الشيخوخة.. مسك الختام

من علامات الحكمة الكبرى معرفة المرء كيف يعيش مرحلة شيخوخته في رشاقة وجلال.. ذلك لأن حسن تدبير الشيخوخة فصل من أشق وأهم فصول كتاب حياة المرء. فصل يختتم مراحل متعددة متداخلة.. مهد، فطفولة، فشباب، فرجولة، فكهولة، فشيخوخة. ويعلم الكثيرون أن أعظم المتاعب التي توقعوها لم تقع لهم.. وأن حدوث بعضها كان مفيدًا ونافعًا. ومع ذلك يتباين تقبل الأشخاص لمظاهر وخصائص مرحلة الشيخوخة، كما يتباين اقترابهم معها.. فهمًا، وتعرفًا، وتعاملاً، وصبرًا.

ففي هذا المرحلة الخاتمة لمشوار حياة المرء، والتي من حسن الحظ أن تغيراتها النفسية والفسيولوجية والبدنية ليست مفاجئة، بل تدريجية. وفيها يشعر البعض باقتراب الأجل، وتضيق دائرة الأصدقاء، وتزداد الخبرة بما في الحياة من مآس، وضروب فشل. ويتناقص ما لديهم من نشاط، ويخبو ما عندهم من حيوية. ويعاني البعض من علل وأدواء، ومظاهر ضعف أمام ما كان يتحمله من مجهود جثماني شاق. ويشيع “إلحاح المقارنة” بين ما كان وما هو كائن، ومع كل ذلك فثم خير كثير يُمكن أن يقال عنها.

تحسن الصحة العامة أطالت عمر الشيخوخة

مع الارتفاع النسبي لمتوسط عمر الإنسان (76ـ 83 عامًا بحلول عام 2050) ليس الموت بالأمر الذي يجب أن نخشاه أو نفزع منه، فالغالبية العظمي من الناس يغادرون الحياة في يسر ورفق حين يحين الأجل. وليس من شك في أن من يؤمن بالآخرة يجد الموت أمرًا هينًا. حقًّا.. إن كنت، فيما مضى مَعقد الأنظار، واسمك على كل لسان، فعندما تتقدم بك السن ولم يعد لك ما كان من نشاط ينساك الناس إلا أقلهم. على أن ذلك ليس من الكوارث في شيء فقد يؤدي إلى الهدوء والسكينة اللذان يجب أن يكونا خير ما تجلبه لك السن من نِعم. إن فيض القوة والدعم المعنوي الناتج عن الشهرة وحُسن الأحدوثة هما خير مُعين على بلوغ المطامح وإنجاز ما تتوق إليه من أعمال اجتماعية. وحتى رغبة الإنسان في تخليد ذكراه بعد مماته لها ما يبررها عند الشباب، فهي تساندهم فيما يبذلون من جهود وتقويها وتركزها.

ولقد كانت أكبر متاعب الشيخوخة في أزمان ماضية أنها عرضة لكثير العلل والأوجاع الجسمانية من جراء تناقص سُبل القدرة على الشفاء، وتجديد ما يبلى من جسم الإنسان. أما اليوم فقد عمل الطب الحديث وعلم الصحة على تقليل أدواء الشيخوخة وشرورها لم هدتهم الحكمة إلى أن يستفيدوا منهما ويراعوهما طيلة شبابهم وكهولتهم. فمن الأهمية بمكان أن يراعي المرء، في الوقت المناسب، وبالكيفية المناسبة، حدود قوته فلا يتعداها. ويعمل على أن يكيف طرائق معيشته بها، تدريجيًّا وبصورة متزايدة ما استطاع إلي ذلك سبيلاً. فهذا أولى من أن يهجر فجأة ضروب نشاطه وموضوعات اهتمامه الكبرى.

