قصيدة: “الزمن” رمضان

الشاعر: محمود حسن إسماعيل (1910 – 1977م)

أديب وشاعر مصري راحل، ينتمي إلى المدرسة الرومانسية، عده النقاد واحدا من أبرز الشعراء المجددين.

ولد ببلدة النخيلة بمركز أبو تيج، بمحافظة أسيوط في 2 يوليو عام 1910م، والتحق بكُتاب البلدة، وأكمل حفظ القرآن الكريم وهو في التاسعة من عمره. انتقل إلى المدرسة الابتدائية بالبلدة ثم أكمل الدراسة الثانوية بالمركز، والتحق بمدرسة دار العلوم بالقاهرة وتخرج عام 1936م.

عمل بعد تخرجه محررا لغويا بمجمع اللغة العربية، وتغنى بشعره كبار المطربين، ومن أشهر قصائده «النهر الخالد»، «ودعاء الشرق»، اللتان شدا بهما الموسيقار محمد عبد الوهاب، وأنشودة «يد الله» للمطربة نجاح سلام، وأغان أخرى مختلفة.

أصدر عدة دواوين هي على التوالي: – أغاني الكوخ، 1935م – هكذا أغني، 1937م – الملك، 1946م – أين المفر، 1947م – نار وأصفاد، 1959م – قاب قوسين، 1964م – لا بد، 1966م – التائهون، 1967م – صلاة ورفض، 1970م – هدير البرزخ، 1972م – صوت من الله، 1980م – نهر الحقيقة، 1972م – موسيقى من السر، 1978م – رياح المغيب، نشرته دار سعاد الصباح لأول مرة عام 1993م.

حصل على عدة جوائز وأوسمة منها، وسام الجمهورية عام 1963م، وعام 1965م، وجائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1964م، ووسام تقدير من الرئيس التونسي بورقيبة.

توفي في 25 أبريل سنة 1977 في الكويت، وأعيد جثمانُه ليدفن في مصر.

القصيدة:

جاء في الديوان الحادي عشر (صوت من الله) ص (١٧٦٣ – ١٧٧٠):

أضيف أنتَ حَلَ على الأنَامِ
وأقسَم أَنْ يُحيا بالصيام؟!
قطعتَ الدهر جَوابًا وفيًا
يَعودُ مَزارَهُ في كل عام
تُخيم.. لا يَحدُّ حماكَ ركن
فكل الأرض مهدٌ للخيام
نسَخْتَ شعائرَ الضيفان، لما
قنعتَ من الضيافة بالمقامِ
ورُحت تَسُنُّ للأجوادِ شرعًا
من الإحسان عُلوي النظام
بأن الجودَ حرمَان وزُهْد
أعزُّ منَ الشراب أو الطعَام!!

**         **          **

أشهر أنتَ أم رُؤْيا مَتاب
تألق طيفُها مثل الشهاب؟
تَمرغَ في ظلالِكَ كل عاص
وكلُّ مَرَجَّس دَنِس الإهابِ
فأنتَ محير الآثام.. تَجْري
فتَلْحقها بأحلام العذابِ
تَراكَ شفيعَ تَوْبتَها، فتَخْزى؛
وتُوأَدُ تحت أجنحة الشباب!
وأنتَ مَنارة الغُفْران، يأوِي
إليك اليائسون من المتاب
وعندَ الله سُؤْلُك مستَجابٌ
ولو حُملتَ أوزارَ التُّراب!!

**         **          **

وقفتَ خُطاكَ عندَ البائسينا
فكنتَ للَيلهم فلقًا مُبينا
تُساقُ إليكَ أمواجُ التحايا
فتدفَعُهَا لباب المُعوزينا
فكم آهات محْروم حَدَاها
إليك البؤسُ! فانقَلَبتْ رَنينًا
فأنتَ مفزع البُخالْ.. تَجْري
خُطاكَ على حجارتِهِم مَعينا
وأَنتَ مُلَقن الأيدي نَداها
ومُكسبُها التراحُم والحْنينا
يخَافكَ كلُّ قارون شحيح
فيخْجلُ أنْ يُردَّ السائلينا

**         **          **

ومُنْذُ تَهِل ترهَبُكَ الذُّنوبُ
وتَخَتشِعُ السرائرُ والقلوبُ
وتفزعُ أن تُقابلك المعَاصي
فتُهْرَعُ أو تُقَنعُ، أو تذُوبُ
ويُجفل أنْ يراك أخو هَواها
ولو قَتَلَتْ مشاعره العُيوبُ
كأنَّكَ فارسُ الأيام، تَبدُو
فيصعقها مُهنَّدُكَ الغَضُوبُ
كأنَّ بكفِّك البيضاء سرًّا
من النَّجْوى تَكتَّمُهُ الغيوبُ
تُجابهُ كلهَ غَيَّان عَنيد
فيَكتَتِمُ الغِوايةَ أو يَتُوِبُ
جعلتَ النَّاس في وقت المغيبِ
عبيدَ ندائكَ العاتي الرَّهيبِ
كم ارتقَبُوا الأذانَ كأنَّ جُرحًا
يُعذبُهمْ تَلَفتْ للطَّبيب
وأتلَعَتِ الرِّقاب بهم، فلاحوا
كَرُكْبان علَى بلَد غَريبِ
عُتاةُ الإنسِ، أنتَ نسخْتَ منهم
تَذَلُّلَ أَوْجُهِ وضنى جُنوبِ
فيا.. من لقْمة، حفيف ماءِ
يُقِّلب روحَه فوقَ اللهيب
علامَ البغْيء والطغيان؟! إِنِّي
كفَرتُ بمنطق الدُّنْيا العَجيبِ!

**         **         **

تَلفتْ للمآذِنِ حاليات
كَحُورِيَّات خلْد سافِراتِ
تفوحُ مباخرُ النُّسَّاك منها
فتحسبُها غُصونًا عاطراتِ
كأنكَ حامل وحيًا إليها
وقَفْنَ لسِحرِه متلهفاتِ
إِذا صاحَ الأذانُ بها أَرنَّتْ
بإلهام كموْج البَحرِ عاتِ
يذكَّرُ بالهِدايةِ كل ناس
ويُوقِظُ كلِّ غاف في الحيَاةِ!

**          **          **

وهذا المعُجِزُ العالي الرَّخيمُ
أَذانُ الله، والذْكر الحكيم
تَلَاهُ في سكون اللَّيل تال
فكاد لِهَوله تَهْوِي النجومُ
نِداء تفزَغُ الأفلاك منه
ويخشعَ في مساريه السَّديمُ
على سمْع الهُداة يَضُوعُ عطرًا
وتُقذَفُ منه للغاوي رُجُومَ
أصاخ الكونُ مسحورًا إليه
وخَر لبأسِه الأزلُ القَديمُ
تَنَزلَ فوق صدرِكَ منْ علاه
يشيرُ الوَحْي، والدِّينُ القَويمُ

**         **          **

سلامًا ناسَكَ الزمنِ القَوِيِّ
منَ القلبِ الحزين الشاعري
حملتُ إليك أشواقي وسري
لتَحْمِلَها إلى الأُفُق العَلِي
أمُر بها على زمنى غريبًا
كطَير تاهَ في ظُلَم العَشي
وأعزِفُ للصبائحِ والأَماسي
فينتَفضُ الغناءُ لِكُلِّ حَي
كأني ما ذرفتُ أسىَ زماني
ولا أَفضَى صَداي بأيِّ شَيّ!!

**         **          **

طَلعْتَ منوِّرًا فوق العباد
فأيقظْ من تشبثَ بالرقاد
وقل للشرق: إن الكون يَمْشي
على سُبُل مغيبة الرَّشاد
فخُذ لزمانكَ الزَّاد المرَجّى
من الخلقِ القويم والاتحاد
ولا يوقفْكَ في التيار هولٌ
فنارُ الهوْل، نورٌ للجهاد
لقد ملَّتْ تقلبنا الليالي
على وَضَرِ التنعمِ والفَسَاد
شَدَا لكَ بالأذان خميلُ مصرِ
فَقُمْ.. وانشُر صَداهُ على البَوادِي!!