العقيدة الإيمانية ويقظة الوعي بالذات

ثنائية العلم والإيمان من الأسس الهامة التي يمكن أن تعتمد في صياغة العقيدة الإيمانية، صياغة تتماشى مع معطيات العصر الحديث، على اعتبار أن المسلم صاحب عقيدة صالحة لكل زمان ومكان. وهي من الواجبات الهامة على كل المسلمين، وعلى طلبة العلم أوجب من الناحية النظرية والتطبيقية؛ فهي أول مواد التدريس التي تهتم بها المدارس والمعاهد والجامعات بعد تعليم القرآن الكريم. وقد أمر الشرع الحنيف بتعليم وتنشئة المسلمين على العقيدة الصحيحة، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6).

والعقيدة الإيمانية لها دور كبير في حياة الإنسان لتحقيق سعادته المنشودة، خاصة في تطوير طريقة تفكيره ومنهجية فهم حقائق الأشياء ومآلاتها ومقاصدها. ومن أهمها مسألة الوعي بالذات، وكيفية يقظته بعد الغفلة التي يصاب بها الإنسان أحيانًا، فتبعده عن الحق وعن التفكير السليم.

أهمية العقيدة الإيمانية

نقصد بالعقيدة الإيمانية، العقيدة التي تقوي أصول الإيمان التي أشار إليها القرآن والسنة، وتوقظ الفطرة من سباتها وتقوي الوعي بالذات. وهي ليست تلك العقيدة التي أبعدت الناس عن الإيمان بسبب تلك المصطلحات الفلسفية والكلامية، لأننا عندما نستقرئ مضمون دروس العقيدة الإسلامية في كلياتنا وجامعاتنا ومعاهدنا، نجد حالة من الركود والانحراف عن المنهج الذي رسمه القرآن والسنة النبوية في تقديم دروس الإيمان للناس، ذلك أن موضوع الدرس العقدي اليوم تكتنفه صعوبة في الطرح، وغموض في محتوى المنهاج الذي يتضمن في الأغلب مصطلحات كلامية وفلسفية مجردة من الأفكار الإيمانية القلبية، التي يتفاعل معها الوجدان والعقل والنفس، وتنعكس على السلوك فتثمر لنا شخصية متميزة تحقق مراد الله تعالى في عباده.

ونحن نعلم أن العقيدة الإسلامية لها دور عظيم وجليل في صياغة الإنسان الحضاري عبر التاريخ الإسلامي، وحين انحرفت عن المنهج الذي رسمه الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت الدعوة إلى التجديد وإعادة الصياغة من جديد، بما يخدم أهداف العقيدة الإيمانية، ومقاصد القرآن الكريم والسنة النبوية. وقد أجمل لنا محمد الغزالي الدواعي للتجديد حين ذكر سبب تأليفه لكتاب “عقيدة المسلم”، نذكر منها بعض المقتطفات باختصار: “بين المسلمين اليوم نزاع يفصم وحدتهم حول ما دار بين علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة في مسائل الخلافة.. لماذا نقحم هذه الأمور إقحامًا في شؤون العقيدة؟ ولماذا لا تبقى في نطاق الذكريات التاريخية نأخذ منها العبرة؟ وما صلة ذلك بالإيمان بالله واليوم الآخر؟ وقد بذلت جهدي -حين تصديت لتصوير عقيدة المسلم- أن أتجنب أشواك هذا الخلاف.. وإذا كان علم التوحيد (العقيدة) على النحو الذي وصفنا، فإن كتبه التي تشيع بيننا الآن، فشلت في أداء رسالتها شكلاً ومضمونًا. فمن ناحية الشكل لا معنى ألبتة لعرض علم ما في توزيع مضطرب بين متن وشرح وحاشية وتقرير، وفي لغة ركيكة اللفظ سقيمة الأداء.. فهل يبقى الكلام في العقائد حكرًا على هذا النمط من الحواشي والمتون؟ على أننا إذا تغاضينا عن الشكل، وتعرضنا للجوهر بالنقد والتمحيص، لا نلبث أن ندرك أن هذا الجانب الإلهي من الثقافة الإسلامية طغت عليه الفلسفات الغربية التي نقلها السريان عن اليونان وغيرهم.. ويبدو أن الأسلاف الباحثين في هذه الناحية من الإسلام، قد فتنهم الإعجاب بما نقله إليهم التراجمة من ثمرات العقل اليوناني.. ومن العجيب أنك تقرأ في أمهات الكتب الكلامية وتطوي الصفحات الطوال، فلا تكاد تعثر على آية أو حديث”(1).

