العبقرية هل هي حالة مرضية؟

هناك خيط رفيع يفصل بين العملية الإبداعية والحالة المرضية، هذا الخيط تمثله العبقرية. فالعبقري هو الذي يسعـى بالإبداع إلى اكتشاف نظام جديد يمنح الوحدة والانسجام لكل ما بدا في الطبيعة مختلفًا أو متناقضًا لزمن طويل، والمبدع وهو يمارس إبداعه يعشقه ويتمادى فيه، وقد ينعزل عن المجتمع الذي ربما ينظر إليه كشخص غير طبيعي باعتباره يختلف عن الناