حرفة الإسكافي

(في ضوء تصويرة المستشرق الفرنسي جان ديسكارت)

ترجمة جان ديسكارت:

هو مصور الاستشراق الفرنسي عاش في الفترة من (1856-1944م)، بدأ دراسته للرسم عام 1837م في أكاديمية الفنون الجميلة بفيينا، وهناك زامل مشاهير مصوريّ الاستشراق على رأسهم الألماني الشهير لودفيج دويتش، وكارل فون ميرود.

وفي عام 1884م عاد جان ديسكارت مع لودفيج دويتش إلى باريس، وكرَّس كل منهما حياته للتصوير الاستشراقي، وعرضت أعمال ديسكارت في باريس، وقضى ديسكارت عدة سنوات من حياته في طنجة بالمغرب، وكانت الأعمال الفنية التي نفذها في طنجة مصدر إلهام لأعماله الفنية بعد عودته إلي باريس.

الإسكافي:

الإسكافِ لغةً: هو صانع الأحذية ومُصلحها، وهو الخَرَّاز والجمع أساكفة، والأُسكُفة هي عتبة الباب، والسَّكافة: حرفة الإسكافِ. والذي يُطلق عليه الإسكافي الآن من كان يخصف النعال القديمة. ولما سُئلت أمنا السيدة عائشة (رضي الله عنها) عن عمل النبي صلي الله عليه وسلم في بيته: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، وهشام بن عروة، عن أبيه، قال:سأل رجل عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: نعم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته”.

وذكرهم الونشريسي بأنهم كانوا يمارسون هذه المهنة في حوانيت خاصة بهم وكانوا كثيري المتاع، وكان العامة من أهل الأندلس يطلقون على الإسكافي اسم الخراز، وكانت لهؤلاء حوانيت أو بيوت يتخذونها مكانًا لمزاولة هذه المهنة يضرب بها المثل فيقال “بيت الاسكافي فيه من كل جلد رقعة، ومن كل أدم قطعة”. 

وكان يُطلق عليهم الصرماتية، وهم صُناع “الصُرامي”، “والصُرماية” وهي نعل أحمر بدائر من دون كعب يلبسها في الغالب الكثير من أهل القرى، وهم يعنون بصناعة كل ما يلزم البلاد مثل البُلغ والأخفاف والمراكيب.

ومن الأدوات التي استخدمها الأساكفة لممارسة مهنتهم القُرمة، والمدق العريض، والمقص، والمسامير الحديدية، وجميع أنواع الجلود عدا جلد الخنزير، كما استخدموا الأديم الطائفي، كما استعملوا القوالب الخشبية التي تُصنع عليها الأحذية.

من أنواع ألبسة القدم التي صنعها الأساكفة:

الخُف للرجال:

هو ما يُلبس في الرجل من جلدٍ رقيق ٍ، وفي المثل “رَجَعَ بخفي حُنَيْن “يُضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة، وقيل الخُف للبعير كالحافر للفرس، والخف واحد أخفاف البعير، والجمع خِفاف وأخَفْاف، وخفف.

وقيل إنه ما يُلبس في الرجل وسمي بذلك لخفته وهو معرب عن الفارسية كفش أي خُف، وقيل هو عبارة عن حذاء يحيط بالقدم كلها ويختلف الخف عن الحذاء ذو الرقبة فى كون الخف يحيط بالقدم دون الساق.

والخِفاف معروفة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد وردت في ذلك الكثير من الأحاديث النبوية، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس رَكِي يلهث كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك” وفى رواية مشابهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فشرب، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له“.

ووجَّه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى آداب لبس الخف حيث قال “لا يمش أحدكم في نعل واحد ولا خف واحد ليخلعهما جميعًا أو ليمشي بهما جميعًاوفى الوضوء مسح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على الخفين واقتدى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم به فمسحوا على خفافهم.

ومن أسماء الخُف: التساخين، الجُرموق، التاسومة، المداس، الموزج.

الخُف للنساء (يُطلق عليه الشربيل في بلاد المغرب):

ولبست النساء في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم الأخفاف ولبسنها وهن محرمات كذلك.

وكانت زبيدة بنت جعفر المنصور أول من اتخذت الخفاف المرصعة بالجواهر وشمع العنبر، وتشبه الناس في سائر أفعالهم ببنت جعفر.

وأما أخفاف النساء فكانت تُصنع من الجلد المراكشي الأصفر ومن جلد السختيان المصري الأصفر والأحمر وقد صُنع أيضًا من الجوخ والقطيفة بألوان متعددة، وكانت أخفاف الطبقات العليا تُزركش بالذهب وترصع بالدر والجوهر، ومنها ما يزركش بحواشي القص والأشرطة اللاعبة، وهو من أحذية الخروج وتنتعله النساء عند القيام بجولات في شوارع المدينة. ويُطلق عليه في بلاد المغرب اسم الشربيل.

ومن الواضح أن هذا الخُف المتسع لم يكن يُسمح للسيدات بالانطلاق في السير مما كان يضطرهن إلى المشي ببطء وارتباك لصعوبة الاحتفاظ به في أقدامهن، وكان من تقاليد العُرس في العصر العثماني أن تلبس العروس خفين من السختيان الأصفر وفوقهما نعل.

