نبش أسرار الجيولوجيا الطبية

منذ سنوات سعدت بالمشاركة في قافلة علمية وطبية شاملة، حيث أقمنا عشرة أيام في “الواحات البحرية”. وهي تتبع محافظة الجيزة وتقع على نحو 370 كم إلى الجنوب الغربي من المحافظة. وطفنا بمركز الواحات: (البويطي) ومعظم أطرافها، وقد تم التطرق لفنونها المعمارية التقليدية. وفضلاً عن عبقرية فنون الواحات المعمارية التقليدية لفت انتباه كاتب هذه السطور عند متابعة زملائه من أطباء الأسنان ـ وهم يقومون بتقديم الخدمات الطبية المجانية ـ وجود ترسبات، ليست جيرية كلسية كالمعتاد، بل ترسبات (حديدية) على جذور أسنان كثير من المترددين على عيادات القافلة. كما شوهدت مجاري ينابيع المياه الجوفية، وما أكثرها، وفي قعرها رواسب حمراء. ذلك لأن عنصر “الحديـد” يكثر في هذه الواحات البحرية ـ وبها مناجم لاستخراجه، ثم يتم نقله إلي العاصمة عبر خط سكة حديدية.

ولم يكن كاتب هذه السطور مغردًا منفردًا، ونابشًا لأسرار الجيولوجيا الطبية. ففي عام 1999، ذكر عالِما الجيولوجيا (ديسانايك، وتشاندراجيث) (Dissanayake and Chandrajith) أن هناك نحو ثلاثين مليون من مواطني الصين يعانون من تسمّم الأسنان بالفلور؛ نتيجة زيادة نسبته في مياه الشرب، وبسبب الخصائص الجيوكيميائيّة للمياه الجوفية. وإن لم تكن صادفتك رؤية هذه الترسبات الحديدية على أسنان الناس أو تسممها بالفلور أو رؤية عنصر الحديد عبر ينابيع الماء.. فهل صادفك مصطلح “الجيولوجيا الطبية”؟ من المعلوم أن “الجيولوجيا” (Geology)‏: “علم طبقات الأرض” المُختص بدراسة بنيتها الصلبة، وعناصرها، وصخورها، وتطوراتها عبر الأزمان. لكن ما علاقة “الجيولوجيا” بالطب والصحة، وهل من تأثير ـ مباشر أو غير مباشرـ لها على صحة البشر والحيوان والنبات؟

تعرف “الجيولوجيا الطبية” (Medical geology)‏ بأنها من أحدث العلوم المركبة والمتداخلة الجوانب والتخصصات. وتهتم بدراسة العلاقات بين العوامل الجيولوجية والعناصر الكيميائية، وبين تأثيرها على صحة الكائنات الحية، وهي متمِّمَة للصحة البيئية. ويتم تدريس هذا التخصص في عدد من دول العالم (كولومبيا، وقبرص، وروسيا، أمريكا الشمالية، والبرازيل، وبوليفيا، وإسبانيا، وأستراليا، وبريطانيا، وغانا). وفي عام (2003) تم تشكيل “جمعية الجيولوجيا الطبية الدولية” «IMGA» للتوعية بهذا العلم عبر المؤتمرات والندوات والكتب والمنشورات، وتضم الجمعية أكثر من 1000 عضو من أكثر من سبعين بلدًا.

أسرار الجيولوجيا الطبية: علاقة عريقة

قديمًا.. تم الربط بين الصخور والمعادن وبين صحة البشر، ومنذ أكثر من ألفي عام وصفت نصوص صينية ستة وأربعين معدنًا للأغراض الطبية. وذكر (أبو الطب) “أبقراط” (400 ق.م) أنّ: “الماء يأتي ـ أحيانًاـ من التربة على هيئة ماء حراري مُحتويًا على عناصر كالحديد، والنحاس، والفضة، والذهب، والكبريت، والشب، والقار، ونترات الصوديوم؛ وهو لا يصلح للاستخدام في أي غرض”. ويُذكر أنه مع انتشار مرض تضخّم الغدّة الدرقية في الصين القديمة، واليونان، ومصر، وإمبراطورية الإنكا، ما جعلهم يفكّرون في علاجه باستخدام الطحالب البحرية؛ لغناها باليود. فكانت تلك الحضارات القديمة تعالج الأمراض الناتجة عن نقص بعض العناصر في الغذاء باستخدام المكملات الغذائية الطبيعية.

