في تطوير النظائر المشعة

قد نظن ببُعد الشُقَّة بين قدامى علمائنا والانشطار النووي الذي تحقَّق نهاية الحرب العالمية الثانية على يد الفيزيائي الأمريكي “روبرت أوبنهايمر”، والذي حوَّل فكرةً علمية إسلامية إلى تطبيق عملي غيَّر وجه الكون، بعد إلقاء القنبلتين الذريتين على “هيروشيما و”ناجازاكي” في 6 و9 أغسطس عام 1945م.

ولكن مطالعةً لمخطوطات “دَير الاسكوريال” الإسباني، ستلقي ضوءًا على اجتهاد “علي بن حزم” المُؤسس لنظرية انشطار الذرة، بما انبنت عليه تجارب فترة الحرب العالمية الثانية التي حسمتها، وغيَّرت وجه العالم بعد تفتيت الذرة، وهو ما أنتج الطاقة التي حاول “ابن حزم” حساب ناتج تفتيتها بما يُعدُّ أول اجتهاد بشري أفضى قبل ألف عام إلى وضع نظرية الجزيء الذي يتفتت إلى ما لانهاية، على يد ذلك الفقيه المسلم في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).

التأسيس القرآني لعلوم الطبيعة النووية

كان لوضوح طريقة الاستنباط الفقهي لابن حزم، الدور الأكبر في هذا الكشف العلمي المذهل، حيث إن الظاهرية التي أسس لها عالِمُنا، كانت العامل الرئيسي في تفهُّمه الإشارات العلمية في القرآن الكريم، التي ضمنها الحقُّ سبحانه في قوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة:٧-٨)، حيث تدل تلك الآية الكريمة على مضامين علمية كان ابن حزم أول مَن التفت إليها، وهي مضامين دقة حساب الله عز وجل المرهونة بقسطاسه المستقيم، الذي تتوازن أبعاده بما يؤدي لدقة كيله إذا ما أردنا التفسير الفيزيائي، والذي يقود بدوره للتفسير الغيبي “الميتافزيقي” بالتعبير الحداثي، بما كان أُسّ اكتشاف طاقة انفلاق الذرة، والتي قال فيها ابن حزم: “اعلم أن الله جلَّ في علاه قد جعل تلك الذرة مَنبَت الهُلامة ومَنقَع الجُمهُر، وجعل حِراك تلك الذرة حراك الكائنات جميعها من أوَّلياتها إلى أُخرَياتها، وجعل مَنبَت قدرة البشر حراك تلك الذرة، وجعل حراك الكون صفة حراك الذرة، فهي مُستودعُ حراك الكون كلِّه.

وما بين المدلولات العلمية للفظة “الهُلامة” التي تعني الجُسَيِّم الذي لا يُرى بالعين المجردة، والجُمهُر، وهو الجسم العظيم المتعدد الخواص الفيزيائية والكيميائية، يتضح الأفق المعرفي للآية الكريمة التي استدل ابن حزم من ظاهرها أن الذرة هي مفتاح الحركة الكونية كلِّها، والمحددة لحركة الأجسام الداخلة في تكوينها، فإذا كانت حركتها بطيئة كان الجسم الذي يتكون منها بطيء الحركة، والعكس بالعكس، وهو مفتاح الطبيعة النووية التي حوَّلت مسار البشرية فيما بعد.

أمَّا ما قاله ابن حزم من أن الذرة “مَنقَع الجُمهُر” فهو عين الفهم للطبيعة النووية؛ لأن “الجُمهُر” هو جمعٌ من الذرات الهائلة العدد والمنتظمة المسار، إذ إن “المَنقَع” في اللغة يعني التلاقح الذي يعتمل في انتظام وتراتبية، مكوِّنًا الفعل الفيزيائي الضخم للأجسام العظيمة، كالجبال والكواكب المكوَّنة من عدد هائل من الذرات، التي تدور إليكتروناتها بإذن الله تعالى في مدارات حول نواتها مكونةً ذلك الكون المنتظم: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء:33)، وهي السباحة في المدارات المنتظمة، وهي سباحة “الإلكترون” حول نواة الذرة المركبة من “بروتونات ونيوترونات”.

