الزرع من تجليات “الكريم”

(مقال من وحي الشعاع الثالث، كتاب “الشعاعات” للنورسي)

هذه السطور ستجري على غير ما اعتاد كاتبها. وستسترسل كما كان يسترسل صاحب الشعاعات، واللمعات وسائر رسائل النور “بديع الزمان” رحمه الله تعالى. لكنها لن تطاوله وهو القامة، ولن تباريه وهو الرائد، فقط جهد المُقلد المقل، ومن سار على الدرب أوشك أن يصل. وستلامس السطور موضوعًا له خيرات كثيرة، ومنافع عظيمة وافرة. فلو غاب لغابت الحياة، وفسدت العلاقات، واختلت التوازنات، وتهدمت البيئات، وزالت الحضارات. إن لكلّ بذرة، وقطرة ماء، ونبت، وجذر، وساق، وغصن، وورقة، وزهرة، وثمرة أعمال، ووظائف، وتسخير، وصلاة، وتسبيح، وتجلٍ لأسماء الله الحسنى ومنها “الكريم”.

فهذه بذور دقيقة ـ عارية ومُغطاة ـ تهتف باسم الله، حاملة في طياتها تاريخ الحياة. فهارس الأشجار، وأسرار الأزهار، وتنوعات الثمار. بذور لا تتزاحم على نيل مواطن إنباتها. فقد وهبت سبل نثرها وانتشارها. فمنها ما تشقق عنه الثمار، أو “تقذفها” الأشجار.  ومنها ـ خفيف الوزن، لطيف الحمل، صلد الجدار، عظيم المؤونة ـ يسبح طافيًا عبر الماء.. مطرًا ونهرًا. وأخرى مغطاة بسرابيل تقيها العصارات الهاضمة للطير والحيوان والحشرات. وقد تلتصق بمادة لزجة أو أشواك أو كلاليب بأجسام هذه المخلوقات. ويقدم النبات لمؤبراته مكافآت غذائية (رحيق، وحب طلع). أما المؤبرات ـ عبر حصولها على الغذاء ـ تنقل حب الطلع من نبات لآخر، مما يؤدي للإخصاب وإنتاج البذور. ولا تظنن أن جذب المُلقحات للتأبير، وردع العواشب المفترسات عن التدمير أمر هين يسير. إن كثيرًا من النباتات تجتهد في المحاكاة لتشمل بالموائمات التكاثرية. ومن فضله تعالى.. يرْسل الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فتقدم للبذور خدمات جليلة. تدحرجها، وتقذفها، وتطيرها، وتهبطها لتصل لموضع إنباتها. ومن العجب أن لبعضها شعيرات كمظلّة طيران، بينما تكون غيرها ضمن كور مليئة بالهواء.

وقطرة الماء ضرورة الزرع، فحياته رهن بوجودها، فكم في الأرض من قطرات ماء؟ّ. اثنان وسبعون بالمائة من سطحها مغطى بالماء، ومنه خلق “الحيُّ القيوم” كل شيء حيّ. ماء أجاج يتبخر، وسحاب ركام يتبختر. والرياح جاريات، والبروق مُبشرات، وما من رعدات إلا مُسبحات. ثم تعصر المعصرات، فيَنزل الماء عذبًا فراتًا، يَنَابِيعَ سالكات مُغيثات لذوي الحاجات. وتصحو الأرض الخصبة، وتبعث من بعد موتها، وتهْتَزَّ وتربو، فينبت الزرع ـمن المادة العضوية المتحللةـ أزوجًا، مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ، وتبهج الخضرة، وتزهو الزهور، وتغرد الطيور، ويطيب الثمر، ثم يَهِيجُ مُصْفَرًّا، ويبدل سرابيله، أو يكون حُطَامًا. وحتى مع ذلك، فهو الجميل الجليل الباقي، لا نحزن على زوال الجميلات التي هي مرايا للأسماء الجميلات لتبقى هذه الأسماء بجمالها مجردة بعد زوال المرايا.

ومن ظلمات التراب.. ينتخب، ويقتات كل نبات، وجذر ضارب في الصخور الصماء، وكل ساق مشرع نحو السماء، وكل غصن متطاول وارف الظلال. وتتحمل كل ورقة من أوراق الزرع زَمهَرير الشتاء، وقيظ الصيف لتبقى طرية ندية. وتُلهم استثمار الماء، وطاقة الشمس، وغاز ثاني أكسيد الكربون لتكون المواد الغذائية.. كربوهيدراتية وبروتينية وفيتامينات وأملاح إلخ. وأربع وتسعون بالمائة من مجموع غذاء البشر مصدره ذلك “المفاعل” الحيوي النباتي. مفاعلات عاملات في أرض مُعدة مجهزة بكل ما يلزم من ضرورات لحياة البشر، ويساق إليهم رزقهم وما يحتاجونه، وما يناسبهم. بل ويتجدد ذلك حينًا بعد حين في تعاقب زروع وثمار كل فصل من فصول العام.

