، في طبعته الأولى عام 2019م عن الراصد الوطني للنشر والقراءة، وجاء الديوان في 92 صفحة من الحجم المتوسط، موزعة على ثلاثة وعشرين قصيدة.
و”مقامات” عنوان اختاره الشاعر لديوانه، وكثير من الشعراء يعنونون قصائدهم بعنوان من عناوين قصائد دواوينهم، والحال أن عنوان الديوان “مقامات” عنوان لقصيدة جاءت في الصفحة 62، عنوان محتضن لثلاثة مقامات: مقام الصمت، مقام الثورة، مقام الشهادة.
والباحث عن مرادفات مقام، وجمعه مقامات، سيجد أن اللفظ له من الحيثيات ما يجعله ساري المعنى والمرمى على الديوان كله، فنجد في معجم المعاني مثلاً، أن المقام من معانيه: بيْت، دَرَجَة، مَثْوَى، مَحَلّ، مَرْكَز، مَكَانَة، مَنَاخ، مَنْصِب، مُسْتَقَرّ.. مرادفات نجد لها صدى في شتى قصائد الديوان. وانطلاقًا من ذلك يمكن الحديث عن مقام الكتابة ومقام المشاعر الجياشة، ومقام العشق والغربة الروحية، ومقام الترفع عن الدنايا، ومقام التهذيب للروية إزاء العالم، ومقام الكلمة الراقية التي ترتفع بالروح إلى مدارج السمو.
العنوان بهذه الصيغة وهذا المعنى، يناسب فحوى وأجواء يرسمها الشاعر، ويسافر فيها عبر التأمل، عبر البوح، عبر الفرح والشجن، وعبر خلجات المشاعر التي تتفاعل في دواخل الشاعر قبل أن يكتبها أو يتلفظ بها، إشراكًا للمتلقي فيما يكابده ويشعر به سلبًا أو إيجابًا.
وهنا يحيل العنوان إلى ما يشبه المقامات والأحوال عند الصوفية باعتبارها مجاهدة في سبيل بلوغ الفيض الروحاني المقرب إلى الله، خالقِ الأكوان وما يجري فيها من سكنات وحركات.
عنوان الديوان شاعري، منفسح إزاء دلالات متعددة، وقصائد الديوان جرعات منها، تجعلك تتذوق لذة الرحلة في البساتين التي ترسمها تائهًا هائمًا متأملاً في رحلة بلا نهاية بين أزهار العشق، ودروب الاكتشافات المفاجئة.
غلاف الديوان
يحمل غلاف الديوان لوحة تجريدية من إنجاز الفنان عبد الحفيظ مديوني، وجاءت بأشكال هندسية غير مستقيمة، وبألوان تحيل على الدفء، والمشاعر المتداخلة. واختيار اللوحات التجريدية للدواوين الشعرية أمر مقصود يتجاوز ما هو جمالي إلى ما هو تأملي، شعوري وإمتاعي.. فهي المشخصة للأبعاد النفسية مما يعقد صلات غير مباشرة بالروح الإنسانية، والشعر الحديث تكتنفه مسحات جمالية غامضة غموضًا يستدعيه الإبداع والجمالية في التعبير المنفتح كما الأعمال التجريدية.
لوحة تتوسط صدر الغلاف على خلفية أكثر من نصفها فسيفسائي، يحمل أشكال مهندسة متماثلة ومتقاطعة، وبقية الخلفية مساحة لونية بُنية غامقة، مما جعل مؤثثات الغلاف بوجهيه تضفي جمالية خاصة عليه منسجمة مع موضوعه وأجوائه.
أما خطاب الغلاف الأخير للديوان فتعلق بجزء مقتطف من قصيدة “غنائية لجرح الوطن”، مقطع شعري وجزء جميل يجمع بين الشعري والسردي، يجمع بين الماضي والحاضر والمتمنَّى، يقول فيه الشاعر:
وفي لجة البوح،
بسطت أشرعتي،
وأهرقت على شط أسفاري وقاري..
وكنت أمر على ديار هند
ما بين الطلول وقيعانها
بعض أشجانها
وفي كيد الوشاة ونحل الرواة
بعض أخبارها
وقلبي قاب جمري وناري.
وكنت توهمت
أن السبيل إلى سدرة العشق
بعض التدني وبعض الإصرار..
وكنت أبحر في رباك يا وطني
ولكنه الغبن أعيى اصطباري.
نص جميل يحيل على القصائد الجاهلية الفذة في قالب شعري حديث.
