إذا كانت اللغة تمثل عنصرًا جوهريًّا ومحوريًّا في تحديد نمط الثقافة في أي بلد، وكذلك تحديد هويتها؛ فإن الترجمة تمثل جوهر أي تواصل حضاري بين الشعوب، فهي بمثابة الجسر الذي تعبر عليه جميع الحضارات وتتلاقى، وتتفاعل وتتلاقح في حوار حضاري.. فالترجمة هي عصب الحياة الذي تستمد منه الحضارات كينونتها وبقاءها وعطاءها وتأثيرها، حتى إنه يمكن القول: إن الترجمة غيرت وجه الحياة على كوكب الأرض، وحولت المجتمعات من جزر منعزلة ومنفصلة إلى مجتمعات مترابطة ومتداخلة ومتفاعلة.
ومن هنا لا نتجاوز الحقيقة إن قلنا: إن الترجمة تمثل الصيغة الأساسية في التواصل بين البشر، بل بين الحضارات الإنسانية جميعها، فلا يخفى على كل ذي لب ما للترجمة من دور فعّال في نقل العلوم والمعارف بين الشعوب وتقريب الحضارات وصنع تفاعل كبير بين أفراد البشر بغض النظر عن معتقداتهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم.. ومن هنا فقد أثبت تعاقب الحضارات وتتابعها في سلسلة متواصلة من الأخذ والرد أنه ما قامت حضارة وأثرت في غيرها إلا من خلال الترجمة، وما زالت الترجمة تقوم بدورها الريادي في الجمع بين الحضارات والثقافات المختلفة والمتنوعة، وخاصة في عالمنا المعاصر الذي يشهد تحوّلات اقتصادية وسياسية واجتماعية كبرى.. تكون الترجمة حاجة ملحّة في صنع تفاعل وتواصل بين أفراد الإنسانية.. وبناء على ذلك يقع العبء الأكبر والمسؤولية الكبيرة على عاتق المترجمين في القيام بدور الوسيط الفعّال في إحداث هذا التواصل، فالترجمة بحقٍّ هي جسر التواصل بين الحضارات والثقافات.
الأنا والآخر في أفق الترجمة
بداية نشير إلى أن الترجمة تمثل حلقة وصل فعالة بين الأنا والآخر، وتعد بحق كشفًا لذات أخرى في فضاء اللغات والثقافات، ومن هنا فإن الأنا أو الذات لها ارتباط بمجموعة من الأسئلة الحيوية والجوهرية المتعلقة بحياة الإنسان وواقعه وأفق تفكيره، لا لشيء إلا لأن الآخر ليس بعيدًا عن الذات، بل يسكنها ويلتصق بها، فهو المرآة التي من خلالها ترى ذاتها، فلا وجود للذات إلا في ارتباطها الوثيق وانفتاحها عليه، فهوية الذات لا تتحدد إلا من خلال هذا الآخر الذي يؤكدها ويجعلها قابلة للتحرر من الوهم والزيف.
وهذا التواصل والانفتاح بين الذات أو الأنا والآخر يتحقق عبر الترجمة التي تعمل على تقريب المسافات وإذابة الاختلاف الموجود بين لغات وثقافات العالم. ومن هنا تصبح الترجمة بمثابة إضاءات لمعتمات ذواتنا، ونبراسٍ يضيء المهمَّشَ والمخفي من ثقافتنا.
وفي هذا السياق فكم من نصوص ومعارف في ثقافتنا لم نتعرف عليها إلا بعد معرفتنا بثقافة الآخر الذي يجعلنا ننتبه إليها ونعود إليها ونكتشفها وكأننا نراها أول مرة. فالترجمة تقذف بالذات من تقوقعها الضيق حول نفسها لتلتقي بالآخر في عراء الثقافات.
من هذا المنطلق أضحت الترجمة رحلةً في فضاء الثقافة المغايرة من أجل تملّكها والتفاعل معها، والتملّك يتطلب إدخال الآخر في الذات في سبيل اختصار المسافات بينهم، بل إنها وليدة الاختلاف والتعدد والتنوع، فلولا هذا الاختلاف والتعدد والتنوع ما كانت الترجمة ضرورية ولا ممكنة. فالترجمة تمثّل التحويل اللانهائي لتلك الثقافات واستيعابها في لغاتٍ مختلفة، بل لا نبالغ في القول إنها إستراتيجية توليد الفوارق وإقحام الآخر في الأنا أو الذات.
وبناء على ذلك تصبح الترجمة علاقة حياة وانفتاح على الآخر، علاقةَ تواصلٍ بين الأنا والآخر، كل منهما يكتشف نفسه، بل والأكثر من ذلك تصبح الترجمة شكلاً من أشكال الحوار المثمر والفعّال بين الأنا والآخر، وشكلاً من أشكال التعارف الذي نص عليه القرآن الكريم:} يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}(الحجرات:13)، فالتعرف بوصفه قيمة إنسانية سامية، يذيب الاختلافات العرقية والدينية واللغوية والمعرفية. فما أحوجنا إلى مد الجسور ومعرفة الآخر وتأسيس قيم الحوار على أساس معرفي!
إن هذا التواصل لا يتم إلا من خلال نوافذ الترجمة التي تتفتح من خلالها الأنا على الآخر في علاقة يسودها التفاهم والود والحوار. وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقة مهمة وهي أن الأمر لا يكمن فقط في أن نقرّ ونعترف بانتمائنا إلى نظام اجتماعي فكري معين، وما يقتضيه هذا من التزام بمعايير وقواعد هذا الإطار، بل أيضًا يكمن في المقارنة الدائمة بين الذات والآخر، بين إطارنا الاجتماعي الفكري وغيره من الأطر الاجتماعية والفكرية.
جدل التواصل الثقافي بين الأنا والآخر
لعله من الأهمية بمكان التأكيد على أن التواصل بين البشر قديمٌ قِدَمَ وجودِ البشر على الأرض، وكثيرًا ما أدى هذا التواصل إلى التعارف مع الآخر، وحلِّ النزاعات والخلافات.. ومن هنا لكي يكون هناك تواصل مع الآخر المختلف عنه لغويًّا وثقافيًّا ودينيًّا؛ فلا بد أن تكون هناك ترجمة أو ترجمات مفيدة وفاعلة، وذلك رغبة من الشعوب للتعريف بأنفسها وثقافتها ودينها سعيًا وراء التواصل الجاد، لأننا في هذه الظروف الراهنة التي يعيشها العالم، في أمس الحاجة إلى التعرف على الآخر، وفهم آليات تصوّره للشخصية العربية، كما أننا -والقدر نفسه من الضرورة- بحاجة إلى فهمنا للآخر فهمًا عميقًا، لننقل إليه أفكارنا وأدبنا، وأسس ديننا وعقائدنا التي لا تجعلنا بدوًا خارج سياق العصر الذي نعيش فيه، بل جزءًا أساسيًّا منه، فالترجمة أضحت جسرًا للتواصل بيننا وبين الآخر المختلف عنّا عقائديًّا ولغويًّا وثقافيًّا.
ولعلنا نشير هنا ونلفت الانتباه إلى أنه لتسهيل أمر هذا التواصل بيننا وبين الآخر وبين الثقافات المختلفة؛ لا بد من وسائل فعّالة لعل من أهمها تعلُّم لغة الآخر، أي تعلم اللغات الأجنبية، وهي وسيلة فعّالة لبناء جسر من التواصل بين البشر، وأهم أداة لتفعيل تعلّم اللغة هي الترجمة التي تنقل معارف وثقافات الآخرين. فالترجمة هي حاضنة للثقافة ووسيلة للتأثير في العقل البشري، ومن هنا يتحقّق التفاعل المثمر بين الأنا والآخر.
صفوة القول: إن الترجمة سوف تظل هي الأداة الفعالة، والوسيلة الأساسية في صنع التفاعل والتواصل بين الأنا والآخر، فمن خلالها تتعرف الذات على الآخر المختلف عنها ثقافيًّا ولغويًّا، ويتحقق التفاعل وتكتشف الذاتُ الآخرَ، بل تكتشف نفسها أيضًا..
يجب أن نشجع الترجمة في وطننا العربي، لأنها سوف تنقل لنا معارف الآخرين، ونتعرف على فكر وأفكار الآخرين، وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، كي نعيشَ في سياق عصرنا ولا نتخلّف عن الركب الحضاري، بل يتحقق التعارف والتواصل والتلاقح الفكري بين الحضارات كلها، في إطار من الحوار والقيم الموضوعية، التي تحقق العيش المشترك والعيش في سلام، بدلاً من الصراع والتناقض والتناحر والتعصّب.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.