الظالمون بألسنتهم

الظلم أشكال وأنواع، والظالمون تبعًا لذلك أصناف وأنواع، فهناك الظالمون بأيديهم، والظالمون بعلمهم والظالمون بكتاباتهم والظالمون بمناصبهم… وهناك الظالمون بألسنتهم، وهم موضوع هذا المقال.

والظالمون بألسنتهم منهم هؤلاء:

المغتابون:

يطلقون العنان لألسنتهم، يخوضون في الحديث عن غيرهم من غير استحضار وَخامَة العاقبة وخطورة التَّبعة… يتخذون إخوانهم موضوعًا لكلامهم. والمستقبح فيهم أكثر، اختيارهم- في الغالب – سرد النواقص والعيوب المتعلقة بالآخرين، وينسيهم ذلك البحث والنظر في عيوبهم وأولها الغيبة، هذه الصفة الذميمة التي تعتبر أكبر من الزنا يلاقونك بالبشر والبشاشة وفي غيابك تصير صفاتك الخلقية أو غيرها أو كلاهما موضوعهم للتندر والانتقاص بمبرر أو بدونه…

المغتابون مغبونون في فراغات أيامهم،لا يشغلونها في التفقه في الدين ولا في النجاح في الدنيا… يذكرون الغير لا لشيء إلا لتزجية الوقت رغم أن العمل أكبر من الوقت كما يقال، وكل فراغ لم يملأ بالخير يملأ بعكسه إنهم مغبونون بحق لأنهم يتلهون بالمهلكات بدل طلب الخيرات، يظلمون أنفسهم وغيرهم… وبدل الفوائد يناقشون أمورًا تزيد ميزان سيئاتهم ثقلاً يرجِّح القذف بهم في النار والعياذ بالله… لفظاعة ما يقومون به شبههم الله تعالى بآكلي لحوم إخوانهم، وكأنهم بذلك أخرجوا من صورة الآدميين إلى صورة المتوحشين المفترسين… هؤلاء لن يرتقوا بسلوكياتهم ما داموا ينشغلون بعيوب الغير، غير مهتمين بعيوب أنفسهم سعيًا لتزكيتها، والعقلاء هم الذين يحاسبون أنفسهم قبل أن يواجهوا أهوال يوم لا ريب فيه.

النمامون:

ينقلون الكلام بين الناس للتبغيض وإيقاد نار الفتنة بين الإخوان والأصدقاء غرضهم النيل من المتحابين والمتآخين بالإفساد والتفرقة والشحناء… إنهم يقترفون محرمًا وذنبًا عظيمًا، فهم يستطيعون إفساد ما لا يفسده السحر… إنهم يفسدون بين المرء وزوجه، بين الأب وأبنائه… يحوِّلون سكينة القلوب وحبها إلى اضطراب وكره وحقد، فهم يزرعون الشر مكان الخير، والوحشة مكان الألفة، دأبهم الوحيد إنشاء الفرقة حيث الوئام، وإذكاء النزاع حيث الوفاق… حاقدون كارهون سعيهم تفريق أو عراك بين المتحابين المتوائمين… يثيرون الفتن للتسلي بمصائب الآخرين، وهم السبب في نشوئها… يجاملون ويتقربون إلى غيرهم كي يُحمدوا، وفي الغالب يخسرون الهدف حيث يقعون فريسة الندم وسوء التخلق، والعجب أنهم لا يتعظون بالوقائع فسرعان ما يعودون إلى سيرتهم الأولى، فيستمرون في النقل وإذكاء نار العداء والخصام بين الناس. هؤلاء ظالمون بألسنتهم، جزاؤهم الويل، قال تعالى: (ويل لكل همزة لمزة)، ومآلهم الحرمان من الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات).

هؤلاء ظالمون لأنفسهم قبل غيرهم فالنمام بمثابة المفسد لأعماله الصالحة إن كانت له أعمال صالحة، المعذب في للقبر، الحامل لخبر غير صادق مما يدخله في دائرة الفسوق، وهو الخاسر لوقته وحسناته. فسيء الخلق قد يكون من أهل النار ولوكان ملتزمًا بأداء العبادات، وهو البغيض إلى الله وإلى الناس، وهو الحاصد للسيئات والمذمة بدل الحسنات والمحمدة. ذو الوجهين وحاله حال المنافق المظهر للصلاح والإصلاح من أجل الإفساد وزرع البغض بين الناس.

الشاتمون:

يشتمون ويلعنون، وشتمهم ولعنهم يتجاوز الإنسان إلى الحيوان والجماد والزمان والدين والوالدين… لقد تطبعوا على الفحش وبذاءة اللسان، وهؤلاء كثيرون تسمعهم في الأسواق والأندية والمؤسسات. قال صلى الله عليه وسلم: (المتسابان شيطانان يتعاويان ويتهاتران)، وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن ليس بلعان). فالشاتمون انطلاقًا مما أشير إليه يقترفون ذنوبًا لا يستهان بالإثم والعقاب المترتب عنهما.

