أن ترى حدثًا في أحلامك وتنساه ثم تجد نفسك في قلب الحدث بعدها بفترة، ولا تستطيع أن تغير شيئًا مما يحدث، ولكنك موقن أن هذا الحدث قد عشته أو رأيته من قبل بكامل تفاصيله، تلك هي ظاهرة “ديجافو” أو “رؤية المستقبل” كما يسميها علماء النفس. فما هي حقيقة هذه الظاهرة؟ وهل هي مجرد وهم كما يدعي البعض، أم أنها قدرة نادرة على التنبؤ بتفاصيل أحداث بعينها، أم هي حقيقة تحكمها قوانين ناموس الخالق في الكون؟

“دي جافو” (Déjà vu) هي كلمة فرنسية تعني (لقد شوهد هذا من قبل) أو “رؤي مسبقًا” (Already seen). وأول من أطلق هذه التسمية هو العالم الفرنسي “إميل بواراك” (Emile Boirac) في كتابه “مستقبل علم النفس”. وديجافو هو الشعور الذي يشعر به الفرد بأنه رأى أو عاش الموقف الحاضر من قبل، يلازم هذه الظاهرة شعور بالمعرفة المسبقة وشعور بـ”الرهبة” و”الغرابة”، أو ما سماه عالم النفس فرويد بـ”الأمر الخارق للطبيعة”. وهذه التجربة السابقة التي يهيَّأ لنا بأننا عشناها عادة ما تكون زارتنا في أحد أحلامنا. ولكن في بعض الحالات ثبتت بأن فعلًا ما نشعر بأنه موقف سابق قد كان حقيقة ووقع في الماضي والآن يُعاد.

من الصعب جدًّا دراسة ظاهرة ديجافو، ذلك لأنها تحدث لفترة وجيزة، وتكون بشكل غير معلن لدى أغلب الناس، وليس هناك شهود أو مظاهر جسدية غير أن الشخص الذي يمرّ بتلك التجربة هو الذي يخبر من حوله بذلك أحيانًا. وبسبب هذا هناك القليل من البحوث بشأن تلك الظاهرة، وليس هناك تفسيرات محددة لها، فيجب أن تعتمد دراسات ديجافو على الوصف الشخصي وتحديد وتذكر البيانات. وعلى مدى قرنين من الزمن حاول الباحثون التوصل إلى أسباب حدوث الـ”ديجافو”، بدءًا من الفلاسفة وعلماء النفس، وحتى خبراء الخوارق، وكان لكل منهم نظرياتهم الخاصة حول هذ الأمر.

ورغم تنوع التفسيرات التي تناولت تلك الظاهرة، فإنها ما زالت تحير العلماء إلى يومنا هذا، وذلك لتعدد تفاسيرها علميًّا ودينيًّا وفلسفيًّا.. ببساطة، الشعور بها يكون بمثابة الإحساس بأن موقفًا ما يبدو مألوفًا، أو أنك رأيته من قبل لكنك لا تذكر متى أو أين.. فعلى سبيل المثال قد تسافر لبلد ما لأول مرة، وتقوم بجولة في أحد الشوارع، وفجأة تشعر بأنك رأيت هذا المكان من قبل بالرغم من أنها زيارتك الأولى إليه.. أو ربما كنت تتناول العشاء مع بعض الأصدقاء وتتناقشون في موضوع معين، فتشعر أنك مررت بهذا الموقف من قبل: نفس الأصدقاء، نفس العشاء، نفس الموضوع. وتختلف ديجافو عن ظاهرة التخاطر والمشاركة في الأفكار بين عدد من الأشخاص، كما تختلف أيضًا عن الحاسة السادسة التي تمثل سرعة الدماغ في ربط الظواهر والخروج بنتيجة متوقعة، نتيجة نشاط اللاوعي عند بعض الناس.

يتوقع بعض العلماء أن 70% من البشر يمرون بهذه الظاهرة مرة واحدة في حياتهم على الأقل، وتزيد فرص حدوث هذه الظاهرة للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15-25 عامًا، أكثر من الفئات العمرية الأخرى.

التفسير العلمي لهذه الظاهرة

في السنوات الأخيرة بدأ العديد من العلماء بدراسة هذه الظاهرة، وبزيادة عدد الدارسين للظاهرة ظهرت العديد من النظريات، فالبعض يرجع سبب الظاهرة إلى خلل في دماغ الإنسان، والبعض الآخر يرجعها لأسباب نفسية، وآخرون يقولون إن حدوث الظاهرة يرجع للآثار الجانبية لبعض الأدوية، بل إن هناك بعض المؤمنين بالماورائيات يرجعون سببها للأكوان الموازية، وهناك أكثر من 40 نظرية حاولت تفسير تلك الظاهرة، وسوف نتطرق في السطور القادمة لأشهر النظريات التي شرحت هذه الظاهرة بشيء من التفصيل.