تطوير النظائر المشعة

إن نظرية الجزيء الذي ينشطر إلى ما لانهاية هي اكتشاف إسلامي خالص، وإن المسألة لم تقتصر على “نظرية الانشطار النووي” لابن حزم، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى اكتشافات غيره من العلماء المسلمين، الذين اكتشفوا كثيرًا من النظائر المشعة واستعملوها بفعالية في كثير من الأغراض الطبية. وكانت اكتشافات “الفخر الرازي” رائدة في العلاج بالنظائر المشعة التي اكتشف ذلك الطبيب المسلم فوائدها في علاج الأورام الخبيثة والخلل الهرموني والغدة الدرقية منذ تسعة قرون. فقد اكتشف “الرازي” كيفية توظيف النظير المشع لليود في علاج اختلالات الغدة الدرقية الناشئة عن زيادة إفرازاتها، بما يؤدي لتضخم الغدة واختلال الفعل الهرموني للجسم كله نتيجة لعطبها. وكانت التجارب التي أجراها “الفخر الرازي” لتفعيل النظير المشع لليود هي الأساس الذي بنى عليه “ألكسندر فيلمنج” تجاربه على “اليود المشع”، التي أثمرت أربعة عشر عقارًا مستخرجًا من اليود المشع أفادت في علاج الكثير من العلل الهرمونية، كالاختلالات الهرمونية المؤدية لعدم انتظام الدورة الشهرية لدى النساء، وحالات عقم الرجال نتيجة اختلال إفراز هرمون الأستروجين، وهي العلل التي عبر عنها الفخر الرازي بـ”العرض البدني الضار الناتج عن إفراز غير اعتيادي لسوائل البدن المنظمة لفعله الجسماني”. كان تعريف الرازي لليود المشع، نبراسًا فيما يتعلق بـ”ابتكارات العلاج الهرموني باستخدام النظائر المشعة كلها”، حيث عرف الفخر الرازي اليود المشع بـ”الترياق المحايد، الذي ليس بسمّ كله وليس بشراب له طعم، وهو ليس كالماء وإن كان مزاجه أقرب لمزاج الماء”. كما وظف الرازي اليود أيضًا، في علاج أربعة عشر مرضًا معويًّا وتنفسيًّا كالتهابات المعدة، وتقلصات المريء والقولون، وحساسية الصدر (الربو)، واحتقان البلعوم. وكان له السبق أيضًا في اكتشاف الخصائص العلاجية لاستخدام “اليود المشع” في ضبط الآثار الفسيولوجية للجسم كله؛ فقد اكتشف أن تحويل اليود العادي إلى يود مشع، يمكن بإضافة “ملح نترات الفضة”، وهو الملح المستخلص من الكائنات البحرية ذات التركيز الفوسفوري العالي كـ”سمكة الهامور” التي تكثر في مياه الخليج العربي، وأيضًا “كبد الدلافين” الذي كان يوجد قديمًا بكثرة قبالة سواحل الشام. وكانت إضافة نترات الفضة التي توجد بشكل طبيعي في الأسماك السالفة الذكر إلى اليود، كفيلة وحدها بتحقيق نتائج مذهلة في علاج التهاب الغدة الدرقية، المنتشر لدى الإناث في المناطق الحارة خلال مرحلة البلوغ، ويعد خطيرًا بعض الشيء، لأنه يسبب خللًا هرمونيًّا يؤثر على أعضاء أخرى في الجسم.

وقد توصل الرازي أيضًا، إلى نتائج كبيرة بعد إعطاء ربع درهم فقط “4 مليجرام” من “اليود المشع” لمريض بالغدة الدرقية، حيث تم شفاء المريض بعد تعاطي ثلاث جرعات فقط لثلاثة أيام متعاقبات.

وقد نعجب من توصل الفخر الرازي إلى كشوفات مذهلة حولت العنصر العادي إلى عنصر مشع في ذلك الزمن الغابر؛ إذ من المعروف أن تحويل العناصر العادية إلى عناصر مشعة، قد حدث في ثلاثينيات القرن الماضي بمعرفة أطباء ألمان نجحوا بالكاد في تطوير النظائر المشعة لعنصرَي “اليود” و”البروم” اللذين يستخدمان لعلاج الغدة الدرقية كما تقدم، إضافةً لعلاج بعض أمراض الجهاز التنفسي والأمعاء. إن تفسير هذا الأمر يتمثل في فلسفة الطب عند المسلمين الذين اعتبروا أن الغدد الهرمونية هي معيار سلامة البدن، فإذا أفرزت تلك الغدد هرموناتها بانتظام؛ انتظم عمل كل أجهزة الجسم. وقد عدد ابن حزم في مناظراته مع الطبيب الأندلسي الشهير ابن النغريلة ١٢ غدة تفرز ٢٤ هرمونًا لا ينتظم عمل الجسم دون إفرازها كلها، وهو ما أكده مخترع البنسلين “ألكسندر فيلمنج”، الذي أسس علاج اختلال إفرازات الغدد الليمفاوية على مناظرات ابن حزم وابن النغريلة، التي جرت في دكان ابن النغريلة بجزيرة مايوركا الأندلسية قبل أكثر من ألف عام. والغريب أن أحدًا من علماء الغرب قبل “ألكسندر فيلمنج”، لم يرتكز على تلك المناظرات في أبحاثه، بل إن “فيلمنج” اعتمد مباشرةً على نواتج مناظرات ابن حزم، وابن النغريلة؛ لعدم وجود أي أبحاث على النظائر المشعة وتأثيرها على إفراز هرمونات الجسم المختلفة بعد أبحاث ابن حزم، والفخر الرازي.

ويجدر أيضًا أن نتتبع البحث القيم الذي أجراه ابن حزم على عنصر البروم، الذي كان عنصرًا فعالًا منذ “جالينوس” اليوناني في علاج تقرحات المعدة وأمراض الأمعاء، كـ”القولون العصبي” و”التهابات الزائدة الدودية”، وكيف أن ابن حزم تمكن أيضًا من تحويل عنصر البروم في صفته العضوية البسيطة إلى البروم المشع باستخدام “السليماني” الذي ركبه جابر بن حيان. نقول إن تحويل العنصر العلاجي العادي إلى عنصر مشع، لا يعني تخصيب ذلك العنصر كما يجري تخصيب اليورانيوم حاليًّا، ولكن تحويل العناصر الطبيعية إلى عناصر مشعة علاجية يعني: زيادة العددين الدوري والكتلي لتلك العناصر بإضافة عناصر أخرى كيميائية، بما يؤدي لتحقيق الفعالية الطبية لتلك العناصر بعد تحويلها لعناصر مشعة. وإن تفهم الأطباء المسلمين القدامى لفسيولوجيا الجسم البشري، كان أساس التطويرات التي حولوا العناصر العادية بموجبها، إلى عناصر مشعة فعالة في علاج الكثير من الأمراض.

إن التعريف الحديث لـ”النظائر المشعة” هو نفسه تعريف العلماء المسلمين القدامى لتلك النظائر. وهو التعريف الذي انبثق عن رؤية ابن حزم للجزيء الذي ينشطر إلى ما لانهاية، لأن الطاقة المتولدة عن انشطار الجزيء، طاقة متجددة تنبعث بطريقة تتابعية، وهي في تجددها هائلة التأثير، بحيث لا يمكن ضبط مداها ولا كيفيات انبعاثها. وهو ما عبر عنه ابن حزم حين قال: “واعلم أن الجزيء في انبعاث طاقته، أعظم من أن تسعه فضاءات الكون، إذ هو مرمى الحق سبحانه في قوله: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (النمل:75)”. وكان تفسير ابن حزم ينبثق عن المدلول العلمي الذي توصل إليه من واقع نظريته في “الجزيء الذي يتفتت إلى ما لانهاية”، حيث كان تفسيره  للآية الكريمة شارحًا لها من الناحية العلمية الخالصة، حيث قال: “إن كل ما يغيب عن الأعين قد اختزن الله فيه دلائل الحكمة وعجائب القدرة. وكان الجزيء الذي هو شطر الذرة عين حكمة كل شيء، فمن نظر فيه رزق الدليل الأكبر والسر الذي استكنت فيه دلائل القدرة”.

كان لأبحاث المسلمين في تطوير النظائر المشعة دور كبير أيضًا في تأسيس “الفارماكولوجي” وهو العلم الخاص بدراسة تأثير تعاطي كميات سموم محدودة على عمل وظائف الجسم المختلفة، حيث يعد “علم الفارماكولوجي” عربي المنشأ. وكان لنجاح المسلمين في تطوير “النظائر المشعة” دور رئيسي في نشأة هذا العلم التكميلي للعلوم الطبية، بمعنى أن “البيطرة” أو “الصيدلة” بالتعبير الحديث، لم تتبلور كعلم سوى بـ”معرفة الخصائص المختلفة للعقاقير الطبية بواسطة الفارماكولوجي، الذي استكمل العلماء المسلمون خصائصه الأساسية مع اكتشاف خصائص النظائر المشعة للمواد العلاجية”. ومن ثم، فإن بلورة المسلمين لأسس طبية جديدة قد تأصل على فهمهم للخصائص التي يكتسبها الدواء حال ما يتحول إلى نظيره المشع.

(*) كاتب وباحث مصري.

المراجع

(1) مخطوطة الحد والرسم، لابن حزم.

(2) مخطوطة حد الطب، لابن حزم.

(٣) مخطوطة “في الأدوية المفردة”، لابن حزم.

(٤) مخطوطة “اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادة”، لابن حزم.

(٥) كتاب الأشربة لـ”الفخر الرازي”.