الساخرون المستهزئون:

يحتقرون الآخرين، فلا يجدون ضيرًا من ذكر عيوبهم ونقائصهم، يستهدفون بذلك المضاحكة والإذلال، لذا يسرهم مراقبة هنات وأحوال وصفات الآخرين لا لإصلاحها، بل للتنكت عبرها، وإعادة إظهارها تهكمًا واستصغارًا، يسخرون بأقوالهم أو بإشاراتهم أو بالمحاكاة، وبذلك يخالفون نهي الله عن السخرية والاحتقار، قال تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن)، والمعلوم أن سورة الحجرات التي ورد فيها النهي عن السخرية تسمى بسورة “الأخلاق والآداب” ومن ذلك النهي عن السخرية بالناس… فالساخرون مغفلون فقد يكون المسخور منهم خيرًا منهم وأعلى درجة عالية عند الله وهم لا يعلمون.

المفشون للأسرار:

إنهم خائنون لأن السر أمانة كسائر الأمانات التي ينبغي حفظها، ومضيع الأمانة خائن… الخائنون من الأشرار الظالمون لأنفسهم ولغيرهم، يفضحون الأسرار بعد استيداعها من قبل أصدقائهم أو أقربائهم… وبذلك يخالفون حقيقة الصحبة والأخوة والمحبة الصادقة وبهذه الصفة يسقطون في الكذب علاوة على الخيانة والرياء والعياذ بالله. قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر عورة أخيه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة). ومن المفشين للأسرار أولئك الرجال أو النساء الفاضحون لما يجري بينهم سرًّا في بيوتهم. وهم من أشر الناس لفظاعة الذنب الذي يقترفونه. ويبدو ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرهما).

المازحون:

يبالغون في التفكه والهزل… حديثهم لا يخلو من تجهيل أو تكذيب أو احتقار، لا يلتزمون آداب الحديث، بل كثيرًا ما يجانبون الحق، مما قد يورث الضغينة في نفوس على حساب نفوس خلافًا لمزاح النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إني لا أمزح ولا أقول إلا حقًّا). فالمزاح القليل الملتزم فيه بالحق مباح ولا بأس به.

المازحون لا يحترزون من ممازحة الكبار والصغار فيجنون وراء ذلك آثامًا وآثارًا سلبية كثيرة منها: فقدان الهيبة والوقار، الانجرار إلى القبيح من القول والخوض في المحظورات طلبًا للضحك والإضحاك، إذاية الآخر سواء أكان مقصودًا بالمزاح أو كان مستمعًا متقيًا، البعد عن الحق غالبًا، استحقاق العقاب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).

المتدخلون فيما لا يعنيهم:

هؤلاء كثيرون، ينساقون وراء أهوائهم بلا رادع ولا استحياء فيذكرون عيوب الناس غاضين الطرف عن محاسنهم بدافع الحقد والحسد… وقد قيل بأن المشتغل بما لا يعنيه فاته ما يغنيه. وأن الإنسان المتعهد لنفسه بالنقد والمؤاخذة يجانب الخوض فيما لا يعنيه.. والذي يعرف عيوبه ويقبل على التخلص منها هو الجدير بإصلاح نفسه وتزكيتها، وذاك طريق الفلاح، قال تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).

وتجدهم في كل مجلس يخوضون في الحكي عن الموبقات والرذائل،فيذكرون المستقبح والحرام من الصفات والأفعال،يتحدثون عن مجالس الرقص والخمر وما يشبه ذلك مما نعده إفشاء وإشاعة للمعاصي، فكل ما لا ينفع في المعاش والمعاد باطل مهلك .فاللبيب والكيس من احتاط مما يتفوه به حتى لا تدخله لفظة في سخط الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح.

إن الظالمين بألسنتهم كثيرون فمنهم المراءون المتقعرون في الكلام والمبلغون في المدح تملقًا والحلافون المفترون والمغنون بشعر الفحش والكاذبون على الله ورسوله والمجادلون بالباطل والهاتكون لستر أنفسهم. وقد اقتصرنا على بعض أصنافهم للقياس عليهم وفي ذلك نأخذ العبرة مما ينتظرهم من سوء العاقبة إن لم يهرعوا للتوبة والاستغفار…

إن النجاة من اقتراف الظلم باللسان ليس بالأمر الهين، وسبيل ذلك هو تقوية الإيمان بالله، واستحضار نواهيه وأوامره، علاوة على ما جاء من الهدي في حديث وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

جعلنا الله من المهتدين الصائنين لألسنتهم من الفحشاء والمنكر، آمين.