في عام 1960م كانت البشرية على موعد مع العلم، حيث نجح العالم “ثيودور مايمان” (Theodore Maiman) في توليد شعاع ضوئي قوي نفاذ من ياقوتة حمراء في حجم الإصبع الصغير، تغطي الفضة طرفي الياقوتة التي يسقط عليها ضوء غامر من مصباح أنبوبي زجاجي يحيط بها. وعندما سقط ضوء المصباح على الياقوتة أهاج ذراتها، فانبعث منها وميض انتشر إلى طرفيها ليصطدم بالفضة هناك فعكسته كالمرآة، فتردد ذهابًا وإيابًا، فزادت قوته وتركيزه، وتغيرت صفاته حتى انبعث من طرف الياقوتة شعاعًا جديدًا في العلم، اسمه مشتق من جملة باللغة الإنجليزية معناها “تكبير الضوء عن طريق قذف منشط للإشعاع”، حيث بدأ عصر جديد من عصور العلم أطلق عليه “عصر الليزر”، ذلك الشعاع الضوئي القوي ذو الطاقة العالية، الذي يستطيع أن ينفذ في الفضاء من الأرض إلى القمر دون أن ينحرف عن مساره كثيرًا، وينعكس على سطح القمر ليعود مرة أخرى إلى سطح الأرض. أحدثت أشعة الليزر ثورة علمية كبيرة، وبدأت الاستخدامات الواسعة لتكنولوجيا الليزر المتطورة في العديد من التطبيقات الطبية والاتصالات والأبحاث العلمية والهندسية والعسكرية، وكأنه مارد عجيب انطلق من قمقمه، ووقف بين يدي العلماء والأطباء قائلاً لهم: “لبيكم أنا طوع أيديكم، ماذا تريدون؟”.
في مجال الطب
أحدثت أشعة الليزر ثورة كبيرة في مجال الطب، لما عرفت به بأنها تقدم نتائج مباشرة في العلاج دون أن يكون لها أية تأثيرات جانبية، كما لا تُحدث تغييرًا في الأنسجة، وتعتبر من أحدث وأنجح أشكال العلاج المتوفرة حاليًّا كونها آمنة وغير سامة وغير مؤلمة. وتلعب أشعة الليزر منذ العقد الماضي، دورًا كبيرًا في مجال من أدق مجالات الطب والعلاج وهو جراحة العيون. فمن المعروف أن مرض السكر يؤثر على شبكية العين وشعيراتها الدموية الدقيقة، فتصبح الشبكية قابلة للنزف والانفصال عن مهدها في قاع العين، وكان العلاج من قبل صعبًا، بل يكاد يكون مستحيلاً، وفي بعض الأحيان كانت العين مهددة بالعمى، فجاء الشعاع الجديد ليحدث ثورة في مجال جراحة العيون عن طريق استخدامه بدقة، وبجرعات محسوبة في مناطق محددة من الشبكية ينطلق صوبها، ويحدث بها نوعًا من الكي يوقف النزيف، ويمنع تشعب الشعيرات الدقيقة غير المرغوب فيها، ويحدث قدرًا من التليُّف المحدود يؤدي إلى تثبيت الشبكية في مكانها فلا تنفصل عنه.
واستُخدم شعاع الليزر في مجال علاج قِصَر النظر، حيث تتجمع الأشعة الضوئية الساقطة على العين في بؤرة أمام الشبكية بعيدًا عنها، مما يؤدي إلى قلة وضوح الرؤية، إلا مع استخدام عدسات خاصة تجمع الأشعة في بؤرة على الشبكية، حيث أمكن استخدام أشعة الليزر من أجل تقليل سمك قرنية العين الشفافة، بواسطة إزالة بعض الأنسجة الزائدة من على سطحها، فتقل قدرة العين على إحداث انكسار في الضوء، حيث تتجمع الأشعة الضوئية عن الشبكية دون الحاجة إلى استخدام نظارة، وبذلك تم استغناء ملايين المرضى عن عدساتهم اللاصقة ونظاراتهم الطبية.
وإذا تركنا مجال طب العيون إلى مجال الجراحة بصفة عامة، فقد تم إعداد مشرط خاص من أشعة الليزر، يتيح للجراح إحداث قطع في الأنسجة دون إحداث نزيف دموي؛ حيث تقوم تلك الأشعة بإحكام إغلاق الأوعية الدموية القابلة للنزف عن طريق الكي في نفس الوقت الذي يتم فيه قطع الأنسجة، أي من أجل إجراء جراحة دون فقد الدم. وفي مجال علاج انسداد الشرايين، أصبح من الممكن إدخال قساطر (أنابيب دقيقة) من فتحة في الجلد إلى داخل الأوردة والشرايين، وبتلك القساطر ألياف زجاجية تحمل الأشعة المكثفة إلى مناطق الانسداد، لإذابة الجلطات الدموية، وتوسيع بعض الشرايين الضيقة المتصلبة من الداخل، فيعود الدم للسريان فيها بصورة طبيعية.
