الترجمة العربية بين الماضي والحاضر والمستقبل

تمثل الترجمة قاطرة التقدم التي تقود الأمم إلى الأمام في معاركها ضد التخلف، وتحقيق أهداف التنمية، اتساقًا مع المتغيرات الكثيرة التي جعلت من الكرة الأرضية قرية كونية صغيرة. ولذلك لم يكن غريبًا أن يحتفل العالم باليوم العالمي للترجمة لما لها من أهمية في نقل المعرفة بين الشعوب على مر الحضارات العالمية التي هي سلسلة تتداخل حلقاتها وتترابط إنجازاتها فتأخذ كل حضارة من سالفتها لإكمال مسيرة الإنسان في مهمته الكبرى في الحياة.

ومن خلال السطور الآتية نعرض لنشأة وتطور حركة الترجمة إلى اللغة العربية عبر العصور المختلفة بداية من عصور ما قبل الإسلام حتى العصر الحالي، وأبرز مجالاتها، وأشهر روادها، وكيف أثرت على الثقافة العربية ككل، وأخيرًا آفاق المستقبل ومقترحات النهوض بحركة الترجمة العربية.

نشأة وتطور حركة الترجمة العربية ومجالاتها وروادها:

تاريخيًّا احتك العرب قديمًا بحكم العلاقات التجارية بالفرس والروم والأحباش، وتعاملوا مع السريان والأنباط الذين كانت لغتهم قريبة جدًّا من اللغة العربية. وبعد الفتوحات الإسلامية واحتكاك العرب المسلمين بشعوب وثقافات جديدة نشطت حركة الترجمة، وتطلع العرب إلى التعرف على ثقافات الشعوب الأخرى وعلومها كما تم ترجمة القرآن الكريم إلى لغات الشعوب الجديدة التي اعتنقت الإسلام.

ويرى محمد نافع العشيرى أن تاريخ حركة الترجمة إلى اللغة العربية بدأ كنشاط فردي لبعض أمراء بني أمية في القرن الأول الهجري على يد الخليفة الأموي المعزول خالد بن يزيد بن معاوية (85هـ) الذي أنفق من ماله كثيرًا على ترجمة الكتب اليونانية لعله يجد فيها ما يفيده في الحكم والسلطة.

وفي أيام الحجاج بن يوسف الثقفي تم نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية وهذا يعد أهم عمل ترجمي في ذلك العصر، ويعد العصر العباسي الأول أزهى العصور الإسلامية في الترجمة في عصر الخليفة المأمون، حيث أعقبت تلك الفترة حالة من التراخي الفكري الذي تصاعدت فيه صيحات الصحوة بين حين وآخر، لكنها خنقت وأسكتت بحجة الدين والإيمان.

وكانت اللغة العربية قبل العصر العباسي لغة أدب، فلم تكن لغة للعلم، بل تصدرت لغات أخرى هذه المكانة، وقد نقل المسلمون عن السريانية والفارسية والهندية مباشرة إلى اللغة العربية لمعرفة العرب بلسان هذه الشعوب، كما نقلوا المعرفة اليونانية من السريانية، والتي تنتمي إلى عائلة أسرة اللغات السامية التي تنتمي إليها اللغة العربية والعبرية. كما عرف العرب بعض أسرار الفراعنة عن طريق الأقباط، وكان الاهتمام بالترجمة اهتمامًا فرديًّا في البداية ثم تبنتْه الدولة الإسلامية فيما بعد وشجعته لصالح الدولة والسلطان. ورعت الدولة العباسية حركة الترجمة منذ عصر الخليفة “أبى جعفر المنصور” (158هـ-775م) وقد بدأ التقدم بحركة النقل والترجمة عند إنشاء “خزانة الحكمة” التي عمل بها كبار العلماء أمثال الفضل بن نوخبت الفارسى الثقافة، ويوحنا بن ماسويه، وكان مسيحيًّا سريانيًّا عالمًا يكتب اليونانية.