دور المحتسب في مراقبة الأساكفة:

“يُؤخذ عليهم ألا يُكثروا الخبز في النعل لئلا يتقدد، ولا يستعملوا إلا الجلد المُحبب الأديم الطائفي الخمير، ولا يستعملوا الجلد الفطير، ولا يستعملوا من الخيط إلا قلب الكتان، ولا يُطولوه أكثر من ذراع لئلا يتسلخ، ولا يُمكنوا أن يَخِيطوا إلا بالإبر الرفيعة، ولا يُمكنوا أن يَخِيطوا بشىءٍ من شعر الخنزير، فإن ذلك نجس على مذهب الإمام الشافعي –رضي الله عنه- وكذلك صُناع أوطئة النساء يُؤخذ عليهم ألا يُكثروا حشو الخِرق فيما بين الشباك والبطانة، ولا بين النعل والظهارة، ويشدون حشو الأعقاب، ولا يشدوا نعلاً قد أحرقته الدباغة، ولا يمطُلُوا أحدًا بمتاعهِ إلا أن يشترطوا لصاحبه أجلاً معلومًا، فإن الناس يترددون بحبس أمتعتهم والتردد إليهم فيمنعهم عن ذلك فمنعه المحتسب من ذلك كله”.

تصويرة الإسكافي في طنجة (لوحات 1، وتفاصيلها 2، 3، 4):

لوحة (1) تصويرة الإسكافي في طنجة، مصور الإستشراق الفرنسي جان ديسكارت

تُمثل التصويرة الإسكافي في طنجة، حيث يظهر الإسكافي جالسًا على كرسي صغير، وقد رُسم جسمه ووجهه في وضع ثلاثية الأرباع من الأمام، وقد بدا في سنٍ متقدمةٍ حيث بدا بلحية مشذبة يملؤها الشعر الأبيض، وشارب متصل بها، وقد بدا الإسكافي بوجنتان مكتنزتان أبرزتا عظام الفكين، ويرتدي رداءً فوقاني أبيض اللون، تحته ما يُشبه الصديري أحمر اللون حيث تظهر أزراره، وقد جلس الرجل جلسة تُشبه جلسة القرفصاء غير أنه جالس على كرسي صغير ليلائم طبيعة عمله، ويضع على ركبتيه فوطة قديمة لحماية جلبابه من العوالق ببواطن الأخفاف، ويقوم الإسكافي بخصفِ خُفٍ في يده بإستعمال المِخّصفْ (المخراز) وقد أمسك الخُف بكلتا يديه ووضعه على ركبته اليسري (لوحة 2).

لوحة (2) الإسكافي يستعمل المخراز لإصلاح خُف، تفصيل عن لوحة 1، المستشرق جان ديسكارت

وإلى الخلف من الإسكافي باب خشبي من مصراع واحد مصفح بالمسامير الحديدية المكوبجة (كنوع من التدعيم لضلفة الباب الخشبي)، كما تظهر المفصلات الحديدية للباب تأخذ شكل حدوة الفرس، وعلى الباب مطرقة عبارة عن حلقة مستديرة من الحديد، وعند الكتف الأيمن للباب عَلَّقَ الإسكافي شوال من الخيش يبدو أنه قد خصصه لجمع الأخفاف وبعض الآلات والأدوات التي يستخدمها.

لوحة (3) الأدوات التي يستخدمها الإسكافي، تفصيل عن لوحة 1، المستشرق جان ديسكارت

وأمام الإسكافي الآلات والأدوات التي يستخدمها في حرفته منها المقص الحديدي، والقُرمة حيث تظهر هنا إثنتان إحداهما كبيرة من الرخام تأخذ الشكل السداسي، والأخرى صغيرة من الخشب تأخذ الشكل الإسطواني، كما تُوجد سلة من الخوص يضع فيها زوجان من مداسات الرجال تُعرف بإسم (البُلغة)، وزوج من مداسات الرجال تُعرف في بلاد المغرب باسم الشربيل، وأمامه أربعة أزواج من المداسات الخاصة بالرجال، وزوج يُمثل شربيل خاص بالنساء زُخرف بزخارف قوامها أشكال نجمية وفروع نباتية ملتفة ومجدولة، كما يُوجد خُف ذو رقبة طويلة جملي اللون إلى جوار الصندوق الخشبي.

لوحة (4) الرجل الجالس إلى جوار الإسكافي، تفصيل عن لوحة 1، المستشرق جان ديسكارت

وإلى جوار الإسكافي يجلس رجل ببشرة سمراء يجلس على مصطبة تأخذ شكل مثلث عند إلتقاء الجدارين، والرجل يرتدي عباءة زُبدية اللون، وعلى رأسه غطاء رأس يُسمى في بلاد المغرب باسم قُبْ (أو قُبْ الجلاَّبة)، ذي لون بني يبدو أنه متصل بالرداء التحتاني، ويُمسك الرجل بيده اليسرى بعصا من جريد النخل، والرجل ينظر باهتمامٍ بالغٍ إلى الإسكافي الذي يُؤدي عمله باهتمامٍ شديدٍ، وإلى الخلف من الرجل الجالس تُوجد مزهريات صغيرة تخرج منها سيقان فروع نباتية خضراء اللون.

والمنظر بصفة عامة مفعم بالواقعية في رسم الإسكافي منهمكًا في عمله، وأمامه أدواته، ولم ينسَ ديسكارت أن يُضمِن تصويرته اهتمام أهل المغرب بالورود وجمالها، فأمام الإسكافي مزهرية تخرج منها وريدات رُسمت بواقعيةٍ شديدةٍ، حتى سيقان النبات التي ذَبُلت لم يغفلها ديسكارت في تصويرته، فأضفي على التصويرة جمالاً وبهاءً. كما تتجلى الواقعية في رسم الجدران التي بدت أنها من الطوب اللبن، واستخدم في تكسيتها طبقة الملاط، وفي النافذة الصغيرة التي رُسمت في أعلى ركن التصويرة الأيمن وتظهر فيها المصبعات الحديدية والنافذة تفتح للخارج.