وقفات إيمانية وتربوية مع ليلة القدر

تمر في حياة الأمم والشعوب أحداث عظيمة ووقائع خالدة تحمل في طياتها ما يسعد القلوب ويسر النفوس، “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فبذلك فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ” (يونس:58). ولقد شرف الله أمتنا الإسلامية بأكمل الأيام، وأتم الليالي، إنها ليلة القدر يا سادة. قال تعالى “وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلَة القدْرِ” (القدر:2) فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها – قَالَتْ: “يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَبِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي“.
وإن المتأمل والناظر في سر تعظيم الله لهذه الليلة المباركة التي فاقت حقيقتها حدود الإدراك البشري، وسؤال عائشة رضي الله عنها، وإِجابة النبي لها بهذه الإجابة ، لمجموعة من الوقفات الممزوجة بين التربوية والإيمانية نوجزها فيما يلي:

الوقفة الأولى: قيمة السؤال والجواب في المنهاج التربوي التعليمي.
إن أسلوب السؤال والجواب يعتبر في المرتبة الأولى بلا منازع في مناهج التربية والتعليم، لقوة وضوحه، وشدة تأثيره، وتحديد مدلوله، فهو يثير الشعور ويسترعي الانتباه ويركز الفكر، ويوقظ ذهن المتعلم، ويشكل تصورًا لدى المعلم وخاصة العارف بتصاريف الكلام، ومقتضيات المقام، فكيف إذا كان السؤال من أفقه نساء الأمة والجواب ممن لا ينطق عن الهوى.

الوقفة الثانية: حرص عائشة رضي الله عنها على التعلّم.
فـــــــــــــهي عائـــــــــــــــــشة رضي الله عنها بنت أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أم المؤمنين، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، أفقه نساء الأمَّة قاطبة. اغترفت من مدرسة النبوَّة وتفقَّهت في أحكامها وتعاليمها. فعدت -رضي الله عنها- من المكثرين في الفتيا والرواية باتفاق العلماء، ومع ذلك حرصت على أَنْ تتعلم من سيد الأمة ما يقال في ليلة القدر، وفي هذا تعليم للناس كافة، أَنَّ العبد مهما بلغ فهو محتاج -بل مضطر- إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها. وأَخَصُّ هذه الأمور: العلم النافع المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين.

الوقفة الثالثة: الإسلام ليس شكليات ظاهرة فقط.
من ذلــــــــك قوله صلى الله عليه وسلم في قيام هذه الليلة المباركة “مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة “إيمانًا” و ليكون تجردًا و خلوصًا “احتسابًا” ومن تم تنبض في القلب حقيقة المقصد المعني من هذا القيام ألا وهو ربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير، بحيث تكون العبادة مطية لإحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف في حدود التفكير، وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصل المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم القيم والسلوك. وأن الإدراك النظري والتطبيقي هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم.

الوقفة الرابعة: الحكمة في تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو.
سؤال الله عز وجل العفو في كل وقت وحين أمر مرغوب وردت فيه نصوص كثيرة، حتى إِنَّ العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مِنْ مَرَّةٍ أَنْ يرشده إلى شيء يدعو الله به، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مَرَّةٍ بقوله: “سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ”. فما الحكمة إِذًا مِنْ تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو؟ أبان الحافظ ابن رجب هذه الحكمة في قوله: وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر -بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر- لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحًا ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المقصر في أداء حق الله جل وعلا.

الوقفة الخامسة: الدعاء بهذا اللفظ يتضمن أدبًا من آداب الدعاء المهمة.
وهو الثناء على الله تعالى بما هو أهله وبما يناسب مطلوب الداعي. وقد أرشدنا الله تعالى إلى هذا الأسلوب والأدب في نصوص كثيرة، أشهرها سورة الفاتحة، فالسورة نصفان، الأول: تمجيد وثناء من العبد على ربه، والآخر: سؤال من العبد لربه، ولما سَمِعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يَدْعُو في صلاته لم يُمجِّدِ الله ولم يُصَل على النبيّ، قال صلى الله عليه وسلم: “عَجِل هذا”، ثم دعاه، فقال له أو لغيره: “إذا صَلَّى أحَدُكُم فليَبْدأ بتَمْجيدِ رَبَّه والثَّناءِ عليه، ثم يُصَلّي على النبيِّ، ثم يدعو بعدُ بما شاءَ”.

الوقفة السادسة: استحضار حسن الظن بالله من خلال مضمون الدعاء.
فيعمر قلب المؤمن بالرجاء، وفي ذلك رد على من قال: لا أحبك لثوابك؛ لأنه عين حظي، وإنما أحبك لعقابك؛ لأنه لا حظ لي فيه! نافيًا بذلك عبادة الله بالرجاء، مقتصرًا على عبادته بالخوف. والعجيب أن صاحب هذا القول بالغ فنسب مخالفه إلى الرعونة، وقد رد عليه ابن القيم ردًّا بليغًا جاء فيه: فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج. وماذا يلعب الشيطان بالنفوس؟ وإن نفسًا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة المحتاجة إلى سؤال العفو والمعافاة. فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين، وسؤالهم ربهم، على أحوال هؤلاء المسيئين، الذين مرجت بهم نفوسهم، ثم قايس بينهما، وانظر التفاوت، فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم: إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبًا على عقله، كالسكران ونحوه، ولا تهدر محاسنه، ومعاملاته، وأحواله، وزهده.

الوقفة السابعة: حاجة العبد وفقره إلى عفو الله.
عائشة رضي الله عنها -وهي من هي- تحرص على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ماذا تقول في ليلة القدر، فيجيبها النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه بسؤال الله العفو، فإذا كان هذا شأن الصديقة بنت الصديق فكيف بمن دونها، أليس في ذلك دلالة قاطعة على أَنَّ العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار.

الوقفة الثامنة: اسم الله “الْعَفُوُّ”
حظّ العبد من اسم الله “الْعَفُوُّ” لا يخفى، وهو أن يعفو عن كلّ من ظلمه، بل يحسن إليه كما يرى الله تعالى محسنًا في الدّنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة. بل ربّما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم، وإذا تاب عليهم محا سيّئاتهم، إذ التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له. وهذا غاية المحو للجناية. وقد وعد الله العافين بالأجر العظيم والثواب الكبير فقال سبحانه: “فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ” (الشورى: 40).

الوقفة التاسعة: يُسْر طريق إلى الله.
يحمل قول الله تعالى لنبيه: “وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى” (الأعلى: 8) بشارة عظيمة، ألا وهي يسر شريعته، فمعنى الآية: نُسَهِّلُ عليك أفعال الخير وأقواله، وَنُشَرِّعُ لك شَرْعًا سَهْلاً سَمْحًا مُسْتَقِيمًا عَدْلاً لا اعوجاج فيه ولا حَرَجَ وَلَا عُسْرَ. وتسري دلائل هذا التيسير وأماراته في جميع مناحي التشريع، ومنها أدعية الوحيين، حتى قالت عائشة: “كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَستحِبُّ الجَوامِعَ مِن الدعاء، ويَدَعُ ما سِوى ذلك”.

الوقفة العاشرة: المسابقة إلى الخيرات دون الاتكال على العفو.
على العبد أن يكون عالي الهمة يجتهد في نيل معالي الأمور، ويبذل وسعه في الوصول إلى رضى محبوبه، أما خسيس الهمة فاجتهاده مبتور، ويتكل على مجرد العفو، فالعبد مأمور بالسعي لاكتساب الخيرات والاجتهاد في الأعمال الصالحات، وكلٌّ ميسر لما خلق له، فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي، فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر.

ختامًا للكلام
فقد كان سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين حريصين أشد الحرص على استغلال ما يمكن أن يزيد من إيمانهم ويرفع تربيتهم، والمحروم من حُرم الإيمان والتربية، والشقي أيضًا من تمر عليه هذه الأزمان الفاضلة، والأوقات الشريفة دون أن يجعلها مطية يزكي بها نفسه قلبيًّا بالإيمان وسلوكيًّا بالتربية.