العلاج بالقراءة في التراث

للقراءة فضيلة علاجية، فإن لم تكن تشفي كل أمراض البدن، فإنها تسكِّن كل أمراض النفس. ومصطلح “العلاج بالقراءة” (الببليوثيرابيا Bibliotherapy) مكون من مقطعين يونانيين، الأول “Biblion” ويعني “كتابًا”، والثاني “Therapeia” ويعني “التدواي أو العلاج”.

البداية كانت في منتصف القرن العشرين عندما جاء العالمان “سميث” و”تويفورت”، ليؤكدا أن القراءة يمكن أن تستخدم علاجًا في حالات المرض العقلي والنفسي، عن طريق مساعدة المريض للحصول على معرفة أفضل عن نفسه وعن ردود أفعاله، ومساعدته أيضًا على تحقيق مستوى أفضل من التكيف لحياته، وعقدوا جلسات للقراءة في مراكزهم العلاجية.

ومن المعروف أن الأمراض تنقسم إلى “عضوية، وروحية، وبدنية نفسية، ونفسية بدنية”؛ العضوية تعالج بالعقاقير، والروحية تعالج بمسبب المرض، والقراءة والبدنية النفسية تعالج بالعقاقير والقراءة معًا، والنفسية البدنية تعالج بالقراءة فقط. فالإنسان يمرض بسبب كلمة أو سلوك مضاد من الآخرين، لذا فإنه يشفى بكلمة أو تعديل السلوك المقصود، ذلك لأن الأصل في الإنسان هو الاعتدال أو التوازن بين النفس والروح، وكل الصفات الإنسانية يحكمها التوسط. فالشجاعة إذا انحرفت نحو اليسار تكون تهورًا، ونحو اليمين فهي جبن. وهناك خمسون مرضًا يمكن علاجها بالقراءة، منها الخوف والقلق، والشعور بالدونية والجشع، والتعصب والاكتئاب، والخروج على القانون، والانطواء والتوحد مع الذات، والكسل والإدمان، والذهان وأمراض الشيخوخة، والوسواس القهري، وأمراض الكلام والصداع… إلخ.

وذكرت إحدى الدراسات الحالية، أن هناك 255 مرضًا نفسيًّا وبدنيًّا يمكن معالجته بالقراءة.

ومن الأمراض التي تعالج بالقراءة حالات القلق، والمشاكل الجنسية، وترميم الشخصية، والفوبيا على أنواعها، وتعاطي المخدرات، والانطواء، والسمنة، والتوتر، إضافة إلى العديد من الأمراض العضوية، التي تسهم القراءة في توعية صاحبها، وجعله مدركًًا لوضعه وأساليب علاجه، والسبل التي تسهم في تحسين حالته. وقد تطور هذا العلم في أميركا بفضل تقدم علوم المكتبات وتفرع تخصصاتها، وتمفصلها مع تطور مشابه في ميادين التحليل النفسي.

العلاج بالقراءة في التراث العربي

لحكمة ربانية كانت أول كلمة نزلت إلينا من السماء هي “اقرأ”، أي إن فريضة القراءة سبقت فريضة الصلاة والزكاة والصوم.

ونحن على إيمان ويقين بأن قراءة الإنسان للقرآن الكريم والأدعية الشريفة، من شأنها أن تعمل على تطهير نفسه من الأدران والشوائب وتجعلها طاهرة شفافة. يقول تعالى في كتابه الكريم: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء:82)، وتفسير الآية الكريمة كما جاء في بعض كتب التفسير: “ننزل إليك أمرًا يشفي أمراض القلوب ويزيلها ويعيد إليها حالة الصحة والاستقامة، فتتمتع من نعمة السعادة والكرامة”. والأصل والقاعدة في الكتاب، أن يكون مصدر نور وهداية لقارئه: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2).

