المُبدئ المُعيد تُطلَق دائمًا بالاقتران، فهو سبحانه الذي بدأ الخلقَ ثم يُعيده. وهي صيغة من صيغ أسماء الله الحسنى الواردة في السنن والآثار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكلمة “مُبدئ” تشير إلى معنى المبدع، والإبداع هو أن تأتي بجديد ليس على مثال سابق؛ فالإنسان حينما يخترع شيئًا لا يمكن إلا وأن يكون لهذا الاختراع أصلٌ، حتى إنَّ الذي اخترع العجلات لا بد أنه رأى شجرة تتدحرج على الأرض فاستنبط من الشجرة العجلة، والذي اخترع الغوَّاصة رأى السمكة في أعماق البحر تغوص وتسبح، والذي اخترع الطائرة تأمل في حركة الطيور.

فعلى مستوى البشر، ما من اختراع أو إبداع بشري إلا وهو على مثال سابق، حتى إن الكتّاب الخياليين إذا أرادوا أن يصوِّروا قصة خيالية، يصوِّرون أشخاصًا وهؤلاء الأشخاص على مثال سابق، فيصوِّرون الشخصية الخيالية لها رأس ولها يدان ورِجلان، ولكن مع بعض التعديلات.

والمهندس المعماري عندما يريد أن يصمم شكلًا هندسيًّا هناك عدة أشكال في مخيلته، فهو يطبّق الشكل الأول، ثم الثاني والثالث والرابع والخامس، وبعد السادس -مثلًا- تجده يعيد الشكل الأول، ويدور في فلك هذه الأشكال بشكل عام مع تغييرات في الفروع والتفاصيل. فالقدرة على إحداث شيء من غير مثال سابق عند الإنسان محدودة للغاية، فلا بد من مثال سابق يقوم بتقليده وتطويره، لكن ربنا عز وجل عندما قال عن نفسه إنه هو المُبدئ، أي خلق الكون ابتداءً على غير مثال سابق، ودون تقليد أو تطوير: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت:20).

انظر إلى الكون، مَن الذي أبدعَ تصميمه على شكل كُرات؟ فالكرة شكلٌ هندسيٌّ له خصائص، ومن صمم الكون على أنه يتحرك؟ هذه الحركات المغلقة مَن صمم قوى الجاذبية؟ من صمم النور والظلام؟ من صمم أن الحياة أساسها الماء؟ فهذا كلُّه إبداع على غير مثال سابق.

لو طلَبْنا من أحد الرسامين المبدعين أن يرسم لنا فراشة جميلة فإنه سيرسم حتمًا، ثم طلبنا منه أن يرسم فراشة ثانية مختلفة، وثالثة ورابعة وخامسة، بعد عدد معيّن ستجد أن طاقة الإبداع عنده انتهت، وسيعود إلى استخدام الأشكال نفسها في الرسم، والهيئات عينها في التعبير عما في مخيلته من صور الفراشات، كما شاهدها على أغصان الأشجار، لكن انظر إلى المبدئ جل جلاله، تقول الإحصائيات: إن في الطبيعة ما يزيد عن مائة ألف فصيلة ونوع من الفراشات.

مَن الذي ابتدأ خلقَها؟ من الذي أبدع أشكالها؟ مَن الذي خلق لها ألوانها البراقة؟ مَن الذي أعطاها هذا الجمال والرشاقة؟ (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ)(البروج:13).

أيضًا لو قلنا لك: ارسم ورقةَ الزيتون.. فإذا قمت بإجراء المحاولة فسترسم ورقة دائرية، أو مثلَّثة، أو مستطيله، أو ورقة مسننة، أو نحيلة وطويلة، أو قصيرة وثخينة.. عدة أمثلة ترسمها وفق ما رأيت من أوراق الزيتون من قبل، ولكنك لو دخلت إلى حديقة زيتون ودققتَ النظر في الأوراق المختلفة، لوجدتَ عددًا لا يحصى من أشكال الأوراق. وكذلك الأزهار والورود، إذا دققت فيها النظر فستجدها لا تعدّ ولا تحصى، وكذلك القمح، له أكثر من اثني عشر ألف نوع، مَن الذي أبدعَها وابتدأ في صناعتها؟ (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(النمل:64).

هذا الكون معرض لأسماء الله الحسنى، فكلما زدتَ هذا الكون نظرًا وتأملًا تعرَّفت إلى الله أكثر فأكثر. إن هذا الكون باب واسع تدخل منه على الله، وطريق قصير تصل به إليه.

انظر إلى خلق الإنسان الذي جاء على سبيل التقليد، وانظر إلى خلق الله الذي جاء على سبيل الإبداع.. إن أرقى طائرة صنعها الإنسان حتى الآن، لا ترقى إلى مستوى العصفور أو الحمامة، فقد حطم طائر البُقْوَيْقَة “غودويت” الرقم القياسي العالمي، من خلال الطيران من أقصى الشمال في “ألاسكا” شمال أمريكا إلى أقصى الجنوب في “تسمانيا” جنوب أستراليا، بدون أكل أو شرب، لمسافة 13560 كيلومترًا دون توقف في 11 يومًا و11 ليلة متواصلة.