رحلة عابرة في بعض قصائد الديوان
قصيدة “أنا الشعر”
في هذه القصيدة يحاول الشاعر أن يدفع بالشعر ليعبر عن ماهيته وعن مكنوناته ومزاياه، وكأنه يقدم عبر القصيدة ما يشكله الشعر بالنسبة له، فالشعر في آخر المطاف جزء من الشاعر. وقد عبر عن ذلك كثير من الشعراء منهم أبو القاسم الشابي، الذي يعتبر الشعر فلذة من قلبه ووجوده، فتعبير الشعر عن نفسه مرتبط بالفاعل الذي هو الشاعر، وهو ارتباط الموجد بالموجود والسبب بالمسبب، يقول الشابي:
أنتَ يا شِعْرُ فلذةٌ مِنْ فؤادي | تَتَغَنَّى وقِطْعةٌ مِنْ وُجُودي |
فيكَ مَا في جوانحي مِنْ حنينٍ | أبديٍّ إلى صميمِ الوُجُودِ |
فيكَ مَا في خواطري مِنْ بكاءٍ | فيكَ مَا في عواطفي مِنْ نشيد |
فيكَ مَا في مَشَاعري مِنْ وُجُومٍ | لا يُغَنِّي ومِنْ سُرورٍ عَهيدِ |
فيكَ مَا في عَوَالمي مِنْ ظلامٍ | سَرْمديٍّ ومِنْ صباحٍ وَليدِ |
فيكَ مَا في عَوَالمي مِنْ ضبابٍ | وسرابٍ ويقظةٍ وهُجُود |
وسمو الآفاق بها له علاقة بالسمو بالشاعر، وهو المنبع الذي ينبثق منه الشعر بكل هواجسه وخلجاته المتداخلة والمتغيرات بتغير الأحوال والأزمان، بما تحمله من مجريات لها علاقة بذات الشاعر. يقول:
تسمو بي الآفاق إذ أشدو..
وهذا الشوق يغريني..
أرنو إلى الغد الظمآن في دهري..أضم دفة الأيام للأيام..
وأدخل في هيام الأنس أنشده:
هنا ورد.. هنا نهر
هنا وزن وقافية،
هنا لغة مطرزة
ترن على وتر الأيام أغنية،
تمر عبر شراييني..
أنا الشعر..
أنا كمّ من الحالات
يغار الليل من أنسي فيسليني،
وطورا
يغازل طيف أمنيتي
ويخطب ود أحجيتي،
فينثر زهر ألحاني
يضمني جنحه الحاني
فيبكيني..
وهنا يصور الشاعر الشعر كائنًا روحانيًّا وشجرة نورانية سامقة تجمع بين ثناياها أسرارًا جمة تحولها إلى مكمن الأسرار والأماني والأشجان والأفراح.
الشعر حفنة فيروزية من نسيج الجمال إلى حد العجز عن توصيفها، يقول “أحمد اللهيب بريدة”: “الشعر حرفة في غاية الغموض، فهو صناعة وإبداع وتسلية وإمتاع، وحاجة ولغز، وهيام وعشق.. والشعر حين يجعل الشعر نفسه موضوعًا، له يكون مصدر اعتزاز وفخر، ومصدر تعبير وشوق، واستعطاف وبوح، ورجاء وعتاب.. فيكون الشعر شعرًا عن الشعر ولكنه يتضمن فكرة ودلالة عميقة خارجة عن الشعر.
إن الشعر في أسمى تجلياته دهشة فنية وومضة إبداعية تحدث في المتلقي تعجبًا وأثرًا. وهذا لا يحدث إلا حينما تتحول الكلمات إلى أشخاص داخل النص، فتتفاعل فيما بينها وتتسق عن طريق الصورة الفنية بكل أشكالها، لتكون حبلاً وثيقًا بين الخيال والواقع. وهذا التفاعل بين الكلمات هو الذي يحدث تحولاً في لغة القصيدة وصورها ودلالتها. فالقصيدة كما يقول “أوكتافيو باث”: “شيء مصنوع من كلمات بغرض احتواء مادة ما وإخفائها في الوقت ذاته”. ومن هنا فإن الشعر من أعمق الفنون الأدبية التي تحدث انسجامًا بين الصوت والمعنى والصورة واللغة.”(1)، ولتكتمل الصورة يأتي بعد حديث الشعر عن الشعر حديث الشاعر عن الشاعر، لنرى هذا التكامل الخلاق المتين الوشائجِ. فالشاعر إنسان خاص يحلم بما لا يحلم به غيره، يمتطي عشقه، ويصادق الكائنات هائمًا يقطع مسافات بلا حدود، تسد أمامه أفق التعبير عن لواعجه المتقدة التي تأبى الخمود. يقول في قصيدة “الشاعر”:
وحده، يلملم طرف القصيد،
يتعشق الألفاظ..
يمتشق صهوة الأنواء مسافرا،
عبر الدروب..
وحده، يروي اللباب من دوحة الأيام..
وحوله الخمائل مترعات،
حالم، يأبى الركون…
ما بين مرآه ومسمعه مسافات للتيه،
بحار بلا شطآن…
عاشق، يجمع سرب الكلمات،
ينثرها مضمخة بالعنفوان..
مهاجر يشتهي التجوال،
يستريح على مخادع الوهم،
يسامر خيالات الماضي والحاضر،
يستشرف الآت،
دوما يعيش عسر المخاض.