وقد ازدهرت الترجمة في عصر المأمون والذي كان شغوفًا بالعلم، وعقد المناظرات والمناقشات العلمية، وقد بعث الهدايا إلى ملوك أوروبا لإرسال كتب اليونان وأمر بترجمتها ونشرها بين الناس. وكان يساوم أعداءه ضمن المعاهدات التي يبرمها معهم على اقتناء أو استنساخ كتب العلم. حيث قام بذلك مع ملك الروم وصاحب جزيرة قبرص وقد أثرت هذه الترجمات على الحياة الفكرية في مجتمع الدولة الإسلامية.

ولعل أكثر الكتب التي ترجمت من اليونانية إلى العربية هي كتب الفلسفة والطب، وكانت تسمى كتب الحكمة، ومن أشهر العلماء اليونانيين الذين تُرجم لهم أفلاطون وأرسطوطاليس وجالينوس وأبقراط وديموقريطس وفيثاغورث وأرخميدس، واشتهرت أسر كاملة بالترجمة من اليونانية إلى اللغة العربية، ومنهم آل بختيشوع، وآل حنين وهم من المسيحيين وآل ماسرجويه من اليهود وآل ثابت بن قرة من الصابئة.

وقد شكل حنين بن إسحاق علامة فارقة في الترجمة العربية حيث كانت قبله تتم الترجمة بصورة حرفية، أما هو فقد اعتمد على فهم مضمون الجمل ومن ثم ترجمة معناها المجمل، كما قام بما يطلق عليه اليوم تحقيق النصوص عن طريق مقارنة المخطوطات ومراجعة الترجمات السابقة. وكان حنين يجيد اليونانية والسريانية والفارسية وكان رئيس بيت الحكمة في عصر المأمون وقد نقل (39) من مؤلفات جالينوس إلى العربية. وترجم سبعة من كتب سقراط، وترجم التوراة من اليونانية إلى العربية، ونقل مئة كتاب إلى اللغة السريانية. وترك (270) كتابًا مترجمًا و(15) كتابًا من تأليفه. ومن تلامذته حبش بن الحسن الأعسم الذي ترجم عددًا من كتب جالينوس، وترجم ابنه إسحاق بن حنين إلى اللغة العربية كتب الطب والفيزياء والفلسفة اليونانية إلى العربية وامتازت ترجماته بالدقة والفهم العميق لفكر أرسطو.

وتأثر العرب بالفرس ثقافيًّا وفنيًّا فترجموا في فنون الشعر والقصص والنثر وكان من أشهر المترجمين عبد الله بن المقفع وأحمد بن يحي البلاذري. حيث ترجم ابن المقفع كتاب “التاج” وهو عن سيرة أنوشروان، وكتاب “الأدب الصغير”، و”الأدب الكبير” وكتاب “رسالة الصحابة” وكتاب “خداي نامة” الذي يتحدث عن تاريخ الفرس وكتاب “آيين نامة” الذي يتناول عادات ونظم وشرائع الفرس، وتنسب إلى ابن المقفع ترجمة كتب أرسطو في المنطق.

أما عن اللغة الهندية فقد اهتم العرب بترجمة كتب الحساب والطب والفلك والصيدلة فيما يتعلق بتركيب الأدوية التي كان معظمها يعتمد على النبات. كذلك اهتم الخلفاء العباسيون بالفلك ومعرفة الطالع وأسرار النجوم. ومن أشهر الكتب المترجمة عن الهندية كتاب “السند هند” وهو تحريف لاسم “سادهانتا” أي المعرفة، ومن أشهر الهنود الذين ترجموا إلى العربية بازيكر وقليرقل وسندباد وابن دهن وابن وحشية.

وعندما سطع ابن رشد في الأندلس وتم تداول كتبه، بدأ التغيير في الفكر العالمي من خلال ترجماته لكتب أرسطوطاليس والتي كان لابن رشد فضل كبير في الحفاظ على أفكار أرسطو، وقد عارضت القوى المتشددة في الأندلس فلسفة ابن رشد فكفروه وأحرقوا كتبه، وكان ذلك سببًا في تراجع المنظومة الفكرية للدولة العربية الإسلامية ومن ثم انهيار الدولة. وكان منهج ابن رشد يعتمد على مخرجات الإبداع الإنساني العلمي والفكري، وبناء عليها يتم بناء المنظومة الفكرية للحاضر والمستقبل بما يتوافق وروح العصر الجديد. وقد استفاد علماء الغرب من هذا المنهج الفكري، وبنوا عليه منهجًا جديدًا يتواكب وروح العصر، فتطورت دولهم وتقدمت، ولا زلنا نحاول حتى الآن العودة إلى عصورنا الزاهرة.

