فلسفة الموت عند كولن

الموت في اللغة والموتان: ضد الحياة، والموات بالضم الموت، وقيل: الموات والموتان الأرض لم تحي بعد بزرع ولا إصلاح. أو هو ذهاب القوة من الشيء. وقيل: السكون، وكل ما سكن فقد مات، وقد قيل: المنام الموت الخفيف، والموت النوم الثقيل.

وقد انقسم المتكلمون في تعريف الموت إلى فريقين، منهم من يقول إنه وجودي كالأشاعرة، ومنهم من يقول إنه عدمي ومنهم الزمخشري.

فأصحاب الرأي الأول يقولون: “الموت كيفية وجودية تضاد الحياة فلا يعرى الجسم الحيواني عنهما ولا يجتمعان فيه، وليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقة وحيلولة بينهما، وتبدل حال بحال، وانتقال من دار إلى دار”. يقول الرازي: “قال أصحابنا إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجُّوا على قولهم بأنه تعالى قال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:2) الذي خلق الموتَ. والعدمُ لا يكون مخلوقًا هذا هو التحقيق”. إذن يرى الأشاعرة أن الموت أمر وجودي تمامًا كالحياة.

وأصحاب الرأي الثاني، يرون أن الموت عدم الحياة، ومن القائلين به الزمخشري والنسفي، يقول الزمخشري: “الحياة ما يصح بوجوده الإحساس، وقيل ما يوجب كون الشيء حيًّا، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر. والموت عدم ذلك فيه”. ويقول النسفي: “والحياة أي ما يصح بوجوده الإحساس والموت ضده ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه”. إذن فالموت على هذا الرأي أمر عدمي يضاد الحياة.

وأرى وأطمئن إلى الرأي الأول القائل بوجودية الموت لتعليل الرازي السابق، ولما سيورده فتح الله كولن من تحليل لفكرة وجودية الموت.

أما فتح الله كولن فيتفق مع الأشاعرة في القول بأن الموت أمر وجودي وليس عدميًّا، وكان هذا أيضًا اختيار بديع الزمان النورسي قبله. يقول كولن: “فليس الموت النهاية الطبيعية للأشياء، ولا انقراضًا أو فناءً، ولا عدمًا أبديًّا”. كما يرى “كولن” أن وجود الحي بعد عدمه دليل على وجود الله، كذلك فناؤه دليل عليه تعالى، فيقول: “الحياة والموت في الدنيا ابتلاء، وعرض، وظهور. ووجود أي شيء بعد أن كان عدمًا، دليل جلي وترجمان فصيح على وجود خالق لا تدركه الأبصار، وفناء ذلك الشيء بانقضاء أجله، دليل أيضًا على أن ذلك الخالق الأزلي باق لا يفنى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(الملك:2)، وما ينبغي للإنسان أن يهتم به هو فقه معنى الوجود، والفوز في الامتحان في الدنيا والتهيؤ للرحيل”. ويدلل “كولن” كذلك بفناء الإنسان على صفات الله تعالى فيقول: “البدايات أمارات النهايات، والحدوث دليل الفناء، ومن لا بداية له لا نهاية له، ومن ثبت قدمه استحال عدمه”.

فهو يدلل بالحدوث على فناء الإنسان، ويدلل بفناء الإنسان الحادث على قدم الله تعالى وبقائه.

ويرى “كولن” أن من الخطأ إطلاق لفظ “طبيعي” على بث المخلوقات وظهورها أو رحيلها عن مسرح الحياة، وكذا إطلاقه على الآفات وآثارها، فما من شيء يظهر من العدم إلى الوجود من تلقاء نفسه، بل بأمر رباني وإرادة ربانية. وفي هذا، إشارة إلى أن المؤثر المحيي المميت هو الله لا الطبيعة ولا قوانينها، فما هما إلا نواميس تجري بإرادة الله تعالى. وقد نظر “كولن” لقضية الموت بعين فيها من الجدة والاختلاف ما يظهر الموت بمثابة سياحة، وترفيه، وراحة من العناء، وسيتبين ذلك من خلال الحديث عن فلسفة الموت عنده.

فلسفة الموت عند كولن

يرى كولن أن للموت بُعدًا آخر غير ما يظهر للناس، فليس شبحًا مرعبًا، أو فناءً وعدمًا. وتتلخص فلسفة الموت أو (الوجه الآخر للموت) عند كولن في عدة نقاط:

أ- الموت نعمة وراحة: يرى كولن أن الموت ليس عدمًا أبديًّا، بل هو تغيير مكان، وتغيير حال وإجازة وانتهاء من أعباء وظيفة، والوصول إلى الراحة، وإلى الرحمة، بل هو من بعض الوجوه رجوع كل شيء إلى أصله، وجوهره، وحقيقته؛ لذا فالموت جذاب جاذبية الحياة ومفرح فرح الوصال مع الأحباب والأصدقاء، وهو نعمة كبيرة، لأنه يوصل إلى الحياة الخالدة.

بـ- الموت تحول نحو الأكمل والأحسن والأجمل: يرى كولن أن الموت نوع من التصفية والتطهير للكائن الحي حتى يرتقي إلى حالة أسمى وأكمل، فيقول: “بما أن كل كمال وترقٍ، وبعبارة أخرى كل نعمة وصلة مرتبطة بالمرور من بعض أجهزة التصفية والتنقية، ومن بعض الأوعية التي تعطيها شكلاً خاصًّا، كذلك فإن جميع الموجودات يتسلق نحو الأعالي بهذه الطرق من الإذابة والتصفية، مثلاً معدن الذهب وجوهر الحديد، لا يصلان إلى مستوى هويتهما الحقيقية، إلا بعد إذابتهما، أي بعد مرورهما بنوع من الموت.. ولكنه في الحقيقة ليس إلا انتقالاً إلى حال أعلى وأسمى”.