مقامات في الديوان
مقام الصمت
في هذا المقام يعلو الشاعر بالصمت فيجعله هاجسًا محفوفًا بالعزلة والانحصار المضني والعتاب الملحاح متوجًا بهديل الحرف.. مقام مندهش مدهش أمام المواجع والفجائع الملتهبة الضاربة في الأوساط المظلمة، صمت مخز يشوه نضارة الحق، يفسح الطريق أمام أدغال الباطل الموحشة.
يقول:
مرعب هذا الصمت المسيج بالعزلة والغياب..
غائر في دمي،
ينمو كأدغال السكوت..
هو مزعج حد اشتهاء السراب،
حد اقتراف العتاب.
مقام الثورة
مقام منفرز ومنبثق من المقام السابق الذي يحيل على ما يحزن وما يحز في النفس وما يهجِّر المستقر، ويريق الدم والدمع ويطبق على الحناجر يمنعها من البوح فيولد الطاقة المتمردة المائجة الهائجة الكاسحة لأدران الواقع وهناته معيدًا للاتزان المفقود.. إنها رحلة خزي تنتهي بمقام الغضب الثائر الباسط لظلاله كي يلجم ما يخنق الحياة ويكدر منابر العدل والحق.
الجوع مئذنة الصراخ
الظلم مئذنة الصراخ
القهر مئذنة الصراخ.
مقام الشهادة
مقام رفيع جليل، تُوج به مقامان سابقان (مقام الصمت، ومقام الثورة)، صوره الشاعر تصويرًا جميلاً وأضفى عليه نفحات روحية بديلاً للخنوع والاعتذارات الواهية، والتعللات الدالة على الهروب من سبل دفع الشر بعيدًا عن الحياة، والشهادة في سبيل الوطن والدين والأخلاق السامية، باعتبارها المفضية إلى ركب الأطهار المجللين بالوقار. قصيدة رغم قصرها تحمل الكثير من الأبعاد القيمية والإنسانية.
مقام العشق
مقام جعل الشاعر منطلقه من قلب التراث الشعري العربي، حيث شعر العشق والغزل في أوجه، عشق أطلق الشاعر جموحه وجعله ليلج به كل الدروب عبر شعره، متصورًا نفسه وعشيقته بطلين من أبطال شعر الغزل في القصيدة العربية، لكن الشاعر وكأنه يعيد الإشادة بالتعقل بدل الانصياع بجذوة الهوى والافتتان الحرون، ليضع له ضوابط تجعل العشق راقيًا بعيدًا عن ضوضاء الفحش والوضاعة، فيحول آخر القصيدة حِكمًا وعظات مفيدة. يقول في آخر القصيدة:
تعلو الجبال وفي السوق هيامها
والشمس من فرط الحيا هي مائسه
لكنها وفي الخمار وقارها
تكسو الدنا نورًا بديعًا مدهشًا
فاعرف لنفسك قدرها ورأف بها
ما كل من عرف الهوى غدا فارسه.
نظرة عامة في الديوان
الدواوين كالروايات، إما أن تأسرك بداياتها فتنجذب إليها ولا تطلق سراحك حتى النهاية، وإما أن تجعلك تنتعض فتغادرها إلى الأبد.
والحال أن ديوان الشاعر “إدريس الرقيبي”، يجعل القارئ متعلقًا بقصائده التي ترسم أجواءً بلغة سلسة وتركيبات غير مغلقة على الأفهام، انغلاقًا يحولها إلى بنايات مقفلة، مجهول ما تحتويه.
قصائد الديوان بها لطائف وجدانية رقيقة تحاور الذات وترحل بها عبر موضوعات تكتنف حياة أي إنسان، الشاعر يعيش لحظات من السمو بالنفس، مخترقًا دروب الحياة بمحنها ومنحها بعذابها وعذوبتها، وهي بذلك قصائد مرايا تصور بعض ما تجيش به قلوبنا وخلجاتنا.
في الديوان أجواء روحانية ونورانية يتوازن فيها الذات والموضوع، فتجعلك تعيش فضاءات تعلو بك دون أن تنسى مرجعك، تعانق النجوم والبحر، تسمع وتتحدث بلسان الشاعر، تتحاور مع أكثر من ذات، وفي نفس الوقت تعيش الماضي منجرًّا بالحاضر. وعند نهاية كل قصيدة تشعر بنوع من التطهير الذي يعني التزود بطاقة مع التخلص من طاقة، التحول من الرتيب بفعل الجديد والأجد.
كل قصائد الديوان مفعمة بصيغ فريدة تعيد للشعر تواصله الجمالي بالقارئ بدل النفور من الصيغ المبهمة باسم الحداثة.
ويبدو احتكاك الشاعر بالشعر العربي قديمه وحديثه، بالعمودي والحر، هو ما يعكسه تنوع بنيات القصائد، مما يجعل القارئ يشعر بالجدة من قصيدة إلى أخرى من بداية الديوان إلى نهايته.
ـــــــــــــــــ
هامش:
1 – أحمد اللهيب بريدة، المجلة العربية، بتاريخ 30/12/2023.