وفي نهاية القرن العاشر برز عديد من المترجمين مثل متى بن يونس، وسنان بن ثابت لكن عملية الترجمة دخلت في جمود خلال عصور تدهور الدولة الإسلامية، لتبدأ من جديد مع حركة التعريب والترجمة عن اللغات الأوروبية في عصر النهضة العربية. واهتم المترجمون العرب بالعلوم كالطب والطبيعة وخصوصًا خريجو مدرسة الألسن التي أدارها الطهطاوي، ثم أفراد من سورية ولبنان، وترجم الطهطاوي الدستور الفرنسي، كما تم ترجمت عديد من الأعمال الطبية والتاريخية والفلسفية والجغرافية، وقام تلاميذه مثل أحمد الراشدي وخليفة محمود ومحمد مصطفي البياع بكثير من الجهود في ذلك الميدان.

وقام سليمان البستاني بترجمة الإلياذة لأول مرة إلى العربية، وساهم مراون النقاش في ترجمة الأعمال المسرحية ومنها “مسرحية البخيل لموليير” وقام أنطون الجميل بترجمة كثيرمن فنون الآداب الأوروبية. وقام العقاد بالتعريف بمذاهب الغرب وفلسفاته وعباقرته، في كتبه ومنها كتاب “ساعات بين الكتب”، وقام المنفلوطي بترجمة روائع الأدب الغربي “ماجدولين” و”الشاعر” و”الفضيلة”.

آثار الترجمة العربية على الثقافة واللغة العربية:

لم تكن الترجمة إلى العربية في كثير من محطاتها التاريخية مسألة اعتباطية تهدف إلى نقل المعارف والخبرات والثقافات إلى اللغة العربية، بل كانت في كثير من الأحيان مشروعًا سياسيًّا أو فكريًّا أو ثقافيًّا. فمثلاً يرى كثير من الباحثين أن ابن المقفع كان أكبر مروج وناشر للقيم الفارسية وأيديولوجيا الطاعة في الساحة الثقافية العربية والإسلامية، ليس فقط بسبب كثرة ما ترجم ولخص ونقل، ولكن بسبب صياغته العربية التي اعتبرت مثلاً أعلى في الفصاحة والبلاغة فكانت تؤخذ كنماذج لتعليم الكتابة ومن ثم تتسرب قيمها إلى الثقافة العربية والفكر بهدوء وعلى غفلة من وعي قارئها.

كذلك يرى بعض الباحثين أن ما قام به المأمون من جهد في الترجمة كان ضمن استراتيجية لجأ إليها لمقاومة الأسس المعرفية للمعارضة السياسية التي لجأت إلى الفعل الثقافي بعد تعرضها لنكسات وانكسارات عسكرية في مواجهة الدولة العباسية، فقد هدف من نشر الفكر الأرسطي إلى تحديد مصادر المعرفة في العقل والشرع والاجتهاد، ونفي مصادر العرفان التي نادى بها المتصوفة من دون واسطة بيانية أو عقلية أو حسية، وهذا العرفان كان ضمن الإطار المرجعي للحركات المعارضة للعباسيين.

وقد أثرت حركة الترجمة في العالم العربي حيث ظهرت العديد من الفنون في الأدب كالروايات والقصص وظهور شعر التفعيلة، وأنشئت عدة مؤسسات للاطلاع على الثقافة الغربية كدار الكتب المصرية سنة 1870م، كما أنشئت مصانع الورق والمطابع الأهلية.

ويرى الباحثون أن الترجمة أثرت في اللغة العربية في الجوانب الآتية:

1- إدراج كثير من المفردات الغربية بعد تعريبها في اللغة العربية كأسماء المخترعات والآلات والنظريات.

2- ترجمة كثير من المفردات الأجنبية الدالة على معان خاصة تتصل بمصطلحات العلوم والفلسفة والأدب إلى مفردات عربية كانت تستعمل من قبل في معان عامة، فتجردت هذه المفردات من معانيها العامة القديمة وأصبحت مقصورة على المدلولات الاصطلاحية.

3- التأثر بأساليب اللغات الأجنبية ومناهج تعبيرها وطرق استدلالها في المؤلفات العلمية والقصصية والأدبية وفي الصحف والمجلات.

4- اقتباس الكثير من الصور والتشبيهات في اللغة العربية.

5- وقد أدى كل ذلك إلى ظهور ما أطلق عليه الباحثون اليوم “العربية المعاصرة” وهي عربية مليئة بالمصطلحات المعربة أو الدخيلة وبنى جديدة تخرق أحيانًا قواعد التركيب العربي الفصيح.

الترجمة وآفاق المستقبل:

لقد أدرك العرب اليوم أهمية الترجمة لتنشط عملية ترجمة العلوم والثقافة والأدب في العصر الحديث والمعاصر، وعلى الرغم من المحاولات الجادة من بعض الدول العربية في إنشاء مؤسسات خاصة للترجمة ونقل العلوم والثقافة من أمهات الكتب الأجنبية ومنها كالمركز القومي للترجمة في مصر، ومركز التعريب التابع للألكسو، ومؤسسة محمد بن راشد وغيرها من عشرات المؤسسات بجهود كبرى في الترجمة لكن لا زال أثرها محدودًا قياسًا إلى الترجمة الفردية، فقد ترجم يحيى الخشاب أعظم الكتب عن الفارسية، وترجم زكي نجيب محمود ومحمد عبد الهادي أبو ريدة ومحمد بدران ومحمد محمد عناني عن الإنجليزية، وعادل زعيتر وعبد الرحمن بدوي عن الألمانية والفرنسية.

ولا يزال هناك الكثير من الخطوات أمام الدول العربية لتحقيق النهضة العلمية المنشودة والارتقاء بالثقافة العربية ويمكن أن يكون ذلك من خلال:

1- الاستمرار في دعم المؤسسات العربية والإقليمية المتخصصة في الترجمة والتعريب وزيادة ميزانياتها وتنسيق خطط الترجمة إلى العريبة لتشمل فروع العلوم المختلفة.

2- عقد المؤتمرات وتشجيع حركة البحث العلمي في الترجمة إلى العربية ودعم المترجمين والباحثين في ذلك السياق بصورة فعالة.

3- عقد المسابقات بين المترجمين لترجمة أمهات الكتب في فروع العلم المختلفة، وتوفير المكافآت والحوافز المناسبة إزاء جهودهم واستقطاب الأكفاء منهم للتصدى لترجمة الكتب.

4- التوجه نحو تعريب فروع العلم المختلفة ولغة التدريس في المراحل التعليمية المختلفة وبالأخص المرحلة الجامعية ليتم التدريس باللغة العربية إلى جوار اللغة الأجنبية على الأقل وحتى تعود اللغة العربية لغة العلم وليست مجرد لغة للأدب.

5- التوعية في القنوات الإعلامية المختلفة بأهمية ومكانة اللغة العربية، وأهمية الترجمة إلى العربية كأساس للنهضة العلمية والبحث العلمي، ولا يتم الاكتفاء باستخدام الإنجليزية في التعامل مع الكتب والمراجع الأجنبية.

6- تبني مشروعات تطوير برمجيات وتطبيقات حاسوبية للترجمة العربية المتخصصة في كافة المجالات بدلاًر  من الاعتماد على المعاجم والقواميس بصورتها الورقية التقليدية.

المراجع

عادل سالم العبد الجادر (2018). مسيرة الحركة العربية للنقل والترجمة، عدد (718)، مجلة العربي، ص ص 8-13.

محمد نافع العشيري (2018). تاريخ الترجمة العربية ومشاريعها الكبرى، ع (718)، ص ص 28-32.