في ذلك اليوم أخبرتني أمي أنه لا يوجد طعام في البيت يسد جوعي، غضبتُ وتذمرتُ وزمجرتُ، وفي النهاية جلستُ ساكتًا دون كلام. بعد قليل رَقّ لي قلب أمي كعادته، قامت وجاءتني ببعض الخبز وقطعة من الجبن.. كان ذلك هو طعام إخوتي الصغار ولكن لغضبي آثرتني أمي به استرضاءً لي.. فهي كأي أمّ لا تطيق رؤية ابنها غاضبًا أو حزينًا أو جائعًا، وعلى النقيض لم يرقّ لها قلبي؛ استمر غضبي وتذمري، بل زاد إعراضي وغادرتُ البيت رغم انهمار دموع أمي.

سرتُ في الشارع متأملًا الحوانيت على اختلاف بضائعها.. كانت عيناي تنجذب أكثر نحو المنصّات المعروض فوقها أنواع الأطعمة الشهية، تذكرت أبي قبل وفاته حين كان يحضر لنا من كل ما لذّ وطاب من تلك الأطعمة.. وقفتُ أمام أحد تلك الحوانيت، وبتُ أحدق في المعروض فيها من لحم وطعام شهي.. تخيلتُ نفسي ألتهم أطنانًا منه بنهم وبلا هوادة.. آلمني ضميري قليلًا على ما فعلته مع أمي، من المفترض أنني أكبر إخوتي والمسؤول عن الأسرة بعد رحيل أبي، ورغم ذلك كنتُ أتذمر لأمي قليلةِ الحيلة مشتكيًا من ضيق الحال الذي لم يكن لها ذنب فيه.. هربتُ من مطاردة ضميري لي وأكملتُ التحديق في أنواع الطعام المختلفة مكتفيًا بخيالاتي في التهام ما أشتهي منها.. أخرجني من خيالاتي رؤيتي لتلك الفتاة الصغيرة التي تبدو في أوائل عقدها الثاني من العمر، كان باديًا عليها علامات الفقر بشدة، كانت ثيابها رثّة وبنيتها ضعيفة، وكان شعرها أجعد ومعقوصًا من الخلف ومحزومًا بخرقة من القماش، كانت لا تتضح ملامح وجهها من كثرة الأوساخ التي كانت ترسم فوقه خريطة بؤس لا مثيل له.

وقفتُ بمحاذاتها، تأملتُ في حالها، رغم فقرها الواضح إلا أنها جلست في رضىً عجيب على جانب الطريق تبيع المارة عبوات المناديل وهي تبتسم في وجه كل من يبتاع منها.. كانت لا تنطق بكلمة واحدة أثناء جلوسها، بل كانت منهمكة في الرسم على صفحات دفتر بين يديها، كانت ترسم شيئًا ما يدور بخلدها.. اقتربتُ منها أكثر، رمقتُ ما كانت ترسمه ولم تلاحظني من عمق انغماسها، لاحظتُها تتأمل فيما رسمتْ ثم انفرجتْ شفتاها مبتسمة إعجابًا بما رسمت أناملها.. أحيانًا كانت تغمض عينيها لتتخيل شيئًا ما، ثم تعود لتطبعه فوق تلك الورقة التي كانت ترسم عليها.. غبتُ واقفًا أراقبها دون حساب ما مرّ من وقت، حين نفذت بضاعتها التي كانت تبيعها انفرجت أساريرها ثم بسرعة وقفت، جمعت جنيهاتها القليلة وأخذت تلملم أغراضها استعدادًا للذهاب.. كان التوتر باديًا على وجهها رغم سعادتها بانتهاء عملها، كانت تنظر إلى السماء متأملة الغروب وهو يداعب صفحات السماء ليفسح الطريق للظلام ليسود بهدوء.. حملتْ أغراضها بسرعة وسارت في طريق يبدو أنها كانت تحفظه جيدًا. لاحظتُ سقوط ورقة من دفترها دون أن تنتبه، غادرتْ مسرعة وتركتها وراءها.. طارت الورقة بالقرب مني فالتقطتها بسرعة، تأملتُ فيها فأبهرني ما رسمته الفتاة بها، كانت فنانة صغيرة بحق، رسمتْ بيتًا جميلًا ذا حديقة خضراء واسعة، وكان في الحديقة طفل وطفلة يلعبان ويجلس أمامهما والداهما يصفقان لهما.. كانت الصورة تنطق بالكثير رغم أنها لم تتجاوز مجرد رسمة مطبوعة على تلك الورقة، ورغم مهارة الرسمة إلا أنني تنسّمت رائحة الحزن والانكسار تفوح من بين تفاصيلها بوضوح.. بسرعة تتبعتها، رمقتها من بعيد تدلف إلى شارع جانبي، حثثتُ سيري ولحقت بنفس الشارع ومن بعيد وقفتُ أتابعها.. كانت تقف أمام حانوت بقالة متواضع لتشتري بجنيهاتها القليلة بعض الخبز وقطعة صغيرة من الجبن.. أخذتْ مشترياتها وأكملت سيرها إلى نهاية الشارع حتى انحرفت إلى زقاق ضيق، خرجتْ من الزقاق إلى مكان فسيح متوارٍ خلف بعض البنايات العالية التي كانت تدير ظهرها لذلك المكان.. لم يكن سوى مربع لإلقاء النفايات والخردة والحجارة والركام، وفي جانب منزوٍ خلف أكوام الركام تلك، كان يقف ذلك الكوخ الخشبي الصغير.. كان الليل قد أطبق بالفعل وأضاءت بعض تلك البنايات أضواءها لتصل بعضُ الإضاءة على استحياء إلى ذلك المكان.. تواريتُ خلف كوم من الخردة ورأيتُ الفتاة تقترب من ذلك الكوخ.. لمحتُ أمامه طفلًا صغيرًا كان يلعب ببعض قطع الأخشاب والحجارة والدمى الممزقة.. نادت عليه الفتاة حين اقتربتْ منه، وبمجرد أن سمع صوتها فرح وتهلل وجرى نحوها فاتحًا ذراعيه ومستقبلًا لها.. باعدتْ بين ذراعيها لتستقبله ثم احتضنته وحملته متهللة وباسمة، أخذتْ تلثمه وتربت على ظهره، أخبرتْه أنها أحضرت له الطعام فازدادت ضحكاته، واتجهتْ به نحو الكوخ.. اقتربتُ وراءها ورمقتُ ما بداخله، لم يصعب عليّ رؤية ما فيه؛ فقد كان يحتوي على بعض الأقفاص القديمة المتراصة بجوار بعضها لتصنع سريرًا للنوم إلى جانب بعض الأغطية البالية.. وفي الجانب الآخر كان هناك بعض الأواني والأطباق الفارغة، كما كانت هناك تلك المرأة.. سيدة تبدو في عقدها الرابع من العمر تجلس فوق كرسي بعجلات متحركة، وكانت ملامحها تنطق بملايين من المشاعر المختلطة، بدا عليها علامات المرض والشقاء والحزن والهجر والوحدة والألم.

دخلت الصغيرة إلى الكوخ وبيدها كيس أغراضها وكيس الطعام الذي ابتاعته، أقبلت إلى أمها واحتضنتها وقبلت جبينها ويديها، ثم قبّلتها الأم وهي ترمقها بنظرات الحنان والحب.. رأيتها تخفي وراء تلك النظرات بحارًا من الدموع والآلام التي تنوء بها الجبال.

بسرعة جلست الصغيرة وأخرجت الطعام، أفرغت الجبن في صحن بلاستيكي صغير ووضعته أمام أمها، أعطتها رغيفًا من الخبز وجلست جوارها وأجلست الصغير على فخذها، وأخذت تطعمه بعض اللقيمات في فمه وهي تضاحكه.. أجّلت إطعام نفسها حتى فرغت الأم وشبع الصغير، تبقى لها بعض الجبن ورغيف من الخبز، أكلت وهي تبتسم ثم أخذت تقص على أمها ما مرت به في ذلك اليوم.. وبعدما فرغتْ من الطعام قامت واتجهت إلى حقيبتها الأخرى، أخرجت دفترها بتلهف وفتحته على شيء ما لتريه أمها والصغير.. تفقدت الدفتر فتغيرت ملامح وجهها فجأة وضاقت أساريرها، تصفحت الدفتر مرات ومرات فانتشرت ملامح الحزن أكثر فوق صفحات وجهها، تلفتت حولها كثيرًا.. بعدها أصابها اليأس وجلست والدموع تنهمر فوق وجنتيها، اقترب منها الصغير وأخذ يواسيها ويربت على كتفها.

علمتُ ما حدث؛ كانت الفتاة تبحث عن لوحتها التي فقدتها دون أن تدري، بسرعة قررتُ أن أظهر أمامها وأفاجئها، اقتربتُ ووقفتُ أمام باب الكوخ، رأتني الصغيرة فخافت واحتضنت أخاها.. ابتسمتُ لها فارتاحت ملامحها قليلاً، نزلتُ على الأرض أمامها حتى لامستْ ركبتي أرضية الكوخ في مقابلها، وببطء أخرجتُ لها لوحتها ومددتها إليها.. تفاجأتْ الصغيرة بلوحتها المفقودة أمامها، خطفتها من يدي بسرعة، ابتسمتْ ثم ضحكت وهي تمسح دموعها، افترّ ثغرها الناصع من بين أكوام من الأوساخ والألآم، قامت مسرعة وأعطت اللوحة لأمها وأخيها ليشاهداها.. فرحوا جميعًا وعلَت أصوات الضحك في ذلك الكوخ الكئيب.. أقبلت الفتاة نحوي، ودون أن تنطق احتضنتني بقوة.. شعرتُ برقة تصيب قلبي كنتُ قد نسيت الشعور بها منذ زمن.. انحدرت بعض قطرات الدمع من عيني.. تعجبتُ من حالي كثيرًا؛ فقد كنتُ أظن أن عيني لا تعرف البكاء أبدًا، ربتُ على كتفها ولثمتُ جبينها، ثم قمتُ لأغادر وبيني وبين نفسي عهد ألا تغادر روحي هذا الكوخ أبدًا.

رجعتُ إلى بيتي.. فتحتُ الباب فوجدت أمي ما زالت تجلس واضعة رأسها بين كفيها والدموع ترتسم فوق وجنتيها.. أسرعتُ نحوها واحتضنتها وأنا أبكي، ربتُ على ظهرها وضممتها نحوي بشدة، أخذتُ أقبل رأسها ويديها.. رأيت الدهشة في عينيها من تبدل حالي بتلك الصورة، لم تنطق لكن بكاءها أخذ يزداد.. اعتذرتُ لها عن كل ما فعلتُ في حقها وحق إخوتي، وعاهدتها أن أكون ابنها الذي يمكنها أن تستند عليه بحق بعد مغادرة أبي الدنيا.. كما عاهدت ربي أن أرضا بما قسم لي، وألاّ أسخط على قضائه ورزقه.

علمتُ أن الله أرسل لي تلك الرسالة وأرادني أن أقرأها بعناية.. وبالفعل قرأتها جيدًا.. بالفعل أصبحتُ شخصًا جديدًا منذ تلك اللحظة.. بالفعل جعلتني تلك الفتاة أشعر بضآلتي جوارَها.. بالفعل رأيتُ في ذلك الكوخ الفقير الضيق بيتًا جميلًا وحديقة خضراء واسعة وأطفالًا سعداء.. بالفعل رأيتُ الرضا ثوبًا يلبسه الكثيرون ممن ضيّقت عليهم الدنيا سبُلها وألجأتهم إلى الركون تحت أسقف الظلام وبين أزقة الفقر.. رأيتُ تلك الفتاة تسعد نفسها وأسرتها بلوحة السعادة التي لم ترها في الحقيقة قط.

(*) كاتب وأديب مصري.