جـ- الموت انتهاء وظيفة وتجديد في مسرح الحياة: يقول كولن: “كل موجود، مكلف بوظيفة استعراض خاص به أمام خالقه الذي أوجده. وعندما تنتهي مراسيم الاستعراض بالنسبة إليه، عليه أن يذهب ويُخْلي مكانه لغيره لكي تتم الحيلولة دون سير الأمور على وتيرة واحدة في مسرح الاستعراض هذا، وإكسابه حيوية ونشاطًا بكادر جيد وجديد.. وهكذا يتم التجديد وتتحقق الحيوية والنشاط في خضم هذا المجيء والرحيل والشروق والغروب”.

د- الموت وصول إلى الأبدية ووصال مع الحبيب الأزلي: يرى كولن أن الموت وصول إلى الخلود والسعادة، والاجتماع بالحبيب الذي لا يتغير ولا يزول فيقول: “الموت يتضمن نصيحة صامتة بليغة وهي: إن أي موجود لا يكون قائمًا بذاته، بل إن كل شيء يشير (مثل المصابيح التي تتعاقب فيها الإضاءة والانطفاء إلى الشمس الأبدية التي لا تنطفئ) إلى طريق الاطمئنان والسعادة للقلوب.. عند ذلك يتحرك في قلوبنا شعور بالبحث عن حبيب لا يزول ولا يغرب. ونبض هذا الشعور في قلوبنا، هو المرحلة الأولى للوصول إلى الأبدية”. وهنا تبرز النزعة الصوفية لـ”كولن”، فكل الكائنات تجلٍّ للنور الإلهي الأزلي، وبالموت يتصل الكائن بهذا الحبيب الأزلي الأبدي.

هـ- الموت تسريح من وظيفة العبودية ورجوع إلى الوطن الحقيقي: يرى كولن أن الموت يحمل معنى التحرر من تكاليف العبودية، فيقول: “يحمل معنى التسريح من وظيفة العبودية، والأوان الذي يقول فيه الحق لعبده “لقد آن لك أن ترجع لي بكليتك”..”يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر:27-30).

فالروح التي تتلقى هذه الدعوة، لا تستطيع الانتظار دقيقة واحدة في الدنيا؛ لأن معنى هذه الدعوة، هو آن لك أيتها الروح مغادرة هذه الدنيا الضيقة، والتخلص من جوها الكئيب الخانق، والرجوع إلى الجنة التي فقدتها رجوعًا إلى الوطن الحقيقي لك. فمن ينظر إلى الموت بهذه النظرة، يدرك كم هو نعمة وفضل، وأنه كالتسريح من الخدمة والتكاليف الشاقة، وكالولادة الثانية للإنسان.

و- تحرر من سجن الجسد: فالجسد سيفنى ويتحلل، والروح تبقى في حياة إلى الأبد؛ لذا كما يقول كولن ينبغي أن: “نفرح للموت الذي يعدّ تمزيقًا لهذا القفص الجسدي، وتحريرًا لنا من سجن ضيق إلى جنات واسعة، وبساتين خضراء شاسعة، نفرح لأن الموت هو الجسر الوحيد لهذا العالم السحري”.

ز- الموت رحمة وحكمة وعدم الموت مصيبة: لولا الموت، ما استطاع الإنسان ولا أي كائن العيش على سطح الأرض؛ ولذا فعدم الموت مصيبة كبرى للأحياء، يقول كولن: “إن الخلود الشامل وعدم الموت الشامل والساري في جميع مناحي الحياة، يعدّ مصيبة مفزعة وعبثًا.. فكروا لحظة.. وتصوروا أنه ما من شيء يموت.. في هذه الحالة لا يستطيع الإنسان وحده -حتى في العصور الأولى- بل لا تستطيع ذبابة واحدة، العثور على مكان للعيش. فمن الأحياء يكفي النمل والنباتات المتسلقات أن تسيطر على العالم بأسره في ظرف عصر واحد فقط إن لم يتعرضا للموت والتحلل، فلا يبقى شبر واحد فارغ على سطح الكرة الأرضية”.

ويتساءل كولن: “وهل كنا نستطيع مشاهدة منظر من مناظر الجمال الخلابة التي يحفل بها الكون؟ أكان الإنسان الذي خلق وسخر له هذا الكون الرائع، يستطيع العيش في مثل هذا الوسط القبيح؟. عدم الموت حقًّا مصيبة للأحياء؛ لأنها لن تجد مكانًا للحياة مع كثرة الأحياء وعدم فنائها، وهذا مراد كولن، ولكن الموت في حد ذاته مصيبة كما وصفه الله تعالى: (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) (المائدة:106).

 

(*) مدرس بجامعة الأزهر الشريف / مصر.

المراجع

(1) ينظر: ابن فارس: مجمل اللغة باب الميم والواو. ابن منظور: لسان العرب.

(2) ينظر: ابن فارس مقاييس اللغة باب(موت).

(3) حاشية محمد بن محمد الأمير على شرح عبد السلام بن إبراهيم المالكي لجوهرة التوحيد للإمام اللقاني وبهامشها إتحاف المريد ص 137 مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة: الأخيرة 1368هـ – 1948م.

(4) الرازي: مفاتيح الغيب، باب سورة الملك الآية (2).

(5) الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، باب سورة الملك (الآيات 1إلى 4).

(6) أبو البركات النسفي: مدارك التنزيل وحقائق التأويل باب (12) ج3.

(7) ينظر: بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات.

(8) فتح الله كولن: أسئلة العصر المحيرة. وينظر: ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن.

(9) فتح الله كولن: نحو عقيدة صحيحة.