مدرسة الحياة

طرَقَ الخبَرُ المفاجىء سمعها فأشعل النيران في أحشائها، لم يستطع جسدها النحيل مجابهة الحدث فالفاجعة التهمت صمودها فسقطت أرضًا مغشيًّا عليها.

عادت إلى الحياة وليتها لم تعد.. أمامها كل الكائنات وكل المعالم متشحة بالشحوب، والاختناق يستبد بها.. يضيق بها المكان وهي تسمع التعازي من الجيران، ويتراءى لها الذاهبون والعائدون والجالسون، مسرحهم ساحة المنزل التي يكتنفها سواد الطارئ الفظيع.

الآن تتذكر كل شيء. لقد عادت من المدرسة صبيحة اليوم ولم تجد أمها النشيطة في قلب المطبخ.. نادتها بهدوء، دخلت كل الغرف، زارت الحديقة، جالت بعينيها في كل أرجاء البيت، أحست بسكون يغمر المكان وينذر بالخطر. فكرت في انتحارها، لكن الأم عرفت بتدينها وتفاؤلها، هي الوحيدة التي تطمئنها بالنجاح بعد العودة من الامتحانات، وتهدئ من روعها وهي مريضة.

لقد توفيت أم سميرة، توفيت، دون مقدمات، وبلا وداع… أشرقت ثم غربت لتترك ظلامًا قاتمًا لا يتيح لك الرؤية فلا تهتدي إلى مرادك بأمان.

أمها شجرتها الخضراء، تستظل بظلالها في الحر، وتحتضن جذعها في البرد، ومن ثمارها تغذت وتتغذى.. لولا الأشجار ما غردت الطيور ولا وضعت بيضها.

سميرة الآن وبعد أسبوع من وفاتها، تجلس وحيدة فلا أخ ولا أخت لها، كان أبوها يسافر ولا يبالي، كل اهتمامه وأهميته إرسال دريهمات كل شهر وكفى، كانت الأم قبل وفاتها يساورها الشك بكونه سجين امرأة أخرى تمنعه من العودة فبعض النساء كالأفاعي تلتف حول الأعناق وتمنع الحركة وتقتل الأمل في النجاة.

آه، لو كان أبي بجانبي أعوض به أمي التي غادرتني دون سابق إنذار… ليتني ذهبت معها كي نسكن قبرًا واحدًا يضمني وإياها إلى الأبد.. لكن كل شيء بقدر كما كانت تقول… كانت سميرة تحدث نفسها متكئة على حائط طيني تتأمل في مصير البشر، يولدون، يكبرون، يشيخون ويموتون، وقد يموتون دون عمر الشباب… الموت لن يمهل أحدًا لكل منا تعبئة بنفادها ننتقل إلى عوالم أخرى. همت بالبكاء، شعرت بلا جدوى حياة ينتظرها الانمحاء والعدم، لكنها تذكرت أنها مؤمنة والمؤمن عليه التسليم بمسار الحياة كما هي، خالق الحياة قدر لها أن تبدأ كي تنتهي والعبرة بالنجاح في الامتحان.

بدأ الاطمئنان يعود إلى صدرها وهي تستحضر قوله تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(، بدت لها الحياة تسير وفق المشيئة الإلهية، كفكفت دمعتين تدحرجتا على خديها، استغفرت الله مرات، ونهضت لتدخل غرفتها، وكأنها تجدد العلاقة بمؤثثاتها، رتبت دفاترها وكتبها المدرسية، مدَّت يدها إلى المصحف فأخذته وضمته إلى صدرها وفتحته ليستقر بصرها على قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. انخرطت في الدعاء لأمها والمصحف مفتوح بين يديها. وفجأة سمعت قرع الباب.. إنه أبوها الذي جاء بعد سنوات من الغياب… لقد كان مريضًا، وكان يعمل مُكرهًا حتى يوفر لأمها قوتها اليومي.. وها هو قد شفي من مرضه ليأتي فورًا إلى بيته.

 قبلت يده ورأسه قبل أن يضع أمتعته.

منذ ذلك اليوم شعرت بالمسؤولية وبعض التقصير رغم برها بأمها، عزمت على الإخلاص والحزم في الدعاء لأمها وطاعة أوامر أبيها.

عاشت صالحة وعملت بكل ما في وسعها من أجل نشر الفضيلة.

كان أهل قريتها يرون فيها نموذج المرأة المسلمة التي تراعي أوامر ربها في حركاتها وسكناتها.