وذُكر التسمّم بالرصاص في الألواح الطينيّة للإمبراطورية الآشورية الوسطى والحديثة (1550-600 ق.م)، وفي أوراق البردي الطبية للحضارة المصرية القديمة، والنصوص السنسكريتية (نحو أكثر من 3000 سنة). واستخدمه الرومان في الهندسة المعمارية والسباكة وبناء السفن، وكانوا يستهلكون منه كميات هائلة؛ ما أدى لتفشي الأمراض في عصرهم مثل: النقرس، والعقم؛ حتى إنّه يُقال أن أحد أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية هو زيادة استهلاكها للرصاص. ولاحظ الرحالة “ماركو بول (Marco Polo) أثناء زيارته للصين عام 1275م تعرض الأحصنة بداء أدّى لإصابتها بالوهن العضلي والعام، وكان سببه مجهولاً آنذاك، وحديثًا عُرف ارتباط هذا المرض بارتفاع نسب عنصر “السيلينيوم” في بعض المناطق. وفي ثلاثينيّات القرن الفائت، ظهرت أول حالة لمرض “كيشان” في الصين (مرض اعتلال عضلة القلب المميت في بعض الحالات)، ثم في السبعينيّات، اكتُشف ارتباط المرض بقلّة تركيز عنصر “السيلينيوم” في البيئة. كما ظهر الزرنيخ على نطاق واسع في المواد الطبية من الثقافات القديمة.

بينما غالبًا ما يُحضر الكحل (الإثمد) “خير الأكحال، يجلو البصر، ويُنبت الشعر”، من مسحوق “كبريتات الإنتيمون” (أو الرصاص). ويوضع حجر الإثمد على الجمر ليتناثر منه الحصى الناعم. ثم ينقع، لأيام، في خليط من الماء، وورق الحناء (أو البن). ثم يطحن في الهون حتى تتفكك حباته فيتحول لمسحوق، وينخل في قماش ناعم. ويعبأ في المكاحل للاستعمال. فهو يعمل على إطالة الأهداب فتزداد قدرتها على حماية العين من الغبار وغيره، فتزيد الرؤية وضوحًا وجلاء. أما “الكحّال”: فكان مختصًّا في علاج أمراض العيون، ومعرفة تركيب مواد طبها، والعناية بها، وزينتها. وعادة الاكتحال عريقة منتشرة بين العديد من الشعوب والأمم. وقديمًا.. اشتهر الفراعنة باستعمال الكحل، فظهرت عيونهم واسعة كحيلة. وكثيرًا ما كان يدخل فى وصفاتهم الخاصة بالعيون. وحديثًا.. يكثر استعماله عند العرب. وما زال الكثير من النسوة يتكحلن بالكحل التقليدي (لتكحيل الرموش والجفون والحواجب).

العناصر الضرورية لحياة صحية، و”الماء العسر

في أواخر خمسينيّات القرن الماضي.. تم تحديد تسعة عناصر من العناصر النادرة الضروريّة للحياة. وفي السبعينيّات، وصل عددهم إلى أربعة عشر، ثم ازدادوا إلى عشرين عنصرًا في الثمانينيّات. وفي عام 1993 تم تحديدهم بثلاثين عنصرًا أساسًا لصحة الكائنات الحية وبقائها. ومن أشهرهم: الأكسجين، والكربون، والهيدروجين، والكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، والماغنيسيوم، والحديد، واليود.

وتدخل العناصر والمعادن (غازية، فلزية ولا فلزية، سامة أو مشعة) إلي جسم الكائن الحي (بشرًا أم حيوانًا أم نباتًا) بطرق مباشرة أو غير مباشرة عبر الغذاء أو الماء أو الهواء. فتحدث فيه “أثرًا صحيًّا” عند اعتدال معدلها، أو ضارًّا سميًّا عند زيادته. فالجيولوجيا الطبية تهتم بدراسة العناصر المتواجدة طبيعيًّا مثل: أكل ثمار كانت مزروعة في تربة يقلّ أو يزيد فيها عنصر معيّن عن المعدل الصحي الطبيعي. ولقد ظهرت حالات طبية موثقة عن تأثير الفلورايد، والنترات، والزرنيخ، والزئبق، والسيلينيوم، والكادميوم، والديوكسينات، واليود، والنشاط الإشعاعي، وانبعاثات البراكين وعسر المياه إلخ.

