الحشرات في خدمة البشر

الحشرات، تلك الكائنات الدقيقة الجسم، العظيمة التأثير في كوكبنا. هذه الكائنات العجيبة الشديدة التنوع، قدمت خدمات جليلة للإنسان، بل لا غنى عنها لاستمرار الحياة على سطح الأرض. يؤكد الباحثون أنه لولا الحشرات، ما عاش الإنسان أكثر من بضعة أشهر، لأنها تلعب دورًا رئيسيًّا في توفير الغذاء، فهي تقوم بدورٍ رئيسي في تلقيح النباتات، كما تمثّل غذاءً للطيور والحيوانات، وتساعد على خصوبة التربة بتحليل مكوناتها بواسطة الحشرات التي تعيش في التربة كالخنافس والديدان، أو تحلل أجسامها فيها.

والحشرات من أكثر الكائنات قدرة على الصمود في أعتى الظروف، والانتشار في كل البيئات، والتكاثر بأسرع المعدلات.. حتى إن الباحثين عثروا على بعض أنواعها تعيش في آبار البترول على أعماق غائرة يصل معدل الضغط فيها إلى أضعاف ما يمكن أن يتحمله الإنسان. وهناك قدرات خاصة لبعض الحشرات؛ ففراشة “التنين” مثلاً -المعروفة باسم “أبو عماشة”- تستطيع الرؤية بزاوية 360 درجة، والطيران للخلف بسرعة. وتتمتع الحشرة المسمّاة بـ”فرس النبي” بالقدرة على تحريك رأسها بزاوية 360 درجة في جميع الاتجاهات، فتستطيع رؤية فرائسها من كل اتجاه. وللحشرات القدرة على حمل أثقال تعادل أضعاف وزنها، والنمل مثال واضح على هذه القدرة.

الانتشار الرهيب للحشرات

يقدر عدد الحشرات المعروفة في الطبيعة بحوالي مليون نوع. فالحشرات تتكاثر بمعدل رهيب، فبعض أنواع حشرة “المن” مثلاً تضع ما يصل إلى 20 ألف بيضة خلال مدة حياتها. وكانت الحشرات في بدايات انتشارها على الأرض عملاقة وذات سطوة حتى إنه توجد بمتاحف التاريخ الطبيعي، نماذج من حشرات “الرعاش” العملاقة كانت تعيش في الأزمان الغابرة، وتشبه الطائرات المروحية الصغيرة.

الأمومة لدى الحشرات

من الجوانب العجيبة التي اكتشفها العلماء، إذ إن الكثير من الحشرات -بالرغم من بدائيتها- تمارس غريزة الأمومة بامتياز، وأُودعتْ هذه الغريزة الضرورية لاستمرار حياتها، والحفاظ على أنواعها. والمثال الواضح ما تقوم به شغالات نحل العسل، من إعداد
“الغذاء الملكي” المكون من مزيج من العسل وحبوب اللقاح، لتغذية صغار يرقات النحل التي تفقس، وتغذية الملكة، ورعاية الصغار، والتهوية عليها بأجنحتها خلال اشتداد الحرارة.

كما تقوم حشرة “الحفار” باصطياد فريستها، ووضعها في الحفرة التي تضع فيها بيضها، حتى إذا ما فقس البيض وخرجت يرقات الحفار، تجد غذاءها في انتظارها، كما تحرس الحفرة التي تضع فيها بيضها. وتقوم خنافس “أبو العيد” بوضع بيضها في مجموعات صغيرة بجوار تجمعات حشرات المن، وعندما تفقس اليرقات، تجد بجوارها غذاءها الشهي من المن. وقد سميت “خنفساء الجِيَف” بهذا الاسم، لأنها تقوم بدفن جِيَف الحيوانات الصغيرة -كالطيور والقوارض- بالقرب منها، لتصبح غذاءً ليرقاتها فيما بعد. والأغرب أن خنفساء الجِيَف تفرز عصارات مضادة للميكروبات، لمنع نمو البكتريا والفطر على الجِيَف التي تدفنها، وعقب فقس البيض تزحف اليرقات نحو الجيفة، فيما يقوم الأبوان بتوفير غذاء مهضوم سلفًا لها، من خلال تحليل أنسجة الجيفة، ويتوليان الدفاع عنها من هجمات الكائنات المفترسة.