نظرية تأخر الرؤية

يقول مناصرو هذه النظرية، إن إحدى العينين ترى المناظر أسرع من العين الأخرى بفارق لا يكاد يذكر، أي -ببساطة- عندما تكون في مكان ما، فإن إحدى عينيك ترسل إحداثيات وتفاصيل هذا المكان إلى الدماغ قبل العين الأخرى؛ لنفترض بأنك دخلت شارعًا في القاهرة، هذا الشارع لم تزره ولم تره في حياتك مطلقًا، لكن ما سيحدث هو أن إحدى عينيك -ولنفترض بأنها العين اليمنى- سترسل تفاصيل الشارع إلى الدماغ أولاً، وستخزن هذه المعلومات، ولاحقًا -بفارق جزء من الثانية- سترسل العين اليسرى نفس التفاصيل للدماغ، وطبعًا سيجد الدماغ أن هذه المعلومات موجودة ومخزونة لديه أصلاً، وهذا سيبعث في النفس شعورًا كاذبًا بالألفة مع المكان والإحساس بأنه كان متواجدًا فيه من قبل.

أما الرافضون لهذه النظرية فيرون أنها لم تذكر تدخل الحواس الأخرى في الحادثة كالسمع واللمس، فقد تشعر أن شخصًا ما لمس يدك من قبل، أو تسمع أغنية وتذكر أنك سمعتها من قبل، أو حتى قد تشم عطرًا تعيدك رائحته إلى ذكرى معينة. أيضًا قال الرافضون للنظرية، إنها حدثت لبعض الأشخاص الذين لا يرون إلا بعين واحدة فقط (أعور). وكذلك فإن هذه الظاهرة لا تحدث دائمًا، أي أن هذا الإحساس بالألفة لا يداهمك في كل مكان جديد تزوره، لكنه يحدث بشكل متقطع من حين لآخر.. على كل حال، هذه الظاهرة يمكن تفسيرها بشكل عام بالقول إن هناك عدم توافق زمني في تسجيل الأحداث في نصفي الدماغ الأيمن والأيسر.

نظرية الاضطراب النفسي والعقلي

هذه نظرية قديمة حاول بعض العلماء من خلالها إيجاد رابط بين ظاهرة ديجافو وبعض الأمراض النفسية كانفصام الشخصية والقلق، ولكنهم فشلوا في ذلك.

لكن وُجدت علاقة قوية بين ديجافو ومرض صرع الفص الصدغي في المخ، وهذه العلاقة قادت بعض العلماء للتأكيد بأن هذه الظاهرة هي نتاج لخلل في عملية تفريغ الشحنات الكهربائية في المخ؛ فالكثير من الناس يشعر بـ”رعشة” سريعة في بعض الحالات (قبيل النوم بلحظات)، وهذه الرعشة يرجّح بأنها تحدث أثناء الـ”ديجافو”، مما يؤدي إلى شعور خاطئ في الذاكرة. الذين يشعرون بهذه الرعشات على الدوام، يعانون من تكرار حالة ديجافو، ولكن أغلبها يكون صوتيًّا، حيث يُخيّل له بأنه سمع هذا الصوت من قبل.

هناك أيضًا اعتقاد بأن الظاهرة سببها تأثير بعض العقاقير على عمل الدماغ. يقول العلماء إن عقاري الـ”أمانتادين” و”فَنيلبروبانولامين” لعلاج أعراض أنفلونزا هما السبب في ظاهرة الـ”ديجافو”، حيث إن الدوبامين يؤثر على بعض خلايا الفص الصدغي في المخ، وقد ظهر هذا التفسير عام 2002م.

فرضية عالم الأحلام

تفترض هذه النظرية أن ما نمر به من أحداث نشعر وكأنها مكررة أو صورة أخرى من موقف مضى، ما هو إلا نسخة لحلم حلمنا به مسبقًا، ولكننا نسيناه ولم نتذكره. وحين يحدث نفس الموقف في حياتنا العملية، نتذكر أننا قد مررنا بنفس هذا الموقف أو المشهد من قبل. فنحن يوميًّا مهما كان، نحلم بكل ما يدور في اليوم الآخر، لكن بطبع الإنسان ينسى كل ما يحدث فنتذكر ما يمكن تذكره.