ويعرف “الماء العسر” بأنه الذي يحمل محتوى معدني عال (على النقيض من “الماء اليسر “). ويتم قياس ذلك من خلال رصد رواسب الحجر الجيري والطباشير التي تتكون أساسًا من الكالسيوم وكربونات الماغنيسيوم. وقد أظهرت دراسات “علاقة عكسية ضعيفة” بين صلابة المياه وأمراض القلب والشرايين لدى الرجال تصل إلى مستوى 170 ملغ كربونات الكالسيوم/ لتر (الحد الأقصى والأدنى من مستويات الكالسيوم:40-80 جزء في المليون، والمغنيسيوم: 20-30 جزء في المليون) في مياه الشرب. وتعتبر الصلابة الكلية هي مجموع تركيزات الكالسيوم والمغنيسيوم (2-4 مليمول/لتر). وقد أظهرت دراسات أخرى علاقة ضعيفة بين صحة القلب والأوعية الدموية وصلابة المياه. بينما ربطت دراسات بين استخدام هذه المياه مع زيادة الأكزيما في الأطفال.

ومن ضمن أسباب متنوعة ومتداخلة تتسبب في ظاهرة تكوين الحصيات البولية Urinary calculi وبخاصة في ذكور حيوانات المزرعة من المجترات (كالعجول والكباش والتيوس) هو الشرب الدائم من مياه الآبار الارتوازية والمحتوية على نسبة عالية من الكالسيوم. مما يؤدي إلى تركيزه المفرط في دم وبول الحيوانات المصابة. وهذا المرض من الأمراض الخطيرة لما ينتج عنها من حصر وانسداد مجرى البول مما يؤدي لانفجار المثانة البولية. كما لا يمكن ذبح وتناول لحومها بسبب زيادة نسبة الأمونيا السامة (تزيد من فرصة الإصابة بالفشل الكلوي لدى الإنسان). وتتكون الحصوات البولية في هذه الحيوانات (الكلى أو المثانة أو الحالب) من تركيب معدني مثل: أكسالات أو كربونات أو فوسفات الكالسيوم أو سليكا أو من عناصر (ماغنسيوم أمونيوم فوسفات) مجتمعة.

الخارطة الطبية الجيولوجية

تهدف الخارطة الطبية الجيولوجية إلي فهم وتحليل وتأثير عوامل البيئة الطبيعية وعمليات التجوية والتعرية، والزلازل والبراكين، والفيضانات والانهيارات الأرضية، والأنشطة البشرية على التوزيع الجغرافي للمشاكل الصحية. وتحديد تركيز العناصر الثقيلة والسامة في البيئات الجيولوجية المختلفة من الصخور والتربة التي نشأت عليها، ومن المياه الجوفية والنباتات، والجسيمات العالقة في الهواء التي تؤثر على الصحة العامة للإنسان والحيوان والنبات. ورسم خرائط لتوزيعها في البيئات المختلفة. ويشار إلى أنه يوجد نحو مليار شخص- غالبيتهم في الدول النامية- يعانون من اضطرابات نقص اليود؛ بسبب نقصه الشديد في النظام الغذائي. من أمثلة هذه الاضطرابات: تضخّم الدرقية المتوطن، ومتلازمة نقص اليود الخلقي، والتشوّهات الجنينية. وتُعنى الدراسات العلميّة بمحاولات فهم العلاقة بين توزيع اليود في الصخور، والتربة، والماء، والبحار، والغلاف الجوي، وبين ظاهرة أمراض نقص اليود.

وبات من المعلوم أن عنصر الزّرنيخ أحد العناصر السامّة المسرطنة، ويوجد ضمن معادن بعض الصخور (في أكاسيد الحديد، وبعض معادن الكبريتيد). يمكن وصوله إلى المياه الجوفية عبر الأكسدة، ثم ينتقل لجسم الإنسان عن طريق شرب الماء؛ ما يؤدي إلى التسمّم. ورُصدت حالات تسمّم بالزرنيخ في جنوب بنغلاديش، وغرب البنغال، وفيتنام، والصين، وتشيلي، والأرجنتين، والمكسيك. ويتسبب التسمّم في ظهور أعراض جلدية، أبرزها: التصبّغات الجلدية، وفرط التقرّن، وسرطان الجلد، ويمكن ظهور اعتلالات أخرى في الكلى، والأمعاء، والأعصاب، والدم، والقلب، والصدر.

ويعتبر مرض السرطان، بأنواعه المختلفة، من أبرز الأسباب المؤدية للوفاة بعد أمراض القلب. وقد انتشر في عموم بلدان العالم؛ نتيجة لعوامل بيئية متنوعة. فمثلاً: في الدول النامية يصاب ملايين الفقراء بالسرطان؛ بسبب شرب الماء الملوث بالمواد النيتروجينية الناتجة عن فضلات الإنسان، والحيوان، والأسمدة النيتروجينية، التي تؤدي إلى سرطان المريء، والمعدة. وعلى صعيد آخر.. يرتبط انخفاض الإنتاجية من رعاية المواشي في الدول النامية بشكل أساسي بسوء التغذية، لكن هناك عوامل أخرى تساهم في ذلك، مثل: نقص المعادن، وعدم توازنها في الأعلاف. ومن أجل ذلك، تم تقدير المناطق التي تعاني قلة العناصر الزهيدة، ومشاكل التلوث عن طريق رسم خرائط توضح اختلافات التربة، والعلف، والنسيج الحيواني، ومكونات الماء من مكان لآخر. تقوم العديد من الدول النامية بجمع البيانات الجيوكيميائية حول رواسب الأنهار المحلية؛ لاستكشاف المعادن بها، والآن تُستخدم هذه البيانات في الدراسات المعنيّة بصحة الحيوان في الأقاليم الاستوائيّة.

أما مجالات هذا العلم وتطبيقاته فتتضح في: مجال الأسنان (تركيبات أسنان اصطناعية من البورسلين والذهب والفضة والبلاتين، واستخدام البلاتين والذهب في التقويم، وصناعة معجون الأسنان من الفلوريد وغيره. ويستخدم الليزر المستخرج من العقيق في إزالة تسوس الأسنان وتبييضها وعلاج اللثة. أما في مجال طب العظام والجهاز العضلي الحركي (علاج الكسور بجبائر (كبريتات الكالسيوم نصف مائية/ الجبس)، ومسامير البلاتين، واستعمال المياه الكبريتية الساخنة، ومعجون الطين الساخن، وحمامات الرمل الشمسية، والساونا في العلاج الطبيعي. وفي مجال العيون فهناك كحل العيون، وقطرة الزنك، والعدسات الطبية، علاج أمراض العين (انفصال شبكية العين، وتصحيح قصر النظر) بأشعة الليزر المستخرجة من العقيق.

الكهرباء الانضغاطية، وأجهزة (السونار)

الكهرضغطية أو البيزوكهربائية (Piezoelectricity) خاصية لبلورات بعض المواد (مثل بلوارت الكوارتز/ ثاني أكسيد السيليكون، وطرطرات الصوديوم والبوتاسيوم، وتايتنات الباريوم والرصاص إلخ) لتوليد كمون كهربائي استجابة لإجهاد ميكانيكي. وتطبيقات هذه الخاصية في المجال الطبي عبر مضخات الإنسولين، والعلاج بالذبذبات فوق الصوتية. ومن المعلوم أن “نطاق السمع” (Audible range) الواضح للأذن البشرية فهو ما تراوح تردداته ما بين 20 هرتز-20 كيلوهرتز (20,000 ذبذبة/ ثانية). وكانت أجهزة الموجات فوق الصوتية Ultrasound (السونار) من الاستخدامات الأولية للسيراميك الكهروضغطي. حيث يتم الكشف عن الأجسام ويتم تحديد موقعها باستخدام نظام إرسال واستقبال الذبذبات فوق الصوتية. وتتذبذب البلورة الكهروضغطية عن طريق إشارة كهربية تنتج اهتزازات ميكانيكية ذات تردد عالٍ. وعند اصطدام هذه الذبذبات بأي جسم تنعكس ويتم استقبالها عبر مادة كهروضغطية أخرى تعيد بدورها تحويل الإشارة إلى إشارة كهربية مرة أخرى. ويتم تحديد المسافة بين مصدر الذبذبات فوق الصوتية وهذا الجسم عبر حساب الوقت المنقضي منذ إرسال الإشارة واستقبالها.

وتم توظيف الموجات فوق الصوتية لخدمة الأغراض الطبية في بداية الأربعينات على يد دكتور الأعصاب النمساوي (كارل ثيودو). ويعتبر أول طبيب استخدم الموجات فوق الصوتية في التشخيص الطبي وقد واجه في ذلك صعوبات بسبب امتصاص عظام الجمجمة لمعظم طاقة الموجات فوق الصوتية. ومن تطبيقاتها في صناعة السيارات (جهاز توازن العجل، والتحكم اللاسلكي في فتح وغلق السيارة، وأجهزة الاستشعار المسؤولة عن فتح أكياس الهواء). وفي صناعة أجهزة الحاسب الآلي (ناقل البيانات من وإلى القرص الصلب). وفي المجال التجاري (رؤوس ماكينات الطباعة، وجهاز قياس الانفعال الميكانيكي، واللحام فوق الصوتي، وجهاز إنذار الحرائق)، والمشعل الكهربائي الانضغاطي (مسدس الغاز المعروف).