إذا نظرنا إلى الحكمة من رحلة المعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أنها كانت لإراحته من الآلام والأحزان والهموم التي اكتنفته بسبب أذى المشركين واضطهادهم.. وضيق صدره صلى الله عليه وسلم من ذلك كما حدث له مع أهل الطائف.. وكذلك كانت لتسليته والتخفيف عنه من حزنه على فَقْد زوجته خديجة رضي الله عنها، وعمّه أبي طالب.. وأيضًا تكريمًا له صلى الله عليه وسلم بعد سنين طويلة من الدعوة إلى الله، وتثبيتًا وتهيئة لما سيراه من آيات ربه الكبرى.
ولكن هل توقفت آلامه صلى الله عليه وسلم وأحزانه بعد رحلة المعراج التي كانت قبل الهجرة بسنة في المشهور من أقوال العلماء؟ وهل توقف فقدان الأحبة له صلى الله عليه وسلم؟ كلا؛ بل استمرت الآلام والأحزان، ومات الأهل والأحبة، وعلى رأسهم أولاده الذين تُوفُّوا في حياته بعد رحلة المعراج، وقُتل عمُّه حمزة رضي الله عنه ومُثِّل بجسده.
وكذلك لم يتوقف تكذيب المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت كل حروبه معهم بعد رحلة المعراج؛ كسروا رباعيته، وشجُّوا وجهه الشريف يوم أُحُد، ولاقى من الشدة يوم الأحزاب ما لاقاه، حينما أحاط المشركون بالمدينة وجاؤوا من كل حدب وصوب، واجتمعت شدة الخوف مع شدة البرد والجوع، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وزُلزِلوا زلزالاً شديدًا.. إذن، كيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشدائد؟ هل عُرج به مرة أخرى؟ لا.
فكان لا بد في رحلة المعراج السماوي أن يعطى النبي صلى الله عليه وسلم ما يماثل هذا المعراج في آثاره من إزالة الآلام والأحزان، وتثبيت القلوب لمواجهة الشدائد التي يلاقيها صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم بعد ذلك؛ فأعطي المعراج الأصغر، أو ما نسميه بـ”المعراج الأرضي” وهو “الصلاة”.
وبذلك أصبحت فريضة الصلاة البديلَ الأرضي لرحلة المعراج السماوي في معالجة الضيق والآلام والأحزان، يقول تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)(الحجر:98)؛ أي إن حصل لك ضيق في صدرك بسبب تكذيب المشركين واستهزائهم، فعليك بالتسبيح والصلاة. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)، أي من المصلِّين. ويقول سبحانه موجِّهًا المؤمنين: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)(البقرة:45)، ويقول أيضًا: (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28)؛ فالصلاة فيها الأنس بالله تعالى ومناجاته، والتسلية عن جميع الأشياء المؤلمة والمحزنة، وفيها أيضًا الراحة والسكينة والطمأنينة. وقد التزم صلى الله عليه وسلم بهذا التوجيه الإلهي، فيروى عن حذيفة رضي الله عنه قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمرٌ، صلَّى” (رواه أبو داود). وكان صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر أو حزن قال: “قُمْ يا بلال فأرحنا بالصلاة” (رواه أبو داود). فكان اشتغاله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، راحة له.
حادثة شق الصدر والوضوء للصلاة
إن أولى معجزات المعراج السماوي للنبي صلى الله عليه وسلم هي حادثة شق صدره الشريف، حيث يروي أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان أتاني آت، فشق ما بين هذه إلى هذه -يعني ثغرة نحره إلى شعرته- فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانًا، فغسل قلبي ثم حُشي ثم أعيد” (رواه البخاري). ولا شك أن ذلك فضيلة له صلى الله عليه وسلم فُضل بها على غيره، ومعجزة من معجزات النبوة؛ إذ لو شق عن موضع القلب من أحد البشر ثم استخرج قلبه، لمات من فوره، لكن جبريل عليه السلام استخرج قلبه الشريف، وغسله بماء زمزم ثم جاء بطست ذهبي مملوء إيمانًا ويقينًا، فأفرغه في قلبه صلى الله عليه وسلم، ولم يتألم لذلك ولم يمت. وكان شق صدره وما أعقبه كله، إعظامًا وتأهبًا لما يلقى في رحلته المعراجية.