ولا يقتصر استخدام شعاع الليزر في مجال الطب عند هذه الحدود، بل تجرى حاليًّا تجارب على استخدام هذه الأشعة في إزالة الزوائد اللحمية، التي تخلق مع الأطفال سواء في أنوفهم أو حلوقهم، إضافة إلى تطبيقها في مجال إزالة الأورام الدماغية، وفي حالات بعض أنواع العقم، حيث أصبح الليزر يتدخل في حل الكثير من المشكلات، كتضيق الأنابيب التناسلية، وإصلاح التقرحات الرحمية التي تحول دون الإنجاب، كما لعب دورًا كبيرًا في القضاء على سرطان الحنجرة والبلعوم. ويدخل الليزر الآن في جراحات وصل الأوعية الدموية والجلد والتجميل، وشد الوجه وإزالة التجاعيد والوشم. وفي مجال المعالجة السنِّية (طب الأسنان) أصبح الليزر فاعلاً، ومن الوسائل المدهشة لإزالة آلام الأسنان، وعلاج التسخر السني والحشوات السنية وتجفيفها وتثبيتها بسرعة فائقة. ولا تزال الأبحاث العلمية قائمة في كافة الحقول الطبية، من استكشاف مجالات جديدة يمكن الاستفادة فيها من استخدام أشعة الليزر.
في عالم الصناعة
دخل شعاع الليزر عالم الصناعة من أوسع أبوابه؛ فقد استخدم في مجال التصنيع كالقطع واللحم والصهر والتبخير، وفي صنع الدوائر الإلكترونية المتكاملة، وفي الحفر على الزجاج وغيره.. وتستخدم أنواع من أجهزة الليزر تصل حرارتها إلى 1000-1800 درجة مئوية في قطع أنواع الصلب، قد يصل سمك اللوح منها 3 سم، وميزتها أنها تقطع بدقة متناهية، حيث يوجه جهاز الليزر بوساطة الحاسوب. هذا إلى جانب أن أشعة الليزر تستطيع فتح ثقب قطره ميكرو متر خلال 200 ميكرو ثانية في أشد مواد المعمورة صلابة الماس والياقوت الأحمر والتيتانيوم، وبفضل قصر مدة التصنيع لا يحدث أي تغير في طبيعة المادة.
كما دخل الليزر عالم الصناعات الإلكترونية المختلفة، من تقليم وتقصيص دقيق لأبعادها، إما يدويًّا أو آليًّا، وبذلك يعطي حجمًا وقيمة كهربائية دقيقة جدًّا للمقاومة، بالإضافة إلى الحفر في المواد المختلفة لتكوين المتسعات المتناهية الصغر. كما دخل في لحم ووضع العديد من الدوائر الإلكترونية المختلفة، وينظر اليوم إلى أشعة الليزر لتكون بديلًا واسعًا عن استخدام الرادار، عن طريق جهاز يعرف باسم “Lider”، حيث يمكن عن طريقه تصوير الأرض من الجو وإعطاء أدق التفاصيل على خطوط بيانية. وفي مجال الهندسة يعطي الليزر، إما بالنظر المباشر أو بالقراءة الرقمية الدقيقة في التطابقات الهندسية، حيث يحل وبكفاءة عالية محل جهاز “الفيديو لايت” الهندسي المعروف والمستخدم في حفر أنفاق السيارات والقاطرات تحت أو فوق الأرض.
القياسات
لأشعة الليزر استخدام مهم في قياس المسافات بدفة متناهية، سواءً القصيرة أو الطويلة، حيث إن أشعة الليزر تستطيع قياس عشرة أمتار دون إحداث خطأ يتجاوز واحد من عشرة آلاف من المتر. وعن طريق أشعة الليزر أمكن قياس المسافة بين الأرض والقمر بدقة عالية، باستخدام ما يعرف بـ”العاكس التراجعي” الذي وضع على سطح القمر، ووجد أن خطأ القياس كان قليلًا جدًّا بالمقارنة بالطرق التقليدية المتبعة سابقًا، علمًا بأن وضع الليزر يأخذ زمنًا قدره ثانيتين ونصف في ذهابه وإيابه من الأرض إلى القمر، وقد استخدم في ذلك ما يعرف علميًّا بـ”صدى النبضات الليزرية”. وعن طريق القياس بالليزر تم تحديد الأهداف بدقة عالية جدًّا، فعلى سبيل المثال، إذا كان الهدف على مسافة 20 كم ووجهنا شعاع ليزر، فسوف ينحصر مقطع الشعاع في دائرة ضوئية قطرها 7 سم فقط، وإذا أطلقت إلى القمر فسيكون قطر الدائرة 3,2 كم فقط. هذا إلى جانب أن الليزر حساس في القياس، وقد أمكن الاستفادة من هذه الخاصية في التعرف على العيوب السطحية في المواد، مثل الخدوش والكسور والحفر وقياس سماكة وأقطار الأجزاء المختلفة، وخصوصًا في قطع الغيار التي كثيرًا ما يحدث الخطأ في التشخيص العادي لها.
