البيروني وهندسة الكون

يعدُّ أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني أول مَن أصل للبعد الكوني للعلوم الهندسية، مما أدى لتأصيله علم الهندسة الفراغية المهم والحساس، الذي تقوم صناعات “الهاي تك” حاليًّا على أساسه المتين. فقد كان البيروني هو واضع قوانينه الأساسية الخمسة عشر، التي انبثقت عنها في عصرنا تقنية الأبعاد الثلاثية، وهي البسيطة في تصوراتها العامة ولكنها المثمرة في نتائجها الملموسة حاليًّا. فلولا تلك التقنية التي طورها البيروني في القرن الرابع الهجري، لما تمكنا من صناعة الشاشات العملاقة المعروفة بــ”سينما البعد الثالث”، وأيضًا تحقيق الدقة في أجهزتنا الحاسوبية (الكمبيوتر) التي يعتمد ضبط شرائحها وتخزين المعلومات فيها على المعادلات الرياضية التي وضعها البيروني منذ ألف عام.

تميزت أبحاث البيروني بجمعها بين المعرفة بالعلوم الرياضية والجغرافية، والمزج بين هاتين الطائفتين من العلوم، بما أدى لنجاحه في قياس قُطر الكرة الأرضية، وأيضًا في اكتشاف علم الأنثروبولوجي “علم صفات الأجناس البشرية”، الذي وضعه البيروني على أساس دراسة تأثير الأشعة الكونية على صفات البشر الخِلْقية والخُلُقية، حيث اعتمد التقارب الذهني والجسدي بين الأجناس المختلفة التي تقطن شبه القارة الهندية، على أساس أنها تجتمع في بيئة جغرافية واحدة بما يخلق تقاربًا بينها رغم اختلافها العرقي.

وقد يستوقفنا ذلك الربط بين الجغرافيا والرياضيات، بل وبين الإشعاع الكوني والأنثروبولوجيا، حيث تبدو تلك العلوم بعيدةً عن بعضها في ذهننا المتأثر بالنزعة العلمية الأوروبية، ولكن تصور النزعة العلمية الإسلامية الأصيلة سيكشف أنه لولا إلمام البيروني بعلمي الرياضيات البحتة والجغرافيا، ما تمكن من قياس قُطر الكُرة الأرضية قياسًا أقرب إلى الدقة، ولولا إلمامه بتركيب الهواء الذي هو الغلاف الجوي ما تمكن من تمييز الأشعة الكونية المعروفة الآن بالأشعة فوق البنفسجية، التي يتعاظم تأثيرها في شبه القارة الهندية ذات المناخ الحار، بما يؤدي لصهر الأنثروبولوجيات المختلفة التي تعيش في الهند في إطار التأثير المناخي الكبير للأشعة فوق البنفسجية “الكونية” الحارقة، التي كان للبيروني” السبق في اكتشافها بتحليله ضوء الشمس بواسطة جهاز التحليل البصري الذي ابتكره “الحسن بن الهيثم”.

اعتبر البيروني أن مهمته تتلخص في تحليل الظواهر الكونية المعقدة لأجل الارتقاء بحياة الناس، وكان لقياسه الدقيق لقُطر الأرض الأثر الأكبر في رسم الخرائط الملاحية، حيث إن كل الخرائط الملاحية حتى عصرنا الحاضر ترتكز على القياسات الدقيقة لقُطر الأرض التي وضعها “أبو الريحان”، كما أدى تحليله الدقيق لضوء الشمس وإشعاعاته المختلفة لنشأة علم الأرصاد الجوية، الذي ترتكز عليه علوم الفلاحة، وتحديد صلاحية المناخ لزراعة محصول معين. ومعلوم أن الأشعة فوق البنفسجية التي اكتشفها البيروني، ضرورية لإنضاج ثمار المانجو، والكاكاو، والبن، التي لا تجود زراعتها سوى في المناطق الحارة. كما اكتشف البيروني أيضًا أن ذلك النوع من ثمار المناطق الحارة غني بالسعرات الحرارية، بما يفسر استهلاكها بشكل أكبر في البلاد الباردة، ومعلوم أن غالب ثمار الكاكاو وبذور القهوة تذهب حاليًّا إلى الشمال البارد، بينما لا يشرب أغلب سكان المناطق الحارة هذين المشروبين، وهو ما يؤكد شمولية رؤية البيروني الكونية، التي قادته لتأسيس علم الهندسة الفراغية، وجداول الأرصاد الجوية، وحساب المثلثات الذي أسسه حوالي عام 1000م.