قد نصبح أكثر اعتمادًا على غيرنا في النواحي البدنية. لكن يعوضنا ذلك تعويضًا كبيرًا أنّا أكثر استقلالاً عنهم في النواحي المعنوية والمالية. وللشيخوخة عوض طبيعي عما بها من ضعف، وذلك فيما يُتاح لها من أوقات فراغ وفرص للقيام بالأعمال التي لم نجد في شبابنا وكهولتنا أي وقت لمزاولتها. فكم من كتاب ثمين تمنينا أن تقرأه؟ والفرق كبير بين الذهن اليقظ والذهن الذاهل ويعود ذلك في الأغلب إلى عادة القراءة ومن هنا تأتي قيمتها الكبيرة لشيخوخة سليمة وصحية، فالذهن يبقى يقظًا نشيطًا بدوام ممارسة القراءة، كما يمرن الجسم على الحركة بالرياضة.

وحين تتأمل حياة بعض من عايشوا الشيخوخة، من مفكرين وعلماء ومبدعين تجد أنها حياة مليئة بالحركة والعطاء والإنتاج. حتى إن الواحد منهم ليبلغ نهاية عمره ولم يتوقف عمله وجهده وإنتاجه بعد، بل تفاجأ أنه كتب آخر مقالاته/ كتبه/ مساهماته في ساعاته الأخيرة. وكم من بلاد وأماكن كنا نطمع في أن نشاهدها، وكم كنا نأمل لو كان لدينا الوقت لقضاء شتاء بأكمله في الريف، وكم تمنينا أن يتاح الوقت الكافي للتفكر والتفكير في لغز الحياة والأحياء؟ فلقد جاءت مرحلة التقاط الأنفاس، ورؤية الأشياء والناس على حقيقتهم، وإعادة الحسابات، وجني ثمار ما تحقق من إنجازات، وغض الطرف عما حدث من إخفاقات. فلنستمتع بتلك المتع الرقيقة التي لا يمكن أن تتيحها أوقات حياة الأعمال والأنشطة السابقة. وإذا كنا ناجحين فيما كان من قبل فسنكون ناجحين الآن أيضًا. فالنجاح يجب أن يشمل فن الحياة كلها، وليس في الحرفة أو الزواج أو الكسب أو المجتمع فقط.

إلحاح المقارنة

نعم.. قد يطفو إلحاح المقارنة بأنواعها، مع ما كان من شباب، وما هو كائن، وما سيكون، يقول الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يومًا *** فأخبره بما فعل المشيب.

قد تسترعي الحُلـي البراقة النظر وتصرفه عن عيوب جسم من تتحلى بها، وقد يُنسي لمعان قلادة جميلة من اللؤلؤ تجاعيد العنق الذي تحيط به، وقد يُخفي بريق الخواتم والأساور عمر الأيدي والمعاصم. لكن الخطر الحقيقي ليس في ضعف الجسد، بل فيما يعتري الروح من قلة الاكتراث بالحياة، وتنامي الانزواء، والشعور بالكآبة. وهذه الأمور ينبغي مكافحتها بكل السبل النفسانية والطبية والبدنية. ويبقى أن العمر الحقيقي المثمر ينبثق، ليس من جمال الشكل الخارجي، بل من جمال الشخصية خلال كل مراحلها، والتي تنمي ملكاتها وقدراتها ومواهبها باستمرار، باعثة النشاط والإيجابية في ذاتها، وفي كل من حولها.

فالشيخوخة تتجاوز الشعر الأبيض، والتجعدات، والشعور بأن المباراة قد انتهت، وأن خشبة المسرح قد أصبحت ملكًا للأجيال الناشئة. لكننا في شيخوختنا، نستطيع استعادة ما كان لنا من قدرة على أن نحيا اللحظة التي نحن فيها. ونعيش من أجلها ونستمتع بكل دقيقة تمر بنا خالين من همّ وقلق ما عسى أن يأتي به المستقبل. فقد كادت مطامح الشباب، ومسئوليات الكهولة أن تقضي علينا بالحرمان من هذه القدرة الرائعة. ومن التمتع الشعور بمزيد من مظاهر الحرية، ومزيد من صور التعبير عن الذات.