نسخ المعلومات
يستطيع الليزر التعرف على الرسوم المختلفة، سواء كانت كتابات معينة أو رموزًا تجارية أو مصطلحات مخفية، حيث إن شعاعه الدقيق يمكن أن يتحرك حول الرموز ويكشف الحزم المنعكسة منها أو النافذة، بأجهزة خاصة تعطي صورة دقيقة على ماهية هذه المعلومات. وإذا ربطت هذه الأجهزة بالكمبيوتر استطاع آليًّا برمجة عمله لإعطاء الكشف الواضح أو نسخ ونقل المعلومات. ومن الأعمال الأخرى في التسجيل بشعاع الليزر، نقل المعلومات من أجهزة المراصد الفلكية، ونقل وصف خطوط المطابع الورقية والتسجيل التلفزيوني، وقراءة الميكروفيلم والكتابة منه على مواد مختلفة، إما مباشرة أو باستخدام محولات كهروستانيكية. والعمل جار لإيجاد مواد جديدة حساسة لضوء ليزر “الهليوم نيون”. حيث يعطي ضوء الليزر الهليوم نيون، فوائد مهمة في عمليات التسجيل والنسخ، ومنها السرعة العالية جدًّا والتي لا وجود لجهاز ميكانيكي أو إلكتروني حالي يضاهيها. هذ إلى جانب أن التحليل النصي لا يحتوي على ذبذبات تداخلية أو ضوضاء صوتية، وكفاءة الاستعمال عند ربطه بأجهزة الكمبيوتر وأجهزة التنظيم الضوئية والصوتية. كما أمكن الاستفادة منه في التصوير المجسم، فعن طريقه تم إنتاج صور ذات أبعاد ثلاثية على لوح زجاج حساس للتصوير، ويؤدي عمق المنظر إلى أن تبدو الأشياء حقيقية، وتظهر هذه الأنواع من الصور على بعض بطاقات الائتمان لتجنب التزوير.
دراسة التلوث البيئي
كما يستخدم الصدى النبض لليزر في دراسة وقياس التلوث الجوي في المدن الصناعية، التي تكثر بها المداخن المختلفة من بقايا المحروقات النفطية أو الفحم الحجري.. وكذلك عن طريق الليزر يمكن مساعدة الطيارين في الكشف عن الأحوال الجوية، إذا كانت ملائمة وآمنة للإقلاع والهبوط في المطارات. ومن الليزرات الشائعة الاستعمال لهذا الغرض، ليزر خليط الهليوم والنيون، وذلك لبساطة تصنيعه وصغر حجمه، خصوصًا للقدرات الصغيرة مثل 5,. ملي واط.
في المجالات العسكرية
تجرى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، أبحاث هائلة لاستخدام الليزر ذي الطاقة العالية جدًّا، لتدمير الصواريخ المعادية عاليًا في الفضاء قبل وصولها إلى أمريكا.. واستطاع الباحثون تحقيق بعض النجاح على هذا الطريق، ولكن الأبحاث لا زالت مستمرة، أولًا لإتقان هذه التكنولوجيا الجديدة، ثم بناء شبكة عظمى لاكتشاف الصواريخ المعادية حين انطلاقها، ويتبع ذلك توجيه أجهزة الليزر القوي، أو سلاح الليزر على الصاروخ المعادي لتدميره في الفضاء. وتتضمن هذه التكنولوجيا أيضًا، استخدام الأقمار الصناعية وقيامها بدور في هذا النطاق.. وقد رصدت الولايات المتحدة أموالًا باهظة لإحداث تقدم في هذا المشروع.
(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(1) الليزر واستخداماته الحديثة، بحث علمي منشور على شبكة الإنترنت، بتاريخ 11 من عام 2019، من منشورات جامعة القلمون السورية العلمية.
(2) استخدامات الليزر في الطب والعمليات الجراحية، موقع آفاق علمية وتربوية، بتاريخ 3/10/2021.
(٣) فوائد جديدة لاستخدامات الليزر في الطب، جريدة الغد، العدد الصادر بتاريخ 25/11/2011.
(٤) استخدامات الليزر بين الواقع والطموح، د. فرات حمزة كاظم، بحث علمي على الإنترنت، بتاريخ 27/3/2002م.
(٥) عصر الليزر، د. محمد بهائي السكري، مجلة الهلال المصرية، عدد: سبتمبر 1992م.