أصوات وإشارات في عالم الحشرات

هناك وسائل عجيبة للتخاطب والتواصل بين الحشرات. ولتوصيل رسائل معينة لإرهاب أعدائها، أو تحذيرها من غزو أعشاشها، فالكثير من الحشرات تصدر أصواتًا مميزة، مثل الرعَّاشات، والذباب، والنحل، والدبابير، والجراد، وبعض أنواع الخنافس.

وتستخدم بعض الحشرات أصواتها في استدعاء شريكها للتكاثر، من خلال نغمات صوتية معروفة بين الذكر والأنثى. وتقوم بعض الحشرات -كصراصير الحقول- بإصدار نغمات صوتية تحفز أفراد عشيرتها على التجَّمع. ويتواصل أفراد خلية النحل عن طريق لغة الرقص، حيث ترقص الشغالات فوق الخلية، لتخبر زميلاتها بمكان الأزهار، فالزاوية بين مركز الشكل الذي تتخذه في دوراتها فوق الخلية، وبين الخط العمودي، هي نفسها الزاوية التي تقع بين الشمس والمكان الذي توجد فيه الأزهار، وتعلم الشغالات منها الطريق الذي يجب أن تسلكه للوصول إلى مكان الطعام.

كما تتواصل الحشرات بلغة الإشارات الكيميائية، حيث تفرز إناثها نوعًا من الهرمونات، يعرف بالجاذبات الجنسية أو “الفيرمونات”، لجذب الذكور إلى التكاثر الجنسي، لذا فإن من وسائل الحد من الآفات الضارة استخدام ما يعرف بـ”مصائد الفيرمونات” لاصطياد هذه الآفات.

الحشرة الـمُتعبِّدة

ويطلق هذا الوصف على حشرة فرس النبي الصديقة للإنسان، والحقيقة أن اسمها اللاتيني “Mantis” بمعنى النبي، يشير في مختلف اللغات لصفة التعبُّد، وسبب التسمية هو طريقة ضمه ليديه المرفوعتين في استقامة مثل الفرس، وكأنه يتضرع إلى الله، ووقوفه أثناء ذلك في سكونٍ تام انتظارًا لفريسته، ويستخدم ساقيه الأماميتين المزودتين بأشواك حادة في التقاطها بسرعة البرق. وقد ألهم أسلوب فرس النبي في الانقضاض السريع المُحْكَم على فريسته الصينيين؛ لتطوير أساليب قتالية.

الحشرات بين الأضرار والمنافع: الشائع عن الحشرات لدى عامة الناس أنها شرٌّ يجب التخلص منه، وأنها جميعها آفات ضارة، لكن في الواقع هناك منافع عظيمة تسديها الحشرات للبشرية، نستعرضها فيما يلي:

أ- دورها في الحفاظ على الحياة: فمن منافعها العظيمة قيامها بنقل حبوب اللقاح التي تلتصق بأجسامها عند وقوفها على الأزهار، من الأزهار المذكرة إلى الأزهار المؤنثة، فتساعد على التلقيح الخلطي بين النباتات، ويقوم نحل العسل بقسط وافر من مهمة تلقيح الأزهار. وقد قال العالم “روبرت أينشتاين”: “إذا اختفى النحل من كوكب الأرض، فلن يبقى للإنسان إلا سنوات قليلة للاختفاء بعده”، فنهاية النحل تعني نهاية تلقيح النباتات، فإذا انتهى النبات، انتهى الحيوان ثم الإنسان”. لكن الإنسان -للأسف- هو أكبر خطر يهدد النحل، لاستخدامه المفرط للمبيدات الحشرية؛ التي تقتل الحشرات بلا تفرقة بين الحشرات النافعة والآفات الضارة.

بـ- القضاء على الآفات الضارة: إن بعض الحشرات النافعة تعيش كمفترسات أو طفيليات على حشرات أخرى ضارة، مما يساهم في الحد من تعداد الآفات الضارة. ومن أمثلتها حشرة “البمبلا” التي تتطفّل على ديدان اللوز القرنفلية، وخنفساء أبو العيد أو “الدعسوقة”، وحشرة “أسد المن”، اللتان تفترسان المن، والنطاطات، وغيرهما من الحشرات الصغيرة.

وتفتك حشرة فرس النبي بفرائسها من الجراد، والخنافس، والدبابير، والعناكب بين أرجلها الأمامية ذات الأشواك الحادة، ويمكن شراء بيض حشرة فرس النبي واستخدامها في الحدائق، للقضاء على الآفات الضارة بالأشجار والمحاصيل. وتُخلِّصُنا حشرة “أسد النمل” من أعداد كبيرة من النمل -غذائها المفضل- حيث تحفر يرقة أسد النمل حفرًا صغيرة في الأماكن الرملية برأسها القوي الذي يعمل كالجاروف، فيزيح رمال الحفرة على الجانبين، وتستخدم هذه الحفرة كفخ للإيقاع بفرائسها من النمل. والأغرب أنه بعد التهامه لوجبته الشهية من النمل، يقوم أسد النمل بتنظيف حفرته، وإلقاء مخلفات الوجبة خارجها.. لكن أكبر تحدٍ يواجه هذه الحشرات النافعة هو الاستعمال العشوائي للمبيدات، الذي يؤدي لانقراض مفترسات الآفات الضارة، مما يؤدي لانفجار في تعداد الآفات.

جـ- منتجات نحل العسل: فالعسل هو الغذاء الكافي الشافي، الذي يستخدم كعلاج للكثير من الأمراض؛ ومن استخداماته الشهيرة دهان الحروق للتعجيل بشفائها. كما أن الشمع الذي تفرزه شغالات نحل العسل يدخل في صناعة الأغذية، والأدوية، والبويات، والورنيش.. أما الغذاء الملكي فيستخدم لتنشيط حيوية الجسم، لغناه بالفيتامينات، والأحماض الأمينية. ويستخدم صمغ النحل (البروبوليس) الغني بمضادات الأكسدة، للتسريع بالتئام الجروح، والتخفيف من الالتهابات والقروح، وضبط نسبة السكر بالدم، حيث إن النحل يلصقه أصلًا بجوانب الخلية، لحمايتها من الميكروبات. ويستخدم سم النحل الموجود في آلة اللسع، بشغالة نحل العسل كعلاج للروماتيزم بعد استخلاصه وتنقيته.

د- إنتاج ديدان القز لمادة الحرير: وهو عبارة عن إفرازات الغدد اللعابية لديدان الحرير، التي تتصلب بتعرضها للهواء. ويدخل الحرير في صناعة المنسوجات غالية الثمن، والمُطرزات، والخيوط الجراحية، والمظلات، ويبلغ طول خيط النسيج الواحد الذي يكوّن شرنقة دودة القز 300-900 مترًا. ولعبت دودة الحرير (القز) دورًا هامًّا في تاريخ البشرية، فكانت وراء نشوء تجارة الحرير بين الشرق والغرب، وكان هناك طريق طويل لتجارة الحرير عُرِف بطريق الحرير.

هـ- إنتاج الأصباغ وأدوات الزينة: كثير من الأصباغ ومستحضرات التجميل، يتم استخلاصها من قشور الحشرات القشرية. وهذه الأصباغ تدخل أيضًا في تلوين المشروبات، والأدوية، ويدخل بعضها في دهان الأثاثات. ويستخرج حمض “التانيك” المستخدم في الصباغة ودباغة الجلود، من الأورام النباتية الناتجة عن بعض أنواع الحشرات. وأمدّت الحشرات الفنانين بالمواد اللازمة لعملهم؛ فتم استخدام مادة “اللك”، المشتقة من الإفرازات الراتنجية لأنثى حشرة “اللاك”؛ للمساعدة في إضفاء اللمعان على الزخرفة. وتقوم بعض الشعوب -كشعب “الزولو” في جنوب إفريقيا- بارتداء عقود كهرمانية متقنة من الحشرات المُصبرة في غلاف شمعي، أشبه بعقود اللؤلؤ الساحرة.

الفوائد الطبية للحشرات

للحشرات استخدامات عديدة في مجال الطب؛ فبالإضافة للخواص الطبية العظيمة لمنتجات نحل العسل، هناك مادة “الكانثريدين” الموجودة في يرقات خنافس البثرات، التي تستخدم طبيًّا في استخراج أدوية مدرة للبول. والأغرب أن يرقات بعض أنواع الذباب المعقمة، تستخدم في علاج التقيّحات العميقة لقدرتها على إزالة الأنسجة الميتة المتقيحة. وكان المصريون القدماء أول من استخدم لسع الدبابير لمكان الورم لإزالة الاحتقان. وقد عُرِف لدى العرب قديمًا استخدام دودة “العلق” لعلاج ضغط الدم المرتفع. وهناك عدة أبحاث علمية تؤكد على فعالية المواد المستخرجة من حشرات بعينها في علاج بعض الأمراض، فمثلاً يفرز نوع من الخنافس مادة تساعد على علاج سرطان البنكرياس، وفي لعاب النمل مواد تساعد على تنشيط الدورة اليومية، ومادة “الفيكسين” الموجودة في الأغشية الخارجية لأجسام الحشرات أمكن استخدامها في إنتاج بعض المضادات الحيوية، ولكن يجب تقنين استخدام هذه المنتجات، ومراعاة القواعد العلمية.

1- منافع الحشرات في التحقيقات الجنائية: أمكن استخدام الحشرات دليلاً جنائيًّا على الجرائم التي مر عليها وقت طويل، فهناك علم قائم على الحشرات يعرف بعلم الحشرات الجنائي؛ نشأ في الصين عام 1325م عندما قتل شخص مزارعًا بمنجل، فقام زعيم القرية بطلب جميع المزارعين الذين لديهم مناجل ووضعها على الأرض، وسرعان ما التفت الحشرات الطائرة حول المنجل المستخدم في الجريمة، وهذه الحشرات الطائرة هي الذباب الأزرق، فمع أن القاتل قام بتنظيف المنجل جيدًا، إلا أن الذباب يستطيع شم رائحة دم القتيل الذي تغذى عليه الذباب الأزرق، وتبدأ الحشرات حياتها على الكائن الميت بعد موته بثوانٍ معدودة، حيث يظهر الذباب الأزرق الذي يقوم بوضع البيض داخل الجثة، وأمكن تحديد وقت القتل، بتقدير دورة حياة الحشرة، بواسطة معرفة نوعها (يرقة أو دودة أو ذبابة).

2- في مكافحة تجارة المخدرات والكشف عن المتفجرات: يتمتع النحل بحاسّة شمٍّ عالية بشكل مشابه للكلاب البوليسية، وقد أثبت العلماء أن النحل استطاع في معظم التجارب التمييز بين الكوكايين والهيروين.. فيمكن للشرطة استخدامه في نقاط التفتيش. كما أجرى العلماء أبحاثًا تسمح للجراد بالكشف عن المتفجرات باستخدام حاسة الشم القوية جدًّا لديه، ويقول العلماء إنه بتزويد الجراد بوشم حراري، فإنه يرشدهم إلى المناطق الخطيرة والمعزولة.

3- الحشرات باعتبارها غذاء للإنسان والحيوان: لعله من أغرب استخداماتها، ففي كثير من مناطق العالم تستخدم كأطعمة بشرية، وتوضع في قوائم الكثير من المطاعم. ومن المعروف أن الجراد يستخدم طعامًا -خصوصًا في المناطق الصحراوية- ومنها بعض بلاد الجزيرة العربية، حيث يتم جمعه وشيُّه. كما يعتبر النمل الآكل لأوراق النبات، من أكلات التسالي في كولومبيا بأمريكا اللاتينية، حتى إن الأهالي يتسلون بأكله كالفشار في دور السينما، ويجمع الأستراليون نوعًا من الفراشات الكبيرة، ويقلونها أو يشوونها.. وما زال القرويون بالعراق، وإيران، وتركيا يجمعون الندوة العسلية الناتجة عن حشرة المن، ويستخدمونها في إعداد الحلوى. وتنتشر في أرض سيناء الحبيبة نباتات “الطرفة”، التي تصاب بالحشرات القشرية مثل المن، التي تمتص عصارتها. وينتج عن هذا سيلان كميات هائلة من العصارة على سطح النبات، وتجمدها خلال ساعات الصباح الأولى الباردة.. وكان بدو سيناء يجمعون هذه الندوة العسلية، ويبيعونها لرهبان الأديرة، الذين يبيعونها بدورهم للسائحين من زوار الأديرة، ويطلقون عليها “خبز الله”، ويأكلونها تبركًا بها.

وهذه “الندوة العسلية” يصفها بعض العلماء والمفسرين بأنها المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل غذاءً لهم. وأثبت العلماء بتحليلها، احتواءها على المواد الكربوهيدراتية التي تمنح الإنسان الطاقة. وتشكل أطباق الجراد، والصراصير، والديدان جزءًا من قوائم الطعام في عدة دول آسيوية ولاتينية. ولعلنا لا نستغرب بعد هذا، أن تقارير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) شجعت على الاستعاضة بالحشرات عن العجز في اللحوم الحيوانية بالمناطق الفقيرة من العالم.  

(*) كاتب وأديب مصري.