وفي السنة المطهرة طالعنا ووعينا كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم الراقية، التي يقول فيها: “اقرأ وارْقَ” (رواه الترمذي)؛ والرقي الذي عناه الرسول الكريم، يتجاوز مسألة الرقي بمستوى الإنسان الذي يشكو من مرض معين يرتبط بأمور النفس مثلاً، بل هو رقي بالإنسانية في مختلف المجالات، وذلك فيما يرتبط بأمور الدنيا والآخرة.

وتوارث المسلمون ذلك الشفاء، وأضافوا إليه حتى رأينا العصر العباسي يذخر ويفخر بالكتب والمكتبات والكتاب والوراقين.. يلجؤون للكتب للقراءة ويتسلون عن مصائبهم، حتى رأينا المنصور يطلب من يسليه بالشعر؛ فقد ذكر في كتاب قصص العرب: لما مات جعفر بن أبي جعفر المنصور، مشى أبوه في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش، ومضى الناس أجمعون معه حتى دفنه، ثم انصرف إلى قصره، وأقبل على الربيع فقال يا ربيع انظر من أهلي ينشدني: “أمن المنون وريبها نتوجع”، حتى أتسلى بها عن مصيبتي.

والقصيدة من أشهر قصائد رثاء الولد في الشعر العربي، وهي لأبي ذؤيب الهذلي يرثي فيها أولاده السبعة، وقد ماتوا جميعًا إلا واحدًا، وفيها يقول:

أَمِــن المَــنون ورَيـبــها تَتوجَّع والدهرَ ليس بمُعْتِب من يجزع
أودَى بَنِيَّ وأَعقَبــونــي غُـصَّــةً بعـــدَ الـــرُّقادِ وعَبـــرةً لا تُقــلِــــع
سبقوا هوَيَّ وأعنقوا لهواهم فَتُخُـــرِّمــوا ولكل جنبٍ مصـرَع
فبقيت بعدهم بعيش ناصب وأخـــالُ أنـــي لاحـــقٌ مُــستَـتــبع
وإذا المنيَّة أنشبـتْ أظافــرَها ألفَيـــتَ كلَّ تـمــيــمــةٍ لا تـنــفـــع

قال الربيع: فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور، فسألتهم عنها فلم يكن فيهم أحد يحفظها، فرجعت فأخبرته فقال: والله لمصيبتي بأهل بيتي ألّا يكون فيهم أحد يحفظ، هذا أعظم وأشد من مصيبتي بابني.

وفي هذا العصر-أيام المنصور أيضًا- كان يتم تقديم خدمة أخرى إلى جانب الخدمات الصحية العلاجية بالبيمارستان، تمثلت في قيام أحد الشيوخ بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم. ويكفي للعرب فخرًا، أن أول مستشفى عقلي في العالم قد شيدت في بغداد بالعراق عام 705هـ.

لذا فإن هناك نظامًا علاجيًّا عربيًّا إسلاميًّا سابقًا للعلاج الغربي بالقراءة، ولكن بكلمات القرآن وآياته لما تحتويه على الحث على القوة والصبر والمثابرة، والرضا بالقضاء وانتظار الفرج، وما تحمله الآيات من أحكام وسطية في الصفات البشرية تجاه الحزن والغضب والبخل والنفاق ومقاومة الظلم والفساد وإحقاق الحق والخير والفضيلة.

ومن المفيد ذكره، أن لهذا النظام العلاجي تجارب أجريت على أشخاص أمريكيين وإنجليز لا يعرفون الدين الإسلامي أو اللغة العربية، عن طريق القرآن الكريم، وسجلت شفاء من الأمراض مثل الصداع والضغط والسكر. كما تأتي قراءة السِّيَر والتراجم في الصف الثاني من درجات هذا العلاج وتفيد في حالات التأسي والاقتداء والمقارنة والصبر.

