علاء الدين ابن النفيس

“مطور علم الطب”

يعد الطبيب والعالم ” علاء الدين ابن النفيس”، واحد من شوامخ الحضارة الإسلامية، ونتاج العقل المستنير الذي وجه لنفع الإنسانية، فكان قمة شامخة في مجال الطب، حيث كان له الفضل الكبير في تطوير علم الطب، سواءً بإنجازاته الطبية الرائعة التي لم يسبقه إليها أحد، فقد سبق علماء الغرب إلى اكتشاف الدورة الدموية الرئوية ووصفها وصفًا علميًّا صحيحًا، أو من خلال ما قام به من تصويب لكثير من المفاهيم الطبية الخاطئة التي أوردها أطباء جاؤوا قبله، كما يعد أحد رواد علم وظائف الأعضاء في الإنسان، أو ما يعرف اليوم بعلم الفيزيولوجيا، ودعا إلى دراسة ما يدعى بالتشريح المقارن.

شخصيته العلمية:

ولد علاء الدين بن النفيس، بدمشق في حكم الأيوبيين سنة 607 ه ـ 1210 م، أثناء ولاية العادل سيف الدين لدمشق، توفي عن نحو ثمانين سنة قرابة سنة 687 ه ـ 1288م، وقد كان ابن النفيس صاحب شخصية علمية كبيرة، رفعت من قدره ومكانته بين أمراء دمشق وقادتها، حيث كان أمينًا على ما أورده من معلومات لغيره في مؤلفاته الطبية، فأشار إلى المصادر التي أخذ منها معطيًا كل ذي حق حقه، وظهر لنا ذلك جليًّا في كتابه “شرح تشريح القانون” حيث أشار إلى المصادر التي أخذ منها في دراساته وأبحاثه، كما كان يعلي شأن من سبقه من العلماء والأطباء يحترمهم حتى ولو خالفهم في بعض آرائهم، هذا إلى جانب أنه كان مستقلاً في تفكيره وآرائه لا يتأثر بأحد ولا يأخذ برأي من سبقه إلا على أساس علمي سليم يعتمد على المشاهدة والتجربة في أبحاثه ليتأكد من صحتها، وإلى جانب الطب نبغ ابن النفيس في العديد من العلوم والمعارف الأخرى، فكان واحدًا من قادة الفكر الإسلامي في القرن السابع الهجري، برع في أصول الفقه، وشرح الحديث الشريف، وكان حافظًا للقرآن الكريم، كما برع في الفلسفة والمنطق والحكمة والبيان والخطابة، رد على الفلاسفة اليونانيين فيما قالوه عن الروح وعلى حرارة جسم الإنسان الثابتة، كما حارب الخرافات والسحر والشعوذة في الطب وغيره.

ابن النفيس الطبيب:

تمثل نبوغ ابن النفيس الحقيقي في علم الطب الذي أضاف إليه إضافات كبيرة بعد أن تمكن من مختلف فروعه، حيث برع في بحث دقائق جسم الإنسان، واستطاع معرفة أعضائه من خلال تجاربه الخاصة، ومن دراسته العلمية لمرضاه أثناء معالجتهم أو أثناء إجراء العمليات الجراحية، وكان من نتيجة ذلك أن برع في علم التشريح وأضاف إليه إضافات كبيرة ضمنها كتابه “شرح تشريح القانون” كما وصف ابن النفيس رئة الإنسان وصفًا دقيقًا فقال: “وأما الرئة فهي مؤلفة من أجزاء أولها شعب القصبة وثانيها شعب الشريان الوريدي، والثالث شعب الوريد الشرياني، كما يعد ابن النفيس أول من دعى مرضاه بضرورة الاعتدال في تناول الملح وقدم أدق الأوصاف عن أخطار الملح وتأثيره في ارتفاع ضغط الدم، وأبدع في تشريح الحنجرة وجهاز التنفس والشرايين ووظائفها، كما أبدع في شرح وظيفة الإبصار في العين، إذ قال إن العين آلة للبصر، وليست باصرة، وإلا لرأى الواحد بالعينين اثنين، وإنما تتم منفعة هذه الآلة بروح مدرك يأتي من الدماغ، ولابن النفيس نظريات صائبة في فيزيولوجيا الرؤية، وهو يفرق بين فعل الإبصار والتخيل، وهو يقول إن لكل من هذين الفعلين مركزًا خاصًّا في الدماغ، وفي كلام ابن النفيس عن القرنية يقول إنها مؤلفة من أربع طبقات، وإنها شفافة لا تحتوي على عروق دموية.

تصحيح أخطاء السابقين الطبية:

كان ابن النفيس حر التفكير، لا يأخذ بآراء من سبقوه إلا بعد دراسة وتمحيص وتجربة، وكان من نتيجة ذلك أن وضع يده على العديد من الأخطاء العلمية لمن سبقه من الأطباء لا سيما الطبيب اليوناني الشهير جالينوس، الذي كان ينظر إلى آرائه في الطب نظرة تقديس، وبالتالي تؤخذ دون مناقشة، وقد أورد ابن سينا في كتابه “القانون في الطب” الكثير من أراء جالينوس معتبرًا إياها نظريات هامة لا تقبل الشك فيها، أما ابن النفيس فقد أخضع كل ما اطلع عليه للنقد والبحث، فقبل الصحيح منه، وصحح الخطأ، ومن أهم هذه الآراء التي اعتراض ابن النفيس على صحتها ووضع لها تصويبًا.

خطأ ابن سينا الذي نقل عن جالينوس رأيه القائل: إن القلب مكون من ثلاثة أقسام، قسمين كبيرين أيمن وأيسر وقسم متوسط بينهما، وهو عبارة عن مستودع غذاء يتغذى منه القلب وتتولد فيه الروح، فصوب ابن النفيس هذا الكلام، ووضح أن ذلك غير صحيح، إذ إن القلب يتغذى عن الدم المار فيه عبر الشرايين التي تتوزع فيه بذات الطريقة، التي تتغذى بواسطتها بقية أعضاء الجسم، وبذلك يكون ابن النفيس أول من فطن إلى وجود أوعية دموية داخل عضلة القلب تغذيها.

ومن الأخطاء الطبية الأخرى التي صححها ابن النفيس قول جالينوس: إن للقلب بطينين أحدهما مملوء بالدم وهو الأيمن، والآخر مملوء بالروح وهو الأيسر، ولا منفذ بين هذين البطينين أبدًا، وإلا كان الدم ينفذ إلى الروح ويفسد جوهرها، لكن ابن النفيس بين عدم صحة هذا القول، بلجوئه إلى التشريح، فبين أن أحد البطينين مملوءًا بالدم النقي، والآخر بالدم الفاسد، وكان من سبقه من الأطباء يقول إن الدم يتحرك بسرعة بحركة متساوية، أي إنه يذهب ثم يعود من نفس الطريق، فصحح ابن النفيس هذا الخطأ ووضح أن اتجاه الدم ثابت في جسم الإنسان وأن حركته ليست مدًّا وجزرًا كما كان يظن سابقًا.

مكتشف الدورة الدموية:

لا شك أن أعظم إنجاز طبي لابن النفيس، تمثل في اكتشافه الدورة الدموية الصغرى، حيث كان الاعتقاد الطبي السائد قبل ابن النفيس، أن الدم يدخل إلى البطين الأيسر، عن طريق مسام الحجاب الحاجز، حيث يمتزج بالهواء القادم من الرئتين، وينساب المزيج إلى مختلف أنحاء جسم الإنسان، وقام ابن النفيس بتصحيح هذا الخطأ، حيث بين أن الحجاب الحاجز خال من المسام، ولا يسمح برشح الدم خلاله، وأن الدم يذهب عبر الوريد الشرياني إلى الرئة، حيث يخالط فيها الهواء وتتم تصفيته، ثم يعود عن طريق الشريان الوريدي ليصل إلى البطين الأيسر، أي إن الدم ينساب من البطين الأيمن إلي الرئة، حيث يمتزج بالهواء وينقى، ثم يعود بعدها إلى البطين الأيسر، وهذه هي الدورة الدموية الصغرى التي اكتشفها ابن النفيس، ثم ظهر بعد ذلك من علماء الغرب من يدعى بعد أربعة قرون من ابن النفيس، إن من له الفضل الأول في هذا الاكتشاف، وهو الطبيب البريطاني “وليم هارفي” لكن الحقائق التاريخية، تقول غير ذلك بأن وليم هارفي استقى معلوماته عن الدورة الدموية الصغرى من ابن النفيس.

كيف وصل هذا الاكتشاف إلى هارفي:

والسؤال الذي يطرح نفسه علينا، كيف وصل هذا الاكتشاف إلى وليم هارفي؟ واذا تتبعنا ذلك نجد أنه تم عبر سلسلة متعددة الحلقات بدءًا من أندريا الباجو ( 1450 ـــ 1022) الذي طاف في بلداننا العربية، لمدة ثلاثين عامًا أتقن خلالها اللغة العربية وجمع فيضًا مما أبدعه الأطباء العرب كابن سينا وابن النفيس وغيرهما، كما جمع الكثير من المخطوطات الطبية والعربية منها مؤلفات وشروحات لابن النفيس الذي كان الباجو معجبًا بآرائه كثيرًا ونقل كل ما جمعه إلى إيطاليا، بل وإلى نفس الجامعة، التي عمل فيها أستاذًا للطب وتعلم فيها بعد ذلك وليم هارفي، وهي جامعة “باروا” وقام الباجو بتدريس العلوم الطبية العربية بها، ثم وقعت نسخة من ترجمة الباجو لكتاب “شرح تشريح القانون” لابن النفيس، في يد سرفيتوس الإسباني الذي درس في نفس الجامعة ويدعي بعض الغرب اكتشافه للدورة الدموية، وفي سنة 1540م عيِّن ريالدوا كولومبو أستاذًا للجراحة في جامعة بادوا، فاطلع على ما خلفه الباجو من مخطوطات ودراسات عن العلوم الطبية العربية، حيث كلف بتدريس مادة التشريح في الجامعة، وفي سنة 1559م، نشر دراسته عن وظيفة الصامات القلبية، وهي من دعائم نظرية الدورة الدموية، كما وصف الدورة الرئوية وصفًا صحيحًا، وفي سنة 1597م رحل وليم هارفي إلى إيطاليا حيث درس الطب في جامعة باروا، واستمر في الدراسة، حتى عام 1602م ثم عاد إلى إنجلترا، حيث ألف كتابه “دراسة لحركة القلب والدم” وفيه أدعى اكتشافه للدورة الدموية الصغرى، وإذا تتبعنا هذه السلسلة المتصلة الحلقات بدءًا من أندريا الباجو ومرورًا بسرفيتوس وريالدوا كولومبو وانتهاءً بوليم هارفي الذي تلقن الطب على أيدي الطبقة الثانية أو الثالثة من تلاميذ كل من الباجو وكولومبو، يوضح لنا كيفية انتقال نظرية الدورة الدموية الصغرى من ابن النفيس إلى هارفي.