ويجب أن نفرق بين المنهج الثابت الذي لا يتغير في عرض العقيدة الإسلامية، والمتغير الذي يتماشى وكل عصر ويفرضه الواقع. فالله تعالى تعامل مع الأقوام كل حسب عصره في تأييد رسله بالمعجزات؛ فموسى عليه السلام كانت معجزته العصى لأن قومه قوم سحرة، وعيسى عليه السلام كانت معجزته إحياء الموتى بإذن الله وإبراء المرضى، حيث كان الطب منتشرًا في ذلك الوقت، والجزيرة العربية كانت معروفة بالفصاحة والبلاغة، لذلك كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، وهو معجزة صالحة لأي عصر. وفي جميع هذه الحالات، كانت العقيدة واحدة لا تتبدل، سواء في عصر موسى أو عيسى عليهما السلام، أو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعــــالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)، وهي دعوة جميع الرسل والأنبياء عليهم السلام في أي عصر.

ماذا نعني بيقظة الوعي بالذات؟

اليقظة عكسها الغفلة التي تنسي الإنسان حقيقة وجوده، وتعمل على التبلد والتلبد على مستوى الفطرة، وهي الحالة التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم:30-31).

وكذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه” (متفق عليه).

فحاصل الفطرة في المعنى الشرعي، هي الخِلقة الأصلية التي لم يدخلها تغيير أو تبديل، ولذلك عبر القرآن الكريم عن الخروج عن الفطرة بأنه تبديل لخلق الله، والإنسان الذي هو في غفلة أو في اللاوعي بالذات، فهو خارج الفطرة، والذي لا يحسن التفكير الجيد السليم في إدراك الحقيقة الإيمانية، ويستمد أفكاره من فلسفات البشر، ويترك آيات خالق البشر، فهو خارج الفطرة السليمة.. فهو يحتاج إلى اليقظة للعودة إلى الوعي بالذات، حيث تُزال عنه كل الغيوم الملبدة، وكل الحجب التي كانت تمنعه من الفهم الواعي.

ولذلك نقول إن يقظة الوعي بالذات، تؤدي إلى إدراك حقيقة الوجود، ومهمة الإنسان في هذه الحياة. وقد عبر القرآن عن الفرق بين اليقظة والغفلة، في وقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام:122).

ومثال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ قبل إسلامه كان شديدًا في الكفر والعناد، ولما شرح الله تعالى صدره للإسلام عاد إلى فطرته الأصلية، فأصبح شديدًا في الحق، وأصبح يرى بنور الله تعالى فكان الوحي ينزل موافقًا لرأيه. ومن ثم فإن الفطرة الإنسانية الأصلية، تجعل الإنسان يرى الحق بيّنًا ناصعًا، فيتبعه ويتمسك به، ويرى الباطل بيّنًا شديد السواد فلا يقترب منه.

فالوعي بالذات هو القدرة على فهم الواقع كلما تغير مع التوليد المستمر للمعلومات عنه، وبالتالي نفهم الخفايا والأبعاد ما خلف السطور بفهم واعٍ، ولا نكتفي بالظاهر سواء في النص أو في واقعة. فالوعي بالذات يجعلنا نزكي أنفسنا ونطورها باستمرار عن طريق التفكير الذاتي والفحص الذاتي، من أجل فهم أعمق لعالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء، ويمنحنا الثقة بالنفس من أجل التواصل مع الآخرين بإيجابية، ونفهم الأشياء من وجهات نظر مختلفة ومتعددة، ويساعد على تنظيم الوقت والحياة.

علاقة العقيدة بالوعي بالذات

هناك علاقة وطيدة بين الوعي بالذات وعقيدة الإنسان، وهي علاقة طردية، كلما كانت العقيدة صحيحة وسليمة كان مستوى الوعي بالذات في أعلى مراتبه، على اعتبار أن الوعي بالذات هو عبارة عن وحدة عمليات الشعور بالراحة النفسية والمعرفة الذاتية. فهو تحديد للعلاقات الثلاث، علاقة النفس بالأنا وبالخالق وبالآخرين. والعلاقة هي تحديد لنتائج الحوار الفكري بالمنطقي بين العقل والأنا، لتحديد المنهج المعرفي الذي يحقق السعادة المنشودة، وبالتالي سينتج لنا هذا الوعي بالذات نتائج وابتكارات إبداعية تؤسس لبناء حضارة الإنسان. ومن أهم العوامل المؤثرة في تكوين التقدير الذاتي هو عامل اليقظة والثقة بالنفس.

وكما نعلم أن العقيدة الإيمانية الإسلامية تستمد قدسيتها من القرآن الكريم والسنة النبوية، وبهذا تعتبر منهجًا فاعلاً ومؤثرًا في تفكير الإنسان، وتحديد وجهته السلوكية والفكرية على مستوى الوعي بالذات. وبالتالي فإن التسليم التام لهذه العقيدة الإيمانية، هو الملجأ الوحيد ليقظة الوعي بالذات، لأن هذه العقيدة ليست مجردة، فهي تحمل خصائص فاعلة ومؤثرة وعملية، ولها مفهوم إيماني عملي، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) (يونس:9)؛ والهداية هنا هي عين الوعي بالذات، الذي ندرك به الحقائق المبثوثة في هذا الكون الفسيح، وما فيه من مخلوقات عجيبة تنطق بالوحدانية لله تعالى. وفي هذا المعنى يقول محمد الغزالي: “عظمة الإيمان تعتمد ابتداء على فقه في آيات الكون يقف المرء على أسرار الإبداع الأعلى، ويشعره بما يستحقه الخالق الكبير من مجد وحمد، عظــمة الإنسان تقـــوم عــــلى نشاط عقلي لا حدود له، يواكبه نشاط روحي لا يقل عنه كفاءة، بل يربو عليه”(2).

وهذا المنهج المستمد من القرآن الكريم، اعترف به علماء الغرب أنفسهم؛ يذكر موريس بوكاي في كتابه “القرآن والإنجيل والتوراة والعلم” -من صفحات المقدمة وحتى الأسطر الأخيرة من الكتاب- إلى تأكيد مسلمة جوهرية قوامها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم الحديث، ويقول: “إن القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية.. وأنه لا يتناقض موضوع ما من مواضع القرآن العلمية مع وجهة النظر العلمية.. وأنه مبادئ القرآن الصريحة تأمر دائمًا بالرجوع إلى العلم والعقل اللذين يسمحان بنفي صحتها على ضوء حقائق القرآن (٣).

لأن الواقع هو أن المسلم يعيش في حالة تلبد الفطرة وتبلدها، بسبب ما قامت به الدوائر الغربية من تخريب للعقول المسلمة واستهداف لمراكز القوة فيه، وهي تعطيل فاعلية العقيدة الإيمانية، مما سبب حالة من الغفلة وخللاً خطيرًا في طريقة التفكير.

أهمية يقظة الوعي بالذات

من أخطر أنواع الجهل والتخلف، هو أن يجهل الإنسان نفسه ومصيره وحقيقة وجوده.. وفهم الذات الإنسانية لا يمكن إدراكه من خلال معارفنا العقلية وتجاربنا العملية، إنما الحقيقة ندركها من مصدرها الأصلي، وهو الوحي الإلهي الذي يخبرنا عن بعض تفاصيلها، فيقول تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس:٧-10).

فيقظة الوعي بالذات، هو معرفة الدور الذي يجب أن يعلمه الإنسان من خلال مكوناته الروحية والنفسية والعقلية، وبعبارة أبسط، الوعي الذاتي هو معرفتك لحالاتك الداخلية، ومعتقداتك ونقاط قوتك ومواهبك وتفضيلاتك ومصادرك التي تعتمد عليها، وحدسك. من أجل تحديد الوجهة الصحيحة، فإذا عرفت بالضبط ذلك، سيكون من الأسهل التعامل مع المواقف غير المتوقعة. والأهم من ذلك، إذا عرفت كيف يتفاعل اللاوعي مع أحداث معينة، فيمكنك محاولة تحسين الطريقة التي تتفاعل بها مع هذه الأحداث.. وهي القدرة على معرفة وتكوين المعايير انطلاقًا من العقيدة التي يؤمن بها، والمبادئ الأخلاقية التي يستمدها من الدين، والتي تساير قيم المجتمع الذي ينتمي إليه.. فإدراك الوعي بالذات، يجعل الإنسان يضبط طريقة تفكيره، وتتبين له خطورة حالة اللاوعي.

ويمكن تلخيص أهمية يقظة الوعي بالذات فيما يلي:

  • معرفة حقيقة وجود الإنسان، وما يجب عليه نحو نفسه وخالقه والناس أجمعين. فاليقظة تجعله يصل إلى المعرفة التي توصله إلى الحقيقة، ماثلة أمامه من خلال العناية الإلهية المبثوثة في نعم الله تعالى اللامتناهية.
  • تقوية الشخصية باتخاذ القرار الصائب والرؤية البعيدة في كيفية التفكير والحكم على الأشياء وحسن التصرف.
  • معرفة مجالات النفس وأهوائها؛ ومن اليقظة بالوعي بالذات، يدرك الإنسان أهداف النفس الأمارة، التي تقف حجابًا بينه وبين الله.. وهذه المعرفة تحرك الإنسان.
  • يصبح الإنسان أكثر انضباطًا ورضًا عن نفسه وعن وجوده في مجتمعه وعن وظيفته.
  • تحسين العلاقات مع الآخرين، والحصول على مستويات أعلى من السعادة، تؤدي إلى المزيد من الابداع والابتكار والتواصل.
  • تمنحنا القوة للتأثير على النتائج، وتساعدنا في أن نصبح صناع قرار أفضل.

لقد أثبتت كثير من الدراسات النفسية، أن الأشخاص الذين يملكون وعيًا ذاتيًّا، هم أكثر سعادة ولديهم علاقات أفضل. كما أنهم يتمتعون بإحساس بالسيطرة الذاتية والاجتماعية بالإضافة إلى زيادة الرضا والسعادة، والسبب في كل ذلك لأنهم يملكون عقيدة إيمانية تستجيب للفطرة الإنسانية السليمة وتتجاوب معها. وأما الذين يعتمدون على نظريات مادية واهية، لا يمكنهم إدراك الحقائق بشكل واضح، مما يجعلهم في صراع مع أنفسهم.. حيث أثبتت الدراسات النفسية أن أكثر من 95% من البشر، يهربون من الجلوس مع أنفسهم، وقد يسبب هذا أمراضًا نفسية، لأنهم يشعرون بتأنيب الضمير، والخوف من واقعهم.. وهم بهذا السلوك يورطون أنفسهم في مأزق يغزو حياتهم المستقبلية. والواجب أن يحاور الإنسان ذاته ويصحح أخطاءها ويتقبل نصيحة الأخرين، ويعالج مشاكلها دون أية عقدة.

 

(*) أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي، جامعة الأغواط / الجزائر.

الهوامش

(1) عقيدة المسلم، محمد الغزالي، دار نهضة مصر، ط:٤، ص:٦-٨.

(٢) ركائز الإيمان بين العقل والقلب، محمد الغزالي، ص:٢٣.

(٣) القرآن والإنجيل والتوراة والعلم، موريس بوكاي، مكتبة مدبولي، القاهرة ٢٠٠٤، ط:٢، ص:١٦.