العلاج بالشعر عند العرب

لقد عرف العرب القدماء العلاج بالقراءة (إلقاء الشعر وإنشاده)، وجعلوا منه ترويحًا للنفوس الكليلة العليلة. فتراثنا الشعري لم يكن بعيدًا عن فكرة العلاج بالشعر، وإنما كان شعراؤنا منذ “امرئ القيس” على وعي بما يحدثه الشعر الحزين من أثر مريح في نفس المتلقي. فامرؤ القيس الذي يشار إليه دائمًا بأنه أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى، وأيضًا أول من أشار إلى فكرة الشفاء عن طريق البكاء أو الشفاء بالدموع. هذا الشفاء هو عينة التطهر وما يحدثه من راحة في النفس وهي تواجه موقفًا تراجيديًّا مأساويًّا حين تقف على الأطلال، وتتذكر الأحباء الراحلين، والأيام التي انقضت برحيلهم، والأماكن التي كادت تزول هيئتها وصورتها بزوالهم.. والشعر الذي ارتبط بهذا المخزون من الذكريات استعادته تدفع بالدموع الحارة إلى العيون، وإنشاده وترديده هما بداية الإحساس بالتطهر والشعور بما يعقبه من راحة. يقول امرؤ القيس:

وإن شفائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول؟

فالإشارة الصريحة إلى الشفاء وإلى الدموع التي جاشت بالتذكر والحنين ولوعة الفقد وترديد الأشعار المرتبطة بالمكان والزمان والمحبوب، كل ذلك من شأنه أن يضع أيدينا على بداية مبكرة لفكرة العلاج بالشعر، التي ستصبح أكثر نضجًا واكتمالاً عند شعراء آخرين ساروا على هذا المنوال، إلى أن يصل المعنى صريحًا على لسان قس بن الملوح في بيت قاطع الدلالة يقول فيه:

فما أُشرف الأَيفاعَ إلا صبابةً ولا أُنشدُ الأشعارَ إلا تَداوِيا

وبيت قيس هذا، هو أول إشارة صريحة إلى فكرة العلاج أو التداوي بالشعر، ففي إنشاده أشعارَه يكون شفاؤه مما هو فيه من وجد وأشواق وصبابات.

هكذا أصبحت الفكرة أكثر وضوحًا بهذا البيت العجيب الذي قاله الشاعر المجنون، وهو يدفع هوى ليلى وليل الهوى؛ وكأنه يلخص حكمة الجنون كلها بتحديده العقلاني لجنون الشعر بالمزيد منه، وكأنه يحاول أن يدفع مظنة السمو بالإصرار عليها، فهو لا يشرف الأيفاع، ولا يصعد الذرى إلاّ صبابة، أو ربما دفعًا لتبعات تلك الصبابة في روحه وجسده وما بينهما. وهو لا ينشد الأشعار إلا تداويًا، فليس الشعر إلا دواء جاهز يتناوله مَن بحاجة إليه لحظة يريد.. ومع ذلك فهو دواء يضطر معه المتداوي للممارسة المستمرة، وبين التداوي والدواء ما بين الشعر واللاشعر. وما المجنون إلا شاعر ذهب نحو المدى الأقصى في بحثه عن سر الشعر الخبيء، وسر الصبابة الموحش، وسر الجنون الذي يذهب بالعقل لكنه لا يذهب بالروح.

ولقد أعطي شعر قيس وغيره من الشعراء العذريين لفكرة التطهر بالشعر ومن ثم العلاج به، أبعادًا وأعماقًا جديدة.. فالعاطفة العذرية تستند إلى مقومَين رئيسيَين أولهما تقاليد الفروسية العربية الأصيلة -موروث العصر الجاهلي- التي تحرص على الشرف والعرض وصون المرأة، وثانيهما العاطفة الدينية القوية التي جاء بها الإسلام وتملكت مشاعر الشعراء العذريين الذين ارتبطت عواطفهم بالنقاء والطهر، وتجنب اللقاء والوصال، وعدم ذكر الأوصاف الخارجية للمرأة المحبوبة، والتوحد في الحب، وامتلأ شعرهم بمعاني الرضا بالقضاء والقدر، باعتباره المتحكم في القلوب يصرفها كيف يشاء، يقول قيس:

قضى الله بالمعروف منها لغيرنا وبالشوق مني والغرام قضى ليا

ويقول:

قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلي ابتلانيا

بذلك أصبح التطهير، أو التطهر الذي يحدثه الشعر شاملاً وجامعًا، وتصل نفس الشاعر المحب إلى درجة عالية من العفة والشفافية والترقي في مدارج النقاء، مما هيأ هذا الحب العذري إلى الانتقال ليصبح من شواغل الشعراء الفرس، الذين أضفوا عليه مسحة صوفية، فأصبحت ليلى في أشعارهم رمزًا للحقيقة المطلقة، وقيس رمزًا لمن يبحث عن هذه الحقيقة، ويصعد في معراج المعرفة درجات هي درجات الصوفي في مقاماته وأحواله.

وقد اتخذ العلاج بالقراءة عند العرب أنماطًا أخرى غير الشعر، كالكتابة الساخرة والفكاهة التي تعالج الاكتئاب، ومن أشهر من قاموا بذلك الجاحظ في البخلاء، والأصفهاني في الأغاني، وبشار وأشعاره، وأبو نواس وأخباره.. والذي أنشدنا قوله:

إني أنا الرجل الحكيم بطبعه ويزيد في علمي حكاية من حكى
أتبع الظرفاء أكتب عنهم كيما أحدث من أحب فيضحكا

وما روي عن الشاعر ابن الرومي الذي اشتهر بكثرة تطيره وتشاؤمه، وأتى علاجه على يد شاعر يدعى برذعة الموسوس، وذلك حين كتب إليه الشاعر على ابن الرومي أبياتًا قال فيها:

ولما رأيت الدهر يؤذن صــرفـــــه بتفـــريــق مــا بيــني وبين الحـبائــب
رجعت إلى نفسي فوطنتها على ركوب جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها فــأيــامـــه مـــحــفـــوفـــة بالمـــصائـــب
فخذ خلسة من كل يـوم تعـــيشــه وكن حذرًا من كامنات العــواقــب
ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح تـــطـــيـــر جـــار أو تــفاؤل صاحـــب

فقال ابن الرومي بعد أن قرأها: “والله ما تطيرت بعد هذا”.

وليس صدفة كثرة ما ورد في تراثنا العربي (الشعر، والنثر، والقصص، والحكايات، والأمثال) من ظرف وطرفة وفكاهة، وما شابه ذلك من الدعابة والمزح. وإذا صح أن الفكاهة تصلح أن تكون عنوانًا طيبة الخلق ولطفه ورقة المزاج ورهافته، فإن الأدب العربي في المكان الأعلى من حيث انسجامه وحلاوته وجاذبيته، لكثرة ما يعرب عن هذه الطيبة في النفوس، ورقة المزاج، ورهافة الحس، وما لهم من تأثير في نفس المتلقي، إذ إن الظرف والطرافة والفكاهة هي ضد ما هو تراجيدي، بحيث يصبح ما يحدثونه من أثر في نفس القارئ بمثابة حيلة بيولوجية يتحايل بها القارئ على انفعالاته أو يشارك بها الغير في وجدان ما، أو يستعلي على موقف ما بضحكة يطلقها قد تحجب وراءها دمعة.

والشعر العربي قديمه وحديثه، مليء بالنماذج التي تصلح للعلاج بالشعر، لو أحسن استخدامها أطباؤنا الذين يعملون في حقل العلاج النفسي والعقلي، خاصة مَن حظي منهم بموهبة الإبداع الأدبي والشعري، واستطاع أن يسيطر على مفاتيح النص الشعري وسبر أغواره وأعماقه.

(*) باحث في التراث العربي والإسلامي / مصر.