فرضية علم ما وراء النفس (الباراسيكولوجي)

يرى بعض علماء الباراسيكولوجي أو علوم التفسير العلمي للظواهر الخارقة، أن ظاهرة ديجافو هي جزء من الحاسة السادسة، بحيث استطاع وعي الإنسان وعقله أن يصل إلى الحدث ومفرداته ووقائعه قبل حدوثه بلحظات قليلة جدًّا، وعندما مر الحدث بانَ وكأنه مر به الإنسان من قبل أو أن يكون قد رآه قبل هذا اليوم. فالعقل اللاشعوري أو الباطن هنا، يكون قد سجّل معلومات في فترة قريبة مع العقل الواعي، لذا يتوهّم الشخص أنه مرّ بالتجربة.

تفسيرات تعتمد على الذاكرة

التفسير العلمي الأكثر دقة لهذه الظاهرة ربما يرجع إلى شذوذ الذاكرة حينما تقدم مشاعر خاطئة تقول للمخ إننا عشنا هذا الموقف من قبل، لكننا لا نستطيع تذكر تفاصيل الموقف السابق أين ومتى وكيف. فعندما يمر الوقت، يستطيع الشخص استرجاع بعض التفاصيل المشوّشة في الحادثة الجديدة، ولكن من المستحيل استرجاع تفاصيل الحالة الأولى، وهذا عادة ما يكون بسبب تشابك في الأعصاب المسؤولة عن الذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى.

وهناك تفسير آخر يقول بأن ديجافو ما هي إلا نتيجة معلومات قد تعلمناها من قبل ولكن نسيناها والآن استطعنا استرجاعها، فيُخيّل لنا بأننا نعيش الموقف مرتين، لأن المخ البشري لا يمسح أي معلومة سجلها وإن نسيناها.

ديجافو والتخاطر

التخاطر هو انتقال أفكار وصور عقلية بين الكائنات الحية من دون الاستعانة بالحواس الخمسة، أو باختصار هو نقل الأفكار من عقل إلى آخر بدون وسيط مادي، أي أنه يدرك أفكار الآخرين ويعرف ما يدور في عقولهم، وأيضًا باستطاعته إرسال خواطره وإدخالها في عقول الآخرين.

لذلك فإن اعتقاد البعض أن التخاطر سبب من أسباب الـ”ديجافو”، وأن هناك علاقة بين التخاطر والـ”ديجافو” كلام غير صحيح، فالتخاطر يختلف تمامًا عن الـ”ديجافو” ولا علاقة له به، فقد رصدت أسباب للـ”ديجافو” داخل عقل الشخص نفسه فلا حاجة لوجود شخص آخر يرسل المعلومات.

ظاهرة ديجافو ليست شيئًا خطيرًا، فقد حاول بعض العلماء إيجاد رابط بين هذه الظاهرة وبعض الأمراض النفسية كانفصام الشخصية والقلق، ولكنهم فشلوا في إيجاد أي علاقة بين هذه الظاهرة وهذه الأمراض. فهذه الظاهرة ليست مرضًا نفسيًّا أو عقليًّا وليست قوة خارقة، لكنها ظاهرة يكمن غموضها في حدوثها بشكل غير منتظم وغير متوقع ولفئة كبيرة من الناس، وبالتالي لا يمكننا رصدها وفهمها بشكل مناسب ولا نستطيع تحديد سببها بدقة.. فلا تقلق على نفسك أو على سلامتك العقلية في المرة القادمة التي تمر فيها بتجربة وتشعر أنك مررت بها من قبل، اطمئن أنت بخير.

أخيرًا، يجدر القول بأن الدماغ يعتبر من أكثر أجهزة الجسم غموضًا، وفهم واحدة من أغرب ظواهره سيستغرق بعض الوقت. ومن المحتمل أنك سوف تواجه العديد من تجارب الـ”ديجافو” قبل أن يستطيع العلم الوصول إلى تقديم شرح واضح عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك. فمع أن ديجافو قد تمت دراسته كظاهرة لأكثر من 100 عام، ومع تقديم الباحثين لعشرات النظريات حول تلك القضية، فلا يوجد حتى الآن تفسير واضح لما يعنيه ذلك، ولماذا يحدث؟ ولكن ربما مع تقدم التكنولوجيا سوف نتعلم المزيد عن كيفية عمل الدماغ، وربما نصل وقتَها للمزيد عن سبب هذه الظاهرة الغريبة.

(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.