التّائبُ

 اسمه عبد الجبار، عرفتْه أزقة الحي، عرفتْ صوتَه نوافذ المنازل المحاذية للشارع، بعد منتصف كل ليلة، يبدأ رحلته بتمرد من لا عقل له ولا ضمير، مترنحًا يقهقه متى يشاء، يشتم من يشاء، ويؤذي أعراض من يشاء بلا حظر ولا رادع.. يعيش خارج الأعراف، ولا يفرق بين المعروف وضده.

لا يظهر كثيرًا بالنهار، ربما لأنه ينام كثيرًا، أو لأنه يكره نور الشمس، وملاقاة البشر.

لقَّبَه بعضهم بالخفاش، وبعضهم بالبوم، فهو لا يظهر ولا يحلو له التجوال في أرجاء الحي إلا ليلاً.

ما أفظع أن تكون مدمنًا على مخدر يفقدك الصواب فتصير غريبًا بين أفراد أسرتك، وأفراد الحي الذي تسكنه!

وتشاء الأقدار أن أغادر الحي لمدة ست سنوات، وها أنذا أعود مرة أخرى لأرى هذا التغير المفاجئ الطارئ على الأمكنة، الشوارع صارت أنيقة، والعمارات مرمّمة مصبوغة بالأبيض الناصع، والأشجار مشذبة وقد ازدادت طولاً ونضارة..

في اليوم الموالي، كنت مع ثلة من أصدقائي نشرب الشاي في مقهى مشرف على الشارع الرئيسي، كنت أراقب المارة حيث أرى بين الحين والحين ولدًا أو رجلاً أو امرأة ممن أعرفهم.. فجأة رأيته، إنه هو، السكير الشهير المعروف من قبل الصغار والكبار، عبد الجبار الذي كان يقض مضاجع الناس فيبعد عنهم نعمة الهدوء والنوم، بعضهم يشتمه، وبعضهم يدعو له بالهداية وحسن الخاتمة، ومنهم امرأته التي ذاقت منه ضروب المرارة والضجر والإهانة… يطردها وسرعان ما تعود إليه مرغمة من أهلها، أو بداع من ضميرها الذي يرى من الواجب عدم اليأس في الدعوة إلى الخير مع الصبر على الأذى.

رأيته وكأنه قد تغير كثيرًا، نظيف الثوب، مستقيم المشية، ثابت النظرات عادي الملامح، وما استرعاني فيه شفتاه التي لا تتوقفان عن الحركة، إنه يقول شيئًا الله أعلم به..

غادرت المقهى وكلي فضول على معرفة ما يقول، وكلما رأيته كنت أقترب منه دون أن يدري، وكأني مخبر سري يلاحقه، لكني لم أظفر منه بما أريد.

تمر الأيام وكلما رأيته اشتقت لمعرفة سبب تحريكه لشفتيه بلا توقف، ماذا يقول؟ هل يشتم غيره؟ هل صار معتوهًا يحدث نفسه؟

في المسجد، وفي يوم الجمعة بالضبط، دخلت مع الناس للصلاة، ومن حسن حظي أني سأجلس محاذيًا لعبد الجبار وفي الصف الأول لأكتشف أنه صار تائبًا، ولقربي منه كثيرًا تمكنت من سماع ما تردده شفتاه أخيرًا، كان يذكر الله، يستغفره، يسبحه، ويحمده، ويسأله الستر فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض.

لقد عاد عبد الجبار إلى الصراط المستقيم، وعرفت فيما بعد أنه حفظ أجزاء من القرآن، ولا تفوته صلاة الفجر مع الجماعة، وأنه صار يعيش مع امرأته في وئام واحترام، وقد رُزقا طفلاً سماه عبد الغفور.

فرحت بقدر ما حزنت، فقد صار ذاكرًا متقيًا في الوقت الذي كنت أتجسس عليه، صار خيرًا مني، أنا الذي لا أذكر الله سوى في الصلوات المفروضة، ولا أحفظ من القرآن إلا سورًا قليلة.