وكذلك الوضوء للصلاة؛ فقد فرض الله سبحانه وتعالى الوضوء على المؤمن إذا أحدث وأراد أن يصلّي، فلا صلاة بغير وضوء. فكما أن المعراج السماوي للنبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بتطهير القلب وتنظيفه، كذلك في المعراج الأرضي للمؤمن -وهو الصلاة- فتبدأ بالتطهر والتنظف المسمى بالوضوء. إلا أن الفرق بين التطهرين أن الوضوء للمؤمن عبارة عن تطهر الظاهر من الحدثين الأصغر والأكبر، وتطهر الباطن من الكدورات والشوائب القلبية؛ حتى يقف بين يدي الله بطهارة الظاهر والباطن. أما غسل قلب النبي صلى الله عليه وسلم فليس من باب غسل الكدورات، فليس في قلبه صلى الله عليه وسلم شيء منها حتى يحتاج إلى التطهر؛ وإنما كان ذلك إعظامًا لشعائر الله ولتقويته على مشاهدة الآيات الكبرى التي لم يشاهدها من يعيش في هذا العالم الأرضي، وكذلك لوقوفه بين يدي الله في هذه الرحلة المعراجية.
ومما يقرب الصلة بين شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم قبل رحلته المعراجية ووضوء المؤمن قبل أداء الصلاة، أن كليهما يشتمل على التخلي والتحلي، فقد شُقَّ صدره صلى الله عليه وسلم وغُسل أولًا وهذا هو التخلّي، ثم ملِئ بالإيمان والحكمة وهو التحلّي. وكذلك الوضوء ففيه تخلٍّ من الذنوب، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا توضَّأ العبدُ المسلم أو المؤمن، فغسَل وجهه، خرجَ من وجهه كلُّ خطئيةٍ نظر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخِرِ قطرِ الماء- فإذا غسل يدَيه خرج من يديه كلُّ خطيئةٍ كان بطشَتْها يداه مع الماء -أو مع آخِرِ قطرِ الماء- فإذا غسل رِجلَيه خرجتْ كلُّ خطيئةٍ مشتْها رِجلاه مع الماء -أو مع آخِرِ قطرِ الماء- حتى يخرج نقيًّا من الذنوب” (رواه مسلم). أما ما في الوضوء من التحلِّي بالإيمان فيتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم: “الطُّهورُ شَطْرُ الإيمان” (رواه مسلم)، وفي الرواية الأخرى: “الوضوء شطْرُ الإيمان” (رواه الترمذي).
مبدأ رحلة المعراج والقبلة الأولى
حينما تكلم القرآن الكريم عن رحلة الإسراء قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى)(الإسراء:1)، فكانت بداية رحلة الإسراء من المسجد الحرام ونهايتها إلى المسجد الأقصى، ثم بدأت رحلة المعراج من المسجد الأقصى صعودًا إلى السماوات العلى، ومن ثم هبوطًا إلى المسجد الأقصى مرة أخرى بعد انتهاء رحلة المعراج السماوي. ويلاحظ أن القرآن الكريم ذكر بداية رحلة الإسراء والمعراج بـ”المسجد”، ولعل ذلك لعظيم الصلة بين هذه الرحلة المباركة وبين المساجد التي هي موضع الصلاة والسجود لله تعالى، وكأن الله يقول للمؤمنين: “إذا أردتم أن تعرجوا إليّ بأرواحكم كما عرج إليّ عبدي ونبيي بروحه وبدنه؛ فعليكم بالمساجد فهي بداية عروجكم”.
ولعل هناك إشارة أخرى في الصلة بين المعراجين، وذلك في كون “المسجد الأقصى” هو بداية الرحلة المعراجية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك القبلة الأولى التي استقبلها المسلمون في صلاتهم، حيث ابتدأ المسلمون فريضة الصلاة مستقبلين “المسجد الأقصى” ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم حولت بعد ذلك إلى “المسجد الحرام”.
القرب من الله بين المعراج السماوي والأرضي
لم يزل صلى الله عليه وسلم يترقى في رحلته المعراجية حتى خرق حجب السماوات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم طول حياته إلى هذا الموضع والمحل من القرب من ربه عز وجل كما وصل إليه في رحلة المعراج، فهو محلٌّ سبق به الأولين والآخرين.
