فطرة الإنسان وصلتها بالوحي والإيمان

في كثير من المواقف والنقاشات، كان الصراع يحتدم ويزداد التهابًا بين المؤمنين من جانب والماديين من جانب آخر، وذلك حول فطرة الإنسان وعلاقاتها بالإيمان، لكن سرعان ما أكد خبراء علم النفس وأهل الذكر من التربويين على أن الإيمان هو السجية الطبيعية للإنسان، وأن الإلحاد يُعد موقفًا مكتسبًا بالأساس ودخيلاً على الفطرة الإنسانية. ونرى أن كل مظاهر الكون أمام الإنسان الفطري، كانت تُعد ألغازًا مبهمة ومبعثًا على الملاحظة والتفكير والتدبر.

إثبات وجود الله

الملاحظ هنا أننا نجد المسلمين وغير المسلمين، بل وغير المؤمنين بأي دين أو عقيدة، عند حدوث أي مصيبة لهم، أو تعثر أي أمر عليهم.. نجدهم بطريقة فطرية يتوجهون إلى السماء ناظرين إليها بتمعن، ما يعني أن هناك شيئًا ما داخلي يقودهم إلى أن هناك إلهًا في السماء يراهم، ومن ثم يطلبون منه العون والمساعدة على كشف الضُرِّ، وتلك هي بقايا الفطرة التي وجدت بالإنسان منذ بداية خلقه.

والفطرة تؤدي إلى إثبات وجود الله تعالى، وإذا تُركت فِطَر الناس على حالها لآمن كل من في الأرض جميعًا. قيل لجعفر بن محمد “ما الدليل على وجود الله، ولا تذكر لي العالم والعرض والجوهر؟ فقال: هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: وهل عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق؟ قال: نعم، قال هل انقطع رجاؤك من المركب والملاحين؟ قال: نعم، قال هل تيقنت في نفسك أن ثَمَّ من ينجيك؟ قال: نعم، قال فذاك هو الله، يقول تعالى بمحكم آياته (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(الإسراء:67).

لدى فلاسفة وعلماء الغرب

تميز الكاتب والفيلسوف الفرنسي “فرانسو ماري آروويه” (1694-1778م) الشهير بـ”فولتير” باتخاذه لنفسه طريقًا وسطًا، تمثل في الاعتقاد بأن في الإنسانية الكثير من الشر، وذلك كنتاج للعديد من العوامل المختلفة، كـالجهل والاسترقاق والاستبداد والاستغلال والهوس العاطفي والتعصب وترك العقل والعلم والتسامح.. لكنه عاد وأكد على أن كل هذا الشر -ورغم كثرته- يمكن بالفعل إزالته كونه حادثًا وليس قديمًا، وهو مكتسب وليس أصيلاً أو فطريًّا. ويعود جزء كبير من شهرة “فولتير” إلى مقدرته الكلامية، التي لم يكن باستطاعة أحد مجاراته فيها، وكان ذكيًّا وصريحًا وجليًّا، ودومًا ما كان يُحوِّل نزعة الغضب إلى نوع من الهزل. وهناك من أكد على أن “فولتير” كان ملحدًا، لكنه ظهر فيما بعد أن له نشاطات دينية، حيث ساهم ببناء إحدى الكنائس الصغيرة بمسقط رأسه، وعلى غرار أقرانه البارزين بعصر التنوير الأوروبي، كان “فولتير” يَعُد نفسه من المؤمنين بمذهب الربوبية، لعدم اعتقاده بأن الإيمان بالله -وبصورة مطلقة- يحتاج إلى الاعتماد على أي نص ديني محدد، سواء كان فرديًّا أو معتمدًا على أية تعاليم تأتي عن طريق الوحي.

ونجد أيضًا العديد من علماء العلوم الإنسانية كـعلم النفس والاجتماع والتاريخ والأدب، يعترفون صراحة بوجود دوافع داخلية بالإنسان يسمونها أحيانًا “فطرة” وأحيانًا أخرى “غريزة” وكلا اللفظين يأتي بمعنى واحد، وعلى سبيل المثال قام “دين هامر” عالم الوراثة الأمريكي ومدير وحدة التنظيم والهيكل الجيني بمعهد السرطان القومي الأمريكي، بتأليف كتاب أسماه “الجين الإلهي”، طرح فيه فكرة أن تكون الفطرة الدافعة إلى الإيمان والروحانيات، محملةً على أحد الجينات، مضيفًا بأن وجود هذه الجينات على هذا النسق من التناغم والتكامل، يثبت وجود الله عز وجل.

ما بين المسلم والملحد

يشتهر في الغرب مثال “لا يوجد ملحدون في الخنادق” أي، إنه أثناء الحرب واشتداد القتال لا يوجد هناك ملحدون، فالكل يتوجه لتلك القوة العليا يطلب منها النصر والسلامة. ومثلما ذكرنا من قبل، نجد دومًا لجوء الإنسان وفزعه لخالقه سبحانه عند الشدة والحاجة، سواء كان هذا الإنسان موحدًا أو مشركًا، يقول تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)(الزمر:8). إن رجوع الإنسان وإنابته إلى ربه عند الشدائد دليل على أنه يُقر بفطرته بخالقه وربه سبحانه. هكذا كل إنسان إذا رجع لنفسه أدنى رجوع، عرف افتقاره إلى البارئ سبحانه بتكوينه في رحم أمه وحفظه له، وعرف كذلك افتقاره إليه في بقائه وتقلبه في كل أحواله.. وتبقى هذه المعرفة في نفسه قوية لأن الحاجة استلزمتها، فتكون أوضح من الأدلة الكلية كافتقار كل حادث لمحدث، فالبشر جميعًا يشعرون بحاجتهم وفقرهم، وهذا الشعور أمر ضروري فطري، إذ الفقر وصف ذاتي لهم، فإذا ألمت بالإنسان -حتى المشرك- مصيبة قد تودي به للهلاك، فزع لخالقه سبحانه، والتجأ إليه وحده واستغنى به ولم يستغن عنه.

