الوجدان عنوان وعي الإنسان

يستخدم فتح الله كولن “الضمير” بمعنى “الوجدان”، وقد أشار إلى أن الإنسان تتقاسمه آليتان هما النفس والوجدان؛ النفس تشكل الغرائز والأهواء، وأما الوجدان فيشكل القلب والروح والسر والخفي والأخفى واللطائف الربانية المتعلقة بعالم الأمر، والإرادة، والإدراك، والشعور، والحس، والمشاعر.. أي أنها متعلقة بالجانب المعنوي من الإنسان، وهو يستخدم المصطلحات الصوفية كما هو واضح. ويعرِّف “كولن” الوجدان بأنه: “عنوان وعي الإنسان لنفسه ولكيانه، وهو آلية روحية تحدس وتدرك وتنشر أشرعتها على الدوام نحو اللانهاية”.

أهمية الضمير

 من خلال كتابات فتح الله كولن نستطيع أن نتبين أهمية الضمير كالتالي:

1- ميزان ومقياس للحقيقة: يعطي “كولن” أهمية كبيرة للضمير، بل يعتبره مقياسًا للفضيلة، وحاكمًا لا يخطئ على سلوك الفرد وأخلاقه، فيقول: “الضمير العام هو إدراك وحس وحدس السواد الأعظم، ولذا كان خطؤه نادرًا لا سيما إن كان الإلهام نفسه من منابع معلوماته ومكتسباته”. وحيثما كان حاكمًا لا يخطئ، وجب على الجميع الانقياد لأحكامه وقبولها والرضا بها، وهذا يعني أن يكون المرجع الأخير في بعض المسائل كما يرى “كولن”. فالضمير عنده مفتٍ حاد البصر، عندما يفتي يكون دائمًا بجانب الحقيقة، ولا يخدع في فتواه أحدًا، فموازين الضمير متينة وصافية وبريئة براءة الملائكة كما يقول “كولن”.

2- طريق للسعادة الأبدية: إضافة إلى كون الضمير حاكمًا في الدنيا، فهو سبيل الكمال والسعادة في الآخرة، يقول “كولن”: “الإرادة والشعور والذهن والقلب هي أدوات الإحساس للروح ووسائطه، وهي في الوقت نفسه أهم أسس الضمير التي يقوم بإيصال الإنسان إلى الكمالات الإنسانية، ثم إلى السعادة الأبدية، وسعادة النظر إلى الله تعالى ومشاهدته في الدار الآخرة”.

3- دليل على وجود الله: يرى “كولن” أن الوجدان له أهمية كبيرة، فبالوجدان يجد الإنسان ذاته وربه. وأشار “كولن” أن مئات من عظماء الإسلام أشادوا بأهمية الوجدان كالإمام الرباني، والغزالي، والرومي، والنورسي.. إضافة إلى كثير من المفكرين الغربيين تناولوا الوجدان إما بالكشف أو الحدس؛ فالأولياء يعلمون خصائص الوجدان كشفًا، أما الفلاسفة فحدسًا، وقد اتفق الفريقان على أن الوجدان لا يكذب. وقد استخدمه بديع الزمان” سعيد النورسي” دليلاً على وجود الله تعالى، غير أنه لا يراه دليلاً موضوعيًّا واضحًا بالقدْر الذي يفهمه الجميع؛ لذا اقتصر على براهين ثلاثة في إثبات وجود الله فيما بعد، وهي الرسول، والقرآن، وكتاب الكون. ومع إقرار “كولن” أيضًا بأنه ليس دليلاً موضوعيًّا، إلا أنه يرى أنه أقوى دليل عند من يفهم لغته. ففي الوجدان نقطة استناد واستمداد، بهما يدرك الإنسان عجزه وفقره، ويعتمد بهذا الإدراك على الله، ويقول: “إن الوجدان صوت إلهي سماوي يصدع ويجهر وحده دائمًا بالحق والحقيقة، مثله في ذلك مثل كل شواهد وجود الحق التي لا تصمت في أي وقت أبدًا”. وهذا منوط بالوجدان الصافي الذي لم تسيطر عليه النفس، ولم يخضع لها كما يرى “كولن”.

ويذكّر “كولن” بقول “كانط” في “نقد العقل المحض”: “إن الله يعرف بالعقل العملي لا بالعقل النظري”.. ويرى “كولن” أن هذا يعني تطبيق مفهوم الصالحات في الحياة من تصرفات وأعمال خيرة، فمن حرم التطبيق والعمل يعجز قطعًا عن الإحساس بما يجب الإحساس به في ضميره. وهنا يرى “كولن” أن آلية الوجدان واستثمارها قريب جدًّا من تطبيق مفهوم الصالحات في الحياة. وهو هنا يربطنا ثانية بالممارسة السلوكية والتطبيق العملي، سواء بما نحسه في الوجدان أو بما نعلمه من أخلاق، فليست الأخلاق مجرد معلومات أو معارف نظرية.

 

(*) مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر / مصر.

المراجع

(1) الموازين أو أضواء على الطريق، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠٠٦م.

(2) الموشور، محمد فتح الله كولن، ترجمة: عبد الرزاق أحمد محمد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠١٥م.