وهنا تظهر الصلة الوثيقة بين المعراجين السماوي والأرضي في القرب من الله تعالى؛ فإذا كان المعراج السماوي هو الرحلة التي سجلت أعلى وأقرب نقطة في القرب من الله المنزه عن المكان والزمان سبحانه، فإن المعراج الأرضي هو الرحلة التي تليها في هذه المكانة من القرب منه سبحانه وتعالى، ويوضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: “أقربُ ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد” (رواه مسلم)، ويقول سبحانه وتعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(العلق:19)؛ وهذا القرب بالرتبة والكرامة لا بالمسافة والمساحة، إذ هو سبحانه منزّه عن المكان والزمان. وكذلك القرب من الأنبياء يوم القيامة وعلى رأسهم خير الأنبياء صلى الله عليه وسلم فطريقه هو الصلاة، فحينما سأل ربيعة الأسلمي النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة قال له: “أعنِّي على نفسكَ بكثرةِ السجود” (رواه مسلم)، أي بكثرة الصلاة، لأن السجود هو أحد أركانها، فيزداد العبد بالصلاة قربًا من الله فترتفع درجته في الآخرة، فتقرب منزلته من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقوف بين يدي الله في المعراجين
عُرج بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، ودار حوار بين الله جل وعلا وعبده وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم لم يصلنا منه إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “فأوحى الله إليّ ما أوحى، ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة”، ثم ما ذكره من مراجعته ربه في أمر الصلاة حتى أصبحت خمسًا، فقال صلى الله عليه وسلم: “فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي” (رواه مسلم). هذه المحاورة والمراجعة بين الله تعالى ونبيه عليه الصلاة السلام في المعراج السماوي، لم يرد سبحانه وتعالى أن يحرم عباده المؤمنين من بركاتها؛ ففرض عليهم المعراج الأرضي الذي فيه نوع من المحاورة بين العبد وربه. وقيل: إذا أراد العبد أن يكلمه ربه فليقرأ القرآن، وإذا أراد أن يكلم ربه فليدخل في الصلاة، فجمعت الصلاة بين الأمرين جميعًا. وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث النبوي الذي يرويه عن رب العزة تبارك وتعالى فيقول: ” قال الله تعالى: قسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفَين ولِعبدي ما سأل” (رواه مسلم). فالعبد حينما يستشعر ذلك الحوار الإلهي، فإن ذلك يؤدي به إلى الخشوع والإحسان في الصلاة، والإحسان كما عرَّفه النبي صلى الله عليه وسلم: “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (رواه البخاري)، فيكون ذلك المشهد كأنه مشهد محاورة النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا في رحلته المعراجية.
السلام على الأنبياء والملائكة في المعراجين
ومن مظاهر الصلة بين المعراج السماوي والمعراج الأرضي هو قصة التشهد في الصلاة؛ فقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ كلامه ليلة المعراج بالثناء على الله سبحانه وتعالى بقوله: “التحيات لله والصلوات والطيبات لله”، فقال سبحانه وتعالى: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”، فقال صلى الله عليه وسلم: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”، فقال جبريل: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”، وتابعه جميع الملائكة (رواه مسلم)، وإن كانت هذه القصة لا سند لها في كتب السنة النبوية؛ إلا أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سلم على الملائكة وكذلك الأنبياء في معراجه السماوي، فقد جُعل للمؤمن نصيبٌ من السلام عليهم أيضًا وذلك من خلال التشهد في الصلاة. فإذا أراد المؤمن أن يسلم على الملائكة أو على الأنبياء، فعليه بالمعراج الأرضي، وحينما يصل إلى التشهد يجد نفسه يقول: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”، وكلمة “عباد الله الصالحين” هي بديل للملائكة والأنبياء.
خلاصة القول: إن الناظر في أحداث رحلة المعراج للنبي صلى الله عليه وسلم، يجد عظيم التقارب والصلة بينها وبين فريضة الصلاة، ولذلك فرضت الصلاة في هذه الليلة، فكأن الله تعالى لما أكرم نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم بهذه الرحلة السماوية، أراد أن لا يحرم أمته من هذا الفضل، فوهبهم وأعطاهم فريضة الصلاة لتكون معراجهم الأرضي إليه سبحانه بأرواحهم، وتحقق لهم آثاره من الطهارة والراحة والقرب منه سبحانه. إذن، الصلاة عطية وهِبة من الله لعباده المؤمنين.
(*) باحث أكاديمي بجامعة الأزهر الشريف / مصر.