صاحب هذا الاكتشاف:

وهذا الاكتشاف لم يظهر إلا خلال السنوات الأولى من القرن العشرين على يد الطبيب المصري “محي الدين التطاوي” الذي عثر على مخطوطة من كتاب ابن النفيس “تشريح القانون في الطب” بمكتبة برلين، فعنى بدراستها لنيل درجة الدكتوراه من جامعة “فرايبورج” بألمانيا، وكان موضوع الرسالة “الدورة الدموية تبعًا لابن النفيس” حيث أثبت من خلال اطلاعه على هذا الكتاب “شرح تشريح القانون” أن ابن النفيس هو مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وأنه بعد ترجمة هذا الكتاب إلى اللاتينية سنة 1547م، بست سنوات أصدر مايكل سرفيس الذي ينسب إليه بعض الأوروبيين هذا الاكتشاف، ونقل فيه عن ابن النفيس دون إشارة إليه، وقام بنفس الشيء أستاذ التشريح في جامعة باروا في إيطاليا رينالدو كوكومبو، وبعد ثلاثة وستين عامًا جمع الإنجليزي وليم هارفي، ما قاله سابقوه ونشر في كتابه دراسة لحركة القلب والدم، وقد أيَّد ذلك الاكتشاف مؤرخ العلم الإيطالي “ألدومييلي” في كتابه “العلم عند العرب” الذي ترجم إلى العربية سنة 1962م، ففي سياق سرده لأشهر العلماء العرب وإسهاماتهم حيث يقول “أخيرًا نخص بالذكر علاء الدين ابن النفيس، وقد اكتشفنا حديثًا في كتبه وصوف للدورة الدموية الصغرى، تشبه شبيهًا غريبًا حتى لتشبه كلمة كلمة الوصف الذي ذكره سرفيتوس في القرن الساس عشر، وينبغي أن نستخلص من ذلك أن هذا الطبيب العربي لم يستطع ولم يرد كما قال ذلك صراحة أن يزاول التشريح، حتى استطاع أن يكشف عن هذه الدموية الصغيرة، التي لم يوفق جالينوس في أثباتها وذلك لمجرد إعمال الفكر فيما عرضه العالم اليوناني، أما المستشرق الألماني “مايرهوف” الذي كان من أوائل من اطلع على اكتشاف التطاوي، فقد كتب في أحد بحوثه “إن ما أذهلني هو مشابهة لا بل مماثلة بعض الجمل الأساسية في كلمات سرفيتوس لأقوال ابن النفيس التي ترجمت ترجمة حرفية، وهكذا فمن الحق أن يعزى كشف الدوران الرئيسي إلى ابن النفيس لا إلى ” سرفيتوس أو هارفي “.

أخيرًا: 

إن ابن النفيس هو أول عالم في التاريخ اكتشف الدورة الدموية الصغرى التي سبق في اكتشافها علماء الغرب ومهد الطريق لهارفي كي يكتشف الدورة الدموية الكبرى بعد ذلك من البطين الأيسر إلى الشرايين ومنها إلى الأوردة ثم البطين الأيمن. نذكره لا من أجل استرجاع نبض الماضي لمجرد الاعتزاز بماض جميل، بل نداعب الأمل الجديد الطموح في خروج علماء جدد يعيدون لأمتنا حضارتها الزاهرة التي أشعت بالنور على البشرية جمعاء.

 

المصادر:

(1) في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، دكتور عامر النجار، دار المعارف مصر عام 1978م.

(2) كتاب تاريخ الطب، جان شارل سورينا، ترجمة دكتور، إبراهيم البجلاوي، سلسلة عالم المعرفة.

(3) الطبيب العربي الدمشقي ابن النفيس، أحمد بوبس، مجلة المنهل السعودية، العدد 476، ديسمبر عام 1989م

(4) موقع منظمة المجمع العلمي العربي، سلسلة علماء عرب ومسلمون ابن النفيس، نسخة الكرتونية.