ونحن إذا طرنا بطائرة سبع عشرة ساعة فوق مياه المحيط الأطلسي نقول: هذا شيء يفوق عجائب الدنيا السبع. هذا الطائر قد طار إلى هدف محدد، ومقصد هو يقصده، دون أن يضل أو يخطئ الطريق. وبعض الطيور تقطع سبعة عشر ألف كيلومتر ولا تضلُّ الطريق بلا بوصلة وبدون الاستعانة بمراكز البث المنتشرة في أنحاء المعمورة. فالطائرة تعرف موقعها من خلال هذه المراكز وبالاتصال المستمر مع هذه المحطات الأرضية، ويعرف منها حوادث الطائرات بالساعة والدقيقة، ومكان الوقوع إذا انقطع اتصال الطائرة بالأرض.. ولكن هذا الطائر الذي يطير من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، من شمال بريطانيا إلى جنوب أفريقيا، وحينما يعود إلى عشه الذي بناه قبل عام، لو أنه أخطأ في زاوية العودة بمقدار درجة واحدة، لهبط في دولة أخرى، وعلى سبيل المثال لو كان عشُّه في بريطانيا وأراد العودة إليه، فلو أخطأ في درجة واحدة من درجات تحديد الزوايا، لهبط إما في أيرلندا شمالًا أو في هولندا وبلجيكا جنوبًا وشرقًا.

والأغرب من ذلك، أن هذه الطيور لا تعود فقط إلى ذات المنطقة التي بنت فيها أعشاشها، بل تعود إلى العش ذاته، إلى البيت عينه، إلى غصن الشجرة نفسه التي عشَّشَت عليه العام الماضي. كلما تأملنا في خلق السماوات والأرض، ازددنا خشوعًا لله  وتعظيمًا له، وشعرنا بمدى عظمته أكثر فأكثر.

اسم الله “الـمُـعيد”

العود لغةً هو الرجوع، كالعودة، وهو الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، والمُعيدُ من الرجال العالم بالأمور. ففي الجامعة هناك مصطلح اسمه “المُعيد”، وهو الطالب المجتهد الذي اجتاز الجامعة بنسب نجاح ممتازة، فقامت إدارة الجامعة بتعيينه في كوادرها، وبدأت تعمل على إعداده ليكون دكتورًا مدرِّسًا في المستقبل.

لكن المعيد في حق الله تعالى، هو الذي يُعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات، ويُعيد المخلوقات بعد الممات إلى الحياة والحساب. (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)(العنكبوت:19).

وهو الذي يُعيدُ الأشياء بأعيانها، فهذا الجسم الذي فني وأكله الدود في القبر لا يصعُب على الله المُعيد أن يُعيد خلقه كما كان. ولو أن الإنسان أُحرق وصار رمادًا ثم طار وتبعثر في الهواء مع هبوب الرياح فأصبحت كل ذرَّة منه في مكان وتفرَّقت ذراته مع الرياح؛ فإن الله المُعيد قادر على أن يُعيده من جديد كما كان وكما هو: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(يس:79).

فالإنسان أحيانًا يقوم بعمل ما، بواسطة معونات خاصة وظروف معيّنة ساعدته على إتمام العمل، فإذا كلَّفْتَه أن يعيده، لا يستطيع. فالإنسان أحيانًا تأتيه بوارق وإشراقات وحالات استثنائية، فهو لا يملك هذا الإشراق دائمًا ولا يستطيع أن يبقى على هذا المستوى دائمًا، فكل من يعمل في أعمال الفكر أو الإبداع أو التأليف أو الشِّعر، يعرف أن الإبداع لا يأتيهم متى يشاؤون، الإبداع قد يأتي وقد لا يأتي، وهذا دليل على ضعف الإنسان، أحيانًا يُبدع في إلقاء خطاب، يبدع في كتابة كتاب، يبدع في فكرة، يبدع في اكتشاف، لكن قد لا يبدع أحيانًا أخرى.

وهذا ثابت عند الأدباء والكتَّاب والشعراء، حتى كل الأعمال التي تتسم بالإبداع أصحابها يعترفون أنه في بعض اللحظات يأتيهم إشراق، في بعض اللحظات تأتيهم معونة، في بعض اللحظات يتألَّقون، ولكنَّ هذه اللحظات لا يملكونها ولا يتمكنون من إعادتها دائمًا، تأتيهم أو لا تأتيهم، ولذلك ما فعلَه الإنسان اليوم بإشراقة أو بإبداع أو باستثناء لا يملك أن يُعيده، وهذا من ضعف الإنسان، لكن الله سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(الروم:27).

انعكاس اسم “الـمبدئ الـمعيد” على الإنسان

إن الإنسان إذا عرف بدايته من ماء مهين، وأنه خرج من عورة ودخل في عورة، ثم خرج مرَّة أخرى من هذه العورة، هذه هي بداية الإنسان، ثم بعد هذا الخلق سوف يُعيده الله إلى الموت، وبعد الموت يُعيده الله إلى الحياة، فعليه أن يتأدب مع خالقه ويتذكر البداية والنهاية، البداية والمعاد.

فهنيئًا لمن ذكر المُبتدا والمنتهى.. ذكر المبتدا، وكيف كان نطفة من ماء مهين، ثم صار طفلًا ضعيفًا، ثم بلغ أشدّه واستوى، ثم يعود إلى ما كان عليه من الضعف والجهل، لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا، ثم يطويه الردى، ثم يُعيده الله تارة أخرى ليحاسبه على كل أعماله.. فالله يبدأ الخلق ثم يعيده لتجزى كلُّ نفسٍ بما تسعى.

(*) كاتب وباحث سوري.