في الشيخوخة تخف أعباء المطالب والتبعات (الأبوة، الأمومة، الأعمال التنافسية.. الوظيفية والتجارية) التي كنا ملزمين بآدائها. ومع ذلك فثمة استمرارية في بذل الجهد التربوي للأبناء، والأحفاد. لكن لا شك أن قوة مرحلة الشيخوخة تكمن في أنها لا تحتاج إلا إلى القليل في حين أنها تعطي الكثير. فإن لم تكن تستطيع أن تقدم شيئًا فتستطيع ـ بإخلاص، وقبول شاكر من الناس ـ أن تتيح الفرص لآداء خدمات شخصية لكثيرين. خدمات تكون بمثابة توابل للحياة بدونها تصبح مقفرة جرداء.

إن أسعد الحظ رجلاً وزوجته بأن تقدما معًا في السن، واستطاعا أن يعاون كل منهما الآخر ويوفر له أسباب الراحة، وينميان ويبتكران سبل النشاط العاطفي والوجداني بينهما دون أن يزعجهما ما كانا يعانيان من خلافات، وعواصف، وهموم. فليتساندا وجدانيًّا، وليتعاونا معًا على الاستمتاع بذكرياتهما الماضية فهي أضمن متعهما وأقلها مدعاة لخيبة الأمل. فهي مُتع لا تعوزها القوة وبخاصة إن تقاسماها في تعاطف وحُسن نية. إن أكثر مسرات الناس تنجم عما يأملونه ويتوقعونه، أو عن أحداث مضت يستعيدون ذكرياتها. والمسرات الناجمة عن توقع ما سيكون من أفراح غير مضمونة. على حين أن الشعور بالسعادة من مسرات ناجمة عن ذكريات الماضي تكون أكيدة.

جمال الشيخوخة

لا تخلو الشيخوخة السوية من جمال، وإنّا لنستطيع بما وهبتنا الحياة الطويلة من حكمة وتعقل وتدبر أن نزيدها جمالاً على جمال. جمال الوعي بالذات، والرضا عنها، والتأقلم السليم مع مراحلها، وجمال الجوهر والروح، وامتلاء الوجدان، وارتياح البال، وهناء النفس، وروعة التجمل بالقيم الثقافية والاجتماعية والإنسانية.

ولا يقل الشيوخ عن الشباب قدرة على تزيين دوائرهم القيمية والاجتماعية وجعلها ثرية حافلة، بل إنه ليجب عليهم أن يفعلوا ذلك وأن يفعلوه في رزانة ووقار وتفطن وقصد متحررين من أنواع القلق والمخاوف الكثيرة التي ترهق الشباب. فكلما تقدمت بنا السن واقتربنا من الشيخوخة استطاع كل منا أن يأمل أن يكون من بين الذين سيكونون حكماء من غير حزن، مبتهجين فرحين من غير حزن أو عبث.

حقًّا.. لا يمكن إيقاف عقارب الساعة، أو إرجاعها للوراء، فما بعد الكمال إلا النقصان.. هذه سنة الحياة فلنتقبل طبيعتنا، ومراحل نضجنا البشري الرائع، وما علينا إلا أن نرضى بأفضالها ونتقبلها بقبول حسن. ولنسع السعي الجاد للقيام بواجباتنا وأداء الحقوق لأصحابها حتى آخر لحظات أعمارنا. وإذا كنا قد عشنا حياة معقولة ولم نفرط في واجباتنا، وأسدينا شيئًا من الخير، ولم نرتكب شرًّا جسيمًا، إذا كان هذا هو الشأن فلن يقسو علينا الزمان.

خلاصة القول: فن الحياة، ومن بينها فن الشيخوخة، من أهم من فنون المدنية والحضارة، وهكذا يجب أن يكون. وكل امرئ لديه القدرة والاستعداد كي يتعايش ويراعي هذه المرحلة بكل جوانبها. ويحسب لها حسابها، ويوليها ما هي أهل له لكي تكون نهاية الحياة سعيدة، وختامها مسك.