وشعور هذا الإنسان بحاجته وفقره لربه تابع لشعوره بوجوده وإقراره، فإنه لا يتصور أن يشعر الإنسان بحاجته وفقره لخالقه إلا إذا شعر بوجوده، وإذا كان شعوره بحاجته وفقره إلى ربه أمرًا ضروريًّا لا يمكنه دفعه، فشعوره بالإقرار به أولى أن يكون ضروريًّا، وأوضح مثال أن “جيفري لانج” عالم الرياضيات الأمريكي بجامعة “كنساس” بعد عودته للفطرة يقول: “لا أحد يعرف الوحدة مثل الملحد، فالمسلم عندما يشعر بالوحدة فإنه ينادي من أعماق روحه الواحدَ الأحد، الذي يعرفه ويكون في مقداره الاستجابة له، لكن الملحد محروم من هذه النعمة، لأن عليه أن يسحق هذا الدافع ويذكر نفسه بسخفه، فالملحد إله عالمه الخاص -وهو عالم صغير جدًّا- يحدده مجال إدراكه، وهذه الحدود في تناقص مستمر”، وعندما سألته ابنته عن سبب إسلامه قال “لانج”: “لقد هويت في الرحمة النابعة من الحب الأسمى، لقد عدت إلى ملاذي ثانية”.

الإيمان الفطري وعظمة الكون

بحسب ما ذهب إليه كثير من الباحثين بوجود صلة بين ضعف الإنسان وإيمانه، أي إن الإنسان لا يزداد إيمانًا كلما ازداد ضعفًا، ولا يضعف على حسب نصيبه من الإيمان، بل ما زال ضعفاء النفوس إذا ما جردوا من كل قوة وسطان هم الضعفاء في الإيمان، وما زال ذوو القوة في الخلق لدى كثرة من الناس بهذا المقام هم ذوو القوة في الإيمان، لذلك لم يكن معدن الإيمان الفطري من معدن الضعف في الإيمان، ولم يكن المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل، بل كانت أعظم الحوادث التي أنتجت أعظم الآثار بالتاريخ هي قيام الديانات، لذلك كان الأصح والأولى بالتقرير والتحقيق أن العقيدة تَعظم بالإنسان على قدر إحساسه بعظمة الكون، وعلى قدر إحساسه بعظمة أسراره وخفاياه، لا على قدر إحساسه بضعف نفسه وضآلة شأنه.

ما يعني أن مبلغ الإحساس بالعظمة، هو مبلغ الإحساس بالعقيدة الدينية، وأن صغر الكون بنظر الإنسان نقص في الشعور بظاهره وخافيه، ونقص من أجل ذلك بطبيعة الاعتقاد والإيمان، وعلى إثر ما تقدم، تكون العقيدة بما وراء ذلك الكون العظيم من قوة قاهرة عليمة، مسيرة لذلك الكون العظيم الهائل هي التي تتجاوب مع عظمة هذا الوجود المحيط بالنفس البشرية، كما تكون تلك العقيدة المنبعثة عن وحي عظمة الكون، أكبر دليل على صحة تكوين هذا الإنسان وكمال تفكيره، وليست دليلاً على نقصه أو غفلته عن حقائق الأشياء والأمور.

وختامًا: نجد أن الإنسان الفطري تم دفعه بقوة تحت عوامل عديدة، أهمها عامل الانفعال كمظهر من مظاهر الكون العجيبة، وتحت عامل تنبه حسن الملاحظة والتفكير فيما وراء ذلك الكون ومظاهره. والإنسان الفطري أخذ في اندفاعه يفتش عن الفاعل القاهر، الذي لا بد منه لكل هذه الكائنات ومظاهرها يمنة ويسرة، فما أن وجده اندفع يناديه من أعماق قلبه بكافة معاني التقديس والتجريد، لاعتقاده الراسخ بأنه خالقها وباعثها ومسيرها بخيرها وشرها.. وهكذا انبعث الإيمان من فطرة الإنسان ومن ذاته، وشع نوره في قلبه بوحي من فطرته وطبيعته التي خلقها الله.

المراجع:

(1) الإيمان دلالة وفطرة، د. سمير مثنى على شبكة الألوكة، 28/5/2016م.

(2) مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، طه باقر دار الوراق للنشر، بغداد 2011م، ط 2.

(3) الفطرة وعلاقتها بالإيمان بوجود الله عز وجل، يسري أمين الشافعي، شبكة الألوكة، 19/1/2022م.

(4) سر تطور الأمم، جوستاف لوبون، تعريب: أحمد فتحي زغلول، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2006م.

(5) جزيرة العرب مهد الحضارة الإنسانية، د. معروف الدواليبي، دار الشواف للنشر والتوزيع، الرياض 1995م.

(6) الفلسفة في الفكر الإسلامي.. قراءة منهجية ومعرفية، رائد جميل عكاشة وآخرون، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا 2012م.