ويهب الزرع الأكسجين للبشر والحيوان والطير. ميزان موزون ـ يربط المحيط الأرضي بالعلوي بين غازي ثاني أكسيد الكربون والأكسجين. وكلٌ موظف دؤوب ومأمور بأمر السلطان الأزلي. وثمة أزهار تبدو كالحشرات، وأعشاب ضارة ـ يكتب لها البقاء ـ عبر التماهي بنباتات محاصيل زراعية. وتبدو نباتات أخرى كأنها حيوانات نافقة لها رائحتها المميزة، وهناك نباتات تأخذ مظهر الحجارة الصلدة وقاية وتحاشيًا للافتراس. وهذا برهان حيّ ـ من القدير العليّ ـ على قيومية التدبير، وروعة التقدير. فكل ذلك يشهد بالبداهة أنه لا يمكن نسبته إلى المصادفة أو إلى الطبيعة، بل يهتز بجذبات الذّكر، وتسبيحات الحمد الدال على وجوب وجود رب خالق لا نهاية لرحمته، ولا حد لكرمه وفضائل نعمه.

ولكم في الزرع.. جمال

زروع مسخرات بأمره، منقادة لحكمه، لا تشذ عن قدره. وبتدبيره، تتوقف حياة الأبدان على أرزاق “الكريم” المرسلة لكل حي في أوانها. والمتنوعة ـ بلطفه ـ في أشكالها وألوانها وطعومها (نخْلِ وَأَعْنَابٍ وَتين وزَّيْتُونَ وَرُّمَّانَ إلخ). وتهيئ مزارع الدنيا محاصيلها الوفيرة للبر والفاجر، لكنها تعين أبدان المؤمنين وتمدهم بالطاقة لأداء العبادة. وترى الزروع والأشجار عارضات صحائف أعمالها بنشر أغصانها، ونضارة أوراقها، وتفتّح أزهارها، ويانع ثمارها. إن جنات الأشجار تهتف باسم الله القدير، وتتحفنا بثمرات من خزائن الرحيم. وكل بستان يغدو مطبخًا للقدرة الإلهية تنضج فيه كل الأطعمة الشهية. ولا يلبي الزرع الضرورات الغذائية فحسب، بل يوفر منافع معنوية ومنها إشباع فطرة الإنسان لحب الجمال، وتذوقه. فتأمل ـ معي ـ تلكم الأمور الجمالية البديعة من الجميل الجليل، الرب الكريم. نعم، الأوراق والأزهار ضرورية لحياة النبات. لكن هناك العجب العجاب في تفاصيل خلقة الأوراق، وشكلها، وموقعها، وحجمها، وألوانها، وتمايزها، وحوافها، وعروقها، وتعاريجها الظاهرة، والخفية. وكل زهرة من الأزهار المتبرجة المعرّفة بزينتها، وكل ثمرة من الثمار اليانعة، المتبسمة من لطافتها بتجلي الكرم فيها.. تشهد كلها بنظام صنعتها الخارقة، وبالميزان الذي في النظام، وبالزينة التي في الميزان، وبالنقوش التي في الزينة، وبنسق لبابها المتنوع، وانتظام حبها وبذرها المتراكب، وبالعبق الفواح الممزوج بالنقوش، وبالطعوم الشهية في الثمار اليانعة الندية. وكل ألسنة الأحياء مُجهز ببراعم ذوقية بعدد مذاقات هذه الأطعمة الزكية. فبعدد هذه المذاقات تلهج ألسنة المؤمنين ـ شكرًاـ بالتسبيحات في محراب “دنيا النبات” الباذخ بتصانيف جمالية خارجية وداخلية غاية في الدهشة والدقة والانسجام والتناسق، والإبهار، والإمتاع، والإبداع. وحسبنا من كل ذي جمال وذي إكرام وإحسان، الجميل الكريم الرحيم، الذي جعل هذه المزروعات الجميلات مرايا متفانية لتجدد أنوار جماله وكرمه عبر الفصول والعصور والدهور. وهذه النعم المتواترة والأثمار المتعاقبة مظاهر لتجدد مراتب قيوميته وإنعامه وكرمه الدائم على مر الأنام والأيام والأعوام.

ومنافع أخرى عظيمات وافرات

إلى جوار منافعه الكبرى: الغذائية، والصناعية، والبيئية، والطبيعية. من الأزهار الباهرات عطور فواحات منعشات، ومن صيدليات المزروعات.. أعشاب وخلاصات وعقاقير طبية تُسعـَف أدواء الأبدان بأدوية ناجعات، وعلاجات شافيات. وعلى ثمرات الإيمان وتوحيد الأسماء والصفات تعتاش القلوب المؤمنة والنفوس المطمئنة. ويضرب بالزرع والشجر والثمر الأمثال، لتقريب معاني أحوال تلك القلوب المؤمنة ومقامات تلكم النفوس المطمئنة إلى الأفهام. ومن الزرع مواد بناء للبيوت والسفن، وتدفئة وطاقة، وورق، وأصباغ، وأصماغ، وزيوت، وأنسجة، ورواتب للمزارعين، والحرفيين، والصناع، والمهنيين الذين يمهدون الأرض ويستصلحونها ويعبدون الطرق، ويعددونها، ويحفرون الآبار، ويشقون الأنهار والترع والقنوات والمصارف وينظمونها ببناء السدود وإقامة الجسور والقناطر. وتوسعة من “الكريم” على خلقه.. يحثنا شرعنا الحنيف على بذل زكاة الزروع يوم حصادها، وغرس الشجر، حتى لو لم يجد الزارع ثمرته (كفسيلة النخل)، إلا بعد سنوات متطاولة. فله مثوبة الغرس.. صدقة جارية، ولغيره ثمرة يانعة. فكان شغلهم الشاغل بناء المسجد، وإحاطته ـ كسوار بالمعصم ـ بالأسواق العامرة الساجدة، بالجنات والبساتين الغناء اليانعة. يصونها، وما حولها ـ سلمًا وحربًا ـ من الهلاك بسبب تلويث، أو حيوان، أو إنسان، أو إفساد في الأرض. حماية لأشجار البر من القطع الظالم، وحماية لأشجار الغابات من القطع الجائر، وحقَ لها في البحث والنظر والتأمل، والتدبر، والعلم، والدرس. وبعد البحث والدرس سنجد أنه ـ بالبداهةـ شاهد على وجوب وجودك يا كريم. وعلى وحدانيتك خير دليل يا فياض يا فعال، وعلى ربوبيتك وقدرتك على كل شيء، يا مُقدر، يا قدير، وعلى سعة رحمتك وحاكميتك يا واسع يا رحيم، وعلى علمك وحكمتك يا مهيمن يا جليل. ويبقى العجب العجاب تفكير هؤلاء الذين يحيلون هذه المصنوعات البديعة إلى “الصدفة العمياء أو إلى الطبيعة الجرداء” ويستهجنون صدورها عن الصانع الجليل المتصف بجميع صفات القدرة، والجلال، والجمال، والكمال.

 

 وقفة تأملية لازمة

سنبلة قمح متواضعة، وزهرة فيحاء زاهية، ونحلة نشيطة مُلقحة، وثمرة شهية متدلية، وقنوان ناضجة دانية إلخ. إن تنوع وإتقان وجمال الأثر المصنوع دال على دقة وتقدير وجمال صفات صانعه، وشاهد على قدرته وحقيقته وعظيم ملكه. فيا لها من غفلة سادرة عندما يُعزى كل هذا إلى “عمل الطبيعة، وصنعة قوانينها الآلية، أو إلى الصدفة العشوائية “!! وهذه “الصدفة الطبيعية” أتت نتيجة لفكرة “قدم المادة” والتسلسل الطبيعي”، وهو موقف غير علمي يؤصل للعدمية وموت الدين، وظهور فلسفات “الإلحاد” و” المادية”، حيث يبدو “عالمهم” من خلالها هائمًا على وجهه دون غاية، وتحكمه العشوائية والطفرات وحوادث الدهر وريب المنون. إن المؤمنين يُرجعون كل ما في الكون والوجود من موجودات إلى عظمة القدرة الربانية والقيومية الصمدانية. فمن ذا الذي ما زال يلوك بشدقيه كلمات لا تسند شأن الزرع للرب الخالق الكريم؟! “أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ” (الواقعة:63-65). نحن نحرث وهو “الزارع” الحقيقي، وإنه تجلِت لقدرته وتقديره وقيوميته وإتقانه وإحسانه وحكمته البالغة. وقد يعكس كل ضرب من الزروع رزقًا بسيطًا ونعمة جزئية لكنها بسر الإخلاص والتوحيد تتكاتف وتتصل المرايا مع مثيلاتها ليصبح الزرع مرآة واسعة عاكسة للكرم الإلهي يتجلي في هذا الضرب من العطاء الرباني.

وفي الختام: الزرع من أهم تجليات الكرم الرباني والرحمانية الصمدانية. ونور تجليات الأسماء الإلهية متمركز في كل ملمح جزئي فضلاً عن التكوين الكلي في أقصى شجرة المخلوقات. تأمل الجزئيات، واخشع بقلبك للكليات ستجد الكرم والكمال والجلال والجمال الصمداني لا منتهى له. وهو كرم إلهي لضيوف الدنيا ـ عندما لبثوا يومًا أو بعد يوم ـ فلا بد أنه ـ تعالي شانه ـ أحضر لأهل محبته ورضوانه ـ في مقر سلطنته السرمدية بحار رحمة واسعة ورحيمية أبدية بحيث إن المشاهد من أشباهها ـ من أشجار مثمرة ونباتات مزهرة وأنهار جارية هنا في الدنياـ ليست إلا نماذج فانية صغيرة أمام تلك الأبدية.