معاني القرآن بلغات روسيا والبلقان

تُرجِمت معاني القرآن الكريم إلى لغات منطقة البلقان، كالألبانية، والبلغارية، والمقدونية، واليونانية لتُعطي صورة عن تراث غني في حقل الترجمات. ولقد صدرت ترجمات غير كاملة لمعاني القرآن الكريم بالألبانية، ففي عام 1921م قام “إيلو متكوكا فرزي” بعمل ترجمة غير كاملة، اعتمدت على ترجمة “سيل” الإنجليزية. أما ترجمة “الحافظ إبراهيم دالو” فانتهت بنهاية سورة الأنعام. وثمة ترجمات لبعض سور القرآن الكريم منها ترجمة (عام 1959م) ضمن كتاب موجز عن بيان كيفية الصلاة، وترجمة سورة يس. أما الترجمات الكاملة، فقام بها الشيخ “فتحي مهدي”، وأخرى قام بها الشيخ “حسن الناحي”، وثالثة للشيخ “شريف أحمدي”، ورابعة للشيخ “محمد خان”، وخامسة طبعت بعنوان: “شرح معاني القرآن الكريم باللغة الألبانية”، وقد طبعت في الرياض. وبعد أن قضى أكثر من 12 عامًا لإنجاز ترجمة دقيقة لمعاني القرآن الكريم بالبلغارية، أعلن المستشرق البلغاري د. “توفيان تيوفا نوفا”، الأستاذ في جامعة صوفيا، العضو في كلاًّ من: اتحاد المستشرقين الأوروبيين، وجمعية المستشرقين الأمريكيين، وجمعية بحوث الشرق الأوسط البريطانية اقتناعه واعتناقه الإسلام. لما تعمق في دراسة الإسلام، الدين الحق الذي يُساوي بين البشر، ويصون الحقوق الإنسانية، ويُرسى قواعد السلم والأمن في المجتمعات البشرية، ومعطياته الحضارية والثقافية الوفيرة، ثبت لديه أن الحضارة الإسلامية هي أم الحضارات العالمية المعاصرة، وأرقى أنواعها.

وقال د. توفيان: إنه لاحظ جيدًا أن بعض المستشرقين ـ غير الموضوعيين ـ يطعنون في الإسلام وتركّز طعنهم على القرآن الكريم فقالوا: “إنه كلام بشري، وأنكروا حقيقة الوحي، كما طعنوا في الآيات المكيّة والمدنيّة، وغير ذلك من الافتراءات. مؤكدًا أنه يرفض منهجهم هذا. يشار إلى أن د. توفيان درس الإسلام واللغة العربية منذ مدة طويلة. تخرج في جامعة بغداد قسم اللغة العربية، ثم التحق بجامعة القاهرة لدراسة اللغة العربية وآدابها، وحصل على الدكتوراه في معهد الاستشراق في روسيا، وعمل أستاذًا للدراسات الإسلامية في جامعة صوفيا ببلغاريا، وأستاذًا في المعهد الإسلامي هناك.

الروس، والقرآن

“القرآن عن محمد، أو القانون التركي”. كان عنوان أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى الروسية للمترجم “بوسنيكوف” عام 1716م. هذا العمل اعتمد على الترجمة الفرنسية للمستشرق لـ “أندري دو ريير” عام (1647). لكن كبير المستشرقين الروس “اغناطيوس كراتشكوفسكي”(1883-1951م) أثار شكوكًا حول مدى الصدق والدقة والموضوعية في ترجمة”بوسنيكوف”، ورأى فيها:”أخطاءً كثيرة جدًّا، ومع ذلك لا يجب التقليل من شأنها لأهمية الحدث نفسه”. وبنهاية القرن التاسع عشر ظهرت ترجمتان لمعاني القرآن الكريم بالروسية وحازتا تقدير “كراتشكوفسكي” الذي رأى فيهما: “حدثًا تاريخيًّا بالغ الأهمية في تاريخ الثقافة الروسية، ومستوى أعلى من الترجمات السابقة”. ولقد حفزت هذه الترجمات في صدور مؤلفات تتناول شرح القرآن الكريم ومن أبرزها كتاب (ب. بوجدانيفيتش) بعنوان: “محمد والقرآن”، وقد لاقي نجاحًا، وأعيد طبعة مرات.

بيد أن ترجمة “فيريفكين” لمعاني القرآن سنة 1790م قد تركت أثرًا كبـيرًا في تاريخ الأدب الروسي. وكان “فيريفكين”(1732- 1795م)، المدير الأول للمدرسة الثانوية في قازان، والأديب البارز الذي أجاد عدة لغات، قد أنجز ترجمة سماها: “قرآن محمد العربي الذي ادّعى في القرن السادس أنه أُنزل إليه، وأعلن نفسه آخر أنبياء الله وأعظمهم”. هذه الترجمة مأخوذة أيضًا عن الترجمة الفرنسية لـ “أندري دو ريير”. وأشرف المترجم “نيقولاييف” على ترجمة لمعاني القرآن، صدرت عام 1864م، أخذت عن الترجمة الفرنسية لـ “كازميرسكي”. وترجمة “نيقولايف” لمعاني بعض السور نشرت في مجلة الخزر: “ترجمة معاني سورة النساء” في العدد 3 (4) عام (1990م)، و”ترجمة معاني سورة المائدة” في العدد 4 (5) عام (1990م)، و”ترجمة معاني سورة الأنعام” في العدد 1 (5) عام (1991م). ونقدها المستشرق “كليموفيتش” بقوله: “إن هذه الترجمة كانت متحررة إلى حدٍ ما، وفي مواضع كثيرة بصورة غير حسنةٍ “. مع ذلك اعترف “كراتشكوفسكي:”أن ترجمة معاني القرآن لنيقولايف لم يقلل من أهميتها نقلها عن الفرنسية، لكنها أغنت عن الرجوع إلى الترجمات السابقة التي تعود إلى القرن الثامن عشر”.

وفي عام 1878م ظهرت ترجمة “جوردي سابلوكوف”. ثم بعد عام واحد من طباعتها في قازان نشر كتاب “الملحقات”، وهو فهرس موضوعات القرآن، للمستشرق نفسه. وفي عام (1884م) طبع كتابه “الأخبار عن القرآن” وهو عبارة عن كتاب تشريعي، وتكررت طباعة ترجمة “سابلوكوف”، لكن الطبعة الصادرة عام (1907م) كانت قد أضافت النص العربي. لكن كثيرًا من المختصين والمستشرقين الروس قد انتقدوا منـهجَ “سابلوكوف” وترجمته لمعاني القرآن، فقد قال “كريمسكي” في كتابه “تاريخ الإسلام”: “إن ترجمة سابلوكوف ترجمة حرفية ميتة، لا يمكن فهمها في كثير من المواضع؛ إلا بعد الرجوع إلى الأصل العربي، فضلاً عن أنها تحتوي على عدد كبير من الأخطاء التي لا مراء فيها”. كذلك أنتقدها المستشرقان “بيلايف وجريزنيفيتش”: “مع مرور الزمن تظهر سلبيات هذه الترجمة لكل من يرجع إليها؛ فأما المستشرق المتخصص في اللغة العربية فيجد فيها أخطاء كثيرة، وأما غير المتخصص فلا يفهم أحيانًا خصائص نص الترجمة المليئة بالكلمات القديمة والعبارات المبهمة، التي منعت من فهم المعنى الظاهر لها. كما يسأل القارئ نفسه: هل فهم المترجم ماذا أراد بهذا الكلام؟”. ثم أضافا القول: “وُجِد في ترجمته كلمات خاصة تستخدم عند ترجمة التوراة والإنجيل إلى اللغة الروسية، وبسبب هذه الكلمات يكون القارئ العامي قد أخذ فكرة خاطئة عن العقيدة الإسلامية والمعنى الحقيقي لهذا الأثر”.

وعلى الرغم من ذلك فقد أشبعت ترجمة “سابلوكوف” لمعاني القرآن حاجة كثيرين من الروس على مدى مائة عام، وعُدت من أهم المراجع عن الدين الإسلامي. واستحق صاحبها مدح كثيرين منهم “كراتشكوفسكي” بقوله: “لم يتمكن أحد في أكاديمية قازان من تأسيس منهج للاستعراب ودراسة الإسلام إلا جوردي سابلوكوف”. وظهر عمل آخر لمعاني القرآن للشاعر “قالماكوف” (ت. 1804م)، مأخوذ عن ترجمة “جورج سيل”، وأضيف إليه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم للدكتور بريدو. وكان “قالماكوف” يعمل في أكاديمية الأسطول البحري مترجمًا من اللغة الإنجليزية، مختصًا في النصوص التقنية. وكما أثمرت جهود المدرسة الاستشراقية الألمانية عن تأثر الشاعر الكبير “جوته” بالقرآن وبالإسلام وبرسوله صلى الله عليه وسلم. يشار إلى أن ترجمة معاني القرآن الكريم قد تركت أثرًا كبيرًا مماثلاً على شعراء وأدباء وروائيين روس كبار منهم: “ألكسندر بوشكين” (1799- 1837م)، و”إيفان بونين”(1870-1954م)، و”ليو تولستوي”(1828-1910). ولقد انعكس ذلك التأثر على إبداعاتهم فأنتجوا روائع تشهد بعمق ذلك التفاعل والتواصل، والاحترام والتقدير للقرآن الكريم، وللإسلام ولنبيه صلى الله عليه وسلم.

استشراف لما هو آت

– يلاحظ أن غير المسلمين الذين تلقَّوا معاني القرآن الكريم مترجمًة عن طريق المسلمين كانوا أكثر تعرفًا إليه وتأثُّرًا به، وبإعجازه، ممن تلقَّوه عن طريق ترجمات المستشرقين الأولى. لذا نري مستشرقين وعلماء أوروبِّيين متأخِّرين ينبرون بشهادات مُنصفة، ويتأثرون بقدسية القرآن الكريم وما احتواه من صنوف الإعجاز.

– لا تستقيم الدعوة إلى الإسلام إلا بالقرآن الكريم، فهو روحها، وقد حوى صنوف الإعجاز. لفظًا ونظمًا ومعني. لذا فترجمات معاني القرآن ضرورة، ومن صور أداء الحق لأصحابه، كي يفهم غيرُ العربي القرآن ويتدبر أحكامه، شريطة أن يقوم بها مسلمون متخصصون، والاطلاع والتنسيق بين المراكز العلمية والبحثية (على غرار ما يقوم به مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، والأزهر الشريف بمصر، وغيرهما)، وتحت إشراف دقيق للحفاظ على قدسية النص من الأخطاء والتحريف.

– ترجمة معاني القرآن الكريم “باتت علمًا له قواعد وضوابط اشترطها أهل الفن من العربية، وعلوم الإسلام، والعلوم الإنسانية واللغوية. هذه العملية ليست منفرة ولا شاذة، بل تخضع لشروط تفسير القرآن الكريم، لأن الترجمة هي من قبيل التفسير وتدخل في علم التفسير”. وللعلامة “عبد الله كنون” قوله: “من المشكلات التي تواجه الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر: ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية، ذلك أن القرآن – كما هو معروف – في القمة من البلاغة العربية، ولأجل النفاذ إلى أسراره، وفهم مقاصده، يجب أن يكون المترجم ممن لهم تضلع في قواعد اللغة العربية نحوًا ولغةً وبيانًا، وذلك فضلاً عن المعرفة بعلوم القرآن وأسباب النزول والفقه والحديث والتفسير..”.

لقد تناول المستشرقون القرآن الكريم بالدرس والبحث والتحليل، واعتنوا بترجمته إلى لغاتهم. ترجمات اختُـلف في تقويمها.. قدحًا ومدحًا، اتهامًا وإنصافًا. والتمييز بين صحيحها وسقيمها، وبين حسَنها وقبيحها، ورصدًا للأخطاء التي ارتكبت عمدًا، أو بغير عمد. “ما أشبه الليلة بالبارحة”.. فوسط مواقف وأحداث ونظريات تتشح بوشاح استعلائي/ عنصري/ إقصائي/ تصادمي.. تبقى الحاجة ماسة لتسليط الأضواء على كل ما من شأنه أن يثري “المعرفة المُنصفة”، و”المثاقفة المتبادلة”، ويعدل من “الصور الذهنية النمطية”، ويُفّعل المشترك، ويجسر جسور التعارف والتعايش والتعاون، و”يلتقي الغرب والشرق”، فيعلو الحوار الفعّال، على الخنجر القتّال. وتبقى الضرورة مُلحة لتوفير ترجمات صحيحة سليمة لمعاني القرآن الكريم بكل لغات العالم المقروءة.