البيروني وعلوم الفلك

قد نتصور أن العلوم التي أسسها البيروني علوم لا رابط أو صلة بينها، ولكنه انطلق في تأسيسها من التصور الإسلامي الكوني للحياة، وكان تأسيسه للهندسة الفراغية يقوم على تصور وجود جسم كوني له مدار محدد، وهو التصور الذي قاده لتأسيس حساب المثلثات، الذي يفيد حاليًّا في وضع تصاميم ناطحات السحاب. ولكن البيروني في تأسيسه لذلك العلم كان يبحث في أشكال مدارات الأجرام السماوية، التي اكتشف بواسطة حساب المثلثات أن أغلبها يأخذ الشكل المثلث وليس الدائري كما هو شائع، بما قاده لاكتشاف المناظير الفلكية “التلسكوبات” المقعرة، وهو ما عُدَّ تطويرًا فعالاً للمنظومة البصرية التي ابتكرها “الحسن بن الهيثم”.

وقد أدى تصميم البيروني للمنظار الفلكي المُقعر إلى اكتشافه الرؤوس المثلثة لمدارات الكواكب، وأيضًا اكتشاف الكثير من الأجرام السماوية الواقعة خارج المجموعة الشمسية، وهي الكواكب والنجوم التابعة لمجرة الطريق اللبني “درب التبانة”، التي تُعتبر المجموعة الشمسية جزءًا بسيطًا منها. ولم يكن اكتشاف البيروني لتلك النجوم والكواكب مجرد اكتشاف فلكي بحت، ولكن كثيرًا من اكتشافاته أدت لوضع أدلة الإبحار في البحار والمحيطات، وكان لاكتشافه النجم القطبي الشهير دورٌ كبير في تحديد أوقات السكون الاستوائي، وهي أوقات الربيع والخريف اللذين تسكن فيهما الرياح تمامًا في المنطقة الاستوائية بما كان يمنع الملاحة فيها قديمًا، حيث كان تواري ذلك النجم مقترنًا دائمًا بتوقف الرياح في المنطقة الاستوائية خلال الربيع والخريف.

وقد فسر البيروني ذلك بأن دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس كل أربع وعشرين ساعةً، هو ما يحدد ظهور واختفاء نجم معين في السماء، وأن النجوم تظهر لنا إذا تلاقت أثناء دورانها مع كوكبنا الذي يدور بانتظام حول نفسه وحول الشمس. كما فسر البيروني سكون الرياح حول خط الاستواء خلال الاعتدالين وارتباط ذلك بالنجم القطبي، بأن ذلك النجم يسبح في مدار مثلث الشكل، وأنه لا يقترب أثناء سباحته من كوكبنا الذي يسبح في مدار دائري سوى مرتين في العام، الأولى بين يومي 6 يناير و12 فبراير، والثانية بين 12 يونيه و17 يوليه، أي أن النجم القطبي لا يظهر لنا سوى في الصيف والشتاء فقط، وهما الفصلان اللذان يمكِّن الملاحة خلالهما في البحار الاستوائية. وقد رسم الجغرافيون العرب بعد البيروني، خرائط ملاحية دقيقة للإبحار في المحيط الهندي والمناطق الاستوائية بناءً على أبحاثه حول النجم القطبي، الذي جعله الله سبحانه وتعالى دليلاً لتسهيل الملاحة في المحيط الهندي، وهو طريق التوابل الذي يبدأ من موانئ الهند ويمر عبر البحر الأحمر ثم “مصر” إلى الأسواق الأوربية، حيث كانت تستعمل التوابل لحفظ اللحوم، التي كانت تشكل قديمًا مع البقوليات غذاءً للغني والفقير على السواء في أوروبا.

مخترعات البيروني

لم تقتصر اختراعات البيروني على الاكتشافات الفلكية والجغرافية التي أسست لعلم تقويم البلدان الجغرافيا، ولكنه كان أيضًا أول من صمم الروبوت بشكل يشبه شكله ووظيفته التي نعرفها عنه حاليًّا. وكان تصميمه لـ”الروبوت” يقوم على إلمام كامل بأُسس الرياضيات وعلم المعادن. وقد صمم روبوتًا على شكل إنسان كان يقوم بتحميم السلطان “محمود الغزنوي” -سلطان الهند وما وراء النهر- اعتمادًا على اتزان ثلاثمائة معادلة رياضية، قام البيروني على أساس اتزانها بتصميم الروبوت، الذي كان يحوي 2000 ترس ويعمل بنظام الملء التروسي الذي كانت لُعب الأطفال المتحركة تعمل وفقه حتى وقت قريب.

ولم يكن اختراع البيروني للروبوت فخفخةً ينعم بها ذلك السلطان، ولكن ذلك الروبوت كان باكورة المنظومة الآلية التي تدير حياتنا الآن، حيث توصل البيروني للمعادلات الرياضية من الدرجة الرابعة، وهي المعادلات التي تمكن علماء أمريكان في أربعينيات القرن العشرين من ابتكار الكمبيوتر على أساسها، حيث إن ضبط سمك وأبعاد شرائح التيتانيوم التي تخزن المعلومات الداخلة لأجهزة الحاسب الآلي، لا يمكن دون المعادلات التي وضعها البيروني من منطلق إيمانه بقول الحق سبحانه: }وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ # وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}(الذاريات:20-21)، ويبدو أن التلازم بين ما في الأرض وما في النفس من آيات أودعها الله تعالى فيهما كان أساس تفكير البيروني، الذي أدرك أن خلق الإنسان من تراب تلك الأرض يصنع تلازمًا بين اتزان الطبيعة البشرية واتزان البيئة المحيطة بالإنسان. وكانت “هندسة الكون” في نظر البيروني، تقوم على اعتبار ثلاثة مقومات تقوم الفيزياء الحديثة عليها حاليًّا، وهي: التحديد الدقيق للمسافة، والتحديد الدقيق لقوى الجاذبية، والحساب الدقيق للوقت.

ويقينًا، فإن إلمام البيروني بعلوم الفلك كان له الدور الأكبر في وضعه لتلك الأساسيات الفيزيائية، كما كان تعيينه لمواضع الكواكب والنجوم السيارة، العامل الأكبر في تعيينه الدقيق لقطر الأرض وللأوقات الملائمة للإبحار.

آثار البيروني العلمية في عصرنا الحديث

امتد تأثير المنجز العلمي للبيروني حتى اليوم، فقد كان يدرك أن الأمر الوجودي لا بد أن يتوافق مع الأمر الشرعي، بمعنى أن القرآن العظيم لا يمكن أن يتعارض أبدًا مع الحقيقة العلمية التي تستخلص من واقع التجريب العلمي المحايد. وكان إدراك البيروني للتوافق بين الوجودي والشرعي هو ما أدى لتطويره القوانين الرئيسية الخمسة عشر للهندسة الفراغية، وهي قوانين التصور السليم لحركة الأجسام. وهي أيضًا القوانين الرئيسية لمنظومة الصناعات الرقمية في وقتنا الحالي، حيث إن تطوير رياضيين سويديين مؤخرًا لشريحة لا يتعدى قطرها ملليمترين، وتستطيع مع ذلك تخزين ملايين المعلومات قام على استيعاب القوانين الـ 15 المؤسسة للهندسة الفراغية التي وضعها البيروني. وهي القوانين التي اعتمدت الوقت والمسافة والجاذبية الأرضية عوامل محددةً لحركة أي جسم، كما أن اكتشاف البيروني لخصائص الحديد والنحاس، مكَّن علماء المسلمين لاحقًا من صناعة سبيكة تجمع المعدنين وهي أقوى السبائك على الإطلاق، حيث صنع ثوار القاهرة خلال ثورتهم ضد الفرنسيين (أبريل عام 1800م) المدافع في منطقة بيت القاضي بالقاهرة بسبك الحديد مع النحاس، مما أثار دهشة الفرنسيين الذين لاحظوا متانة المدافع التي صنعها الثوار، اعتمادًا على علم المسلمين المخزون منذ البيروني.

البيروني والمخترعات الحديثة

تعدُّ فلسفة “ليوناردو دافنشي “التصويرية نتاجًا مباشرًا لأبحاث البيروني “والحسن بن الهيثم” في الضبط الدقيق لزاوية الإبصار، التي تجعلك تشعر وكأن عين المرأة في لوحة “الموناليزا” ترمق فيك مهما اختلفت الزاوية التي تنظر إليها منها، وأيضًا في تقنية البعد الثالث التي تجعلك تتصور وكأن شخصًا يقف خلف الآخر في نفس اللوحة المرسومة ذات السطح المستوي، بل إن هاتين التقنيتين هما سر إبداعات “دافنشي” الفنية.

ولم تقتصر تطبيقات دراسات البيروني على اللوحات الفنية المنتمية لعصر النهضة الإيطالي وحده، ولكن آثار الهندسة البيرونية ماثلةٌ أيضًا في التلفاز، والشاشات المنزلية التي بني تصنيعها على “البعد الثالث”، الذي له الدور الأكبر في تطوير الـ”آي باد” بشرائحه المختلفة، على اعتبار أن “الآي باد” هو أساس أنظمة الحسابات البنكية والمراقبة الأمنية الشديدة الذكاء حاليًّا، بما يجعل من البيروني أبًا للتكنولوجيا الرقمية بمعناها الحالي، إذ إن “التكنولوجيا الرقمية” قامت على العمودين اللذين رفعهما البيروني، وهما اتزان المعادلات الرياضية من الدرجتين الثالثة والرابعة، وضبط وزن وأبعاد شريحة التيتانيوم التي ضبطها البيروني بين تروس الروبوت الذي صممه قبل ألف عام أو يزيد.  

(*) كاتب وباحث مصري.

المراجع

(1) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة للبيروني.

(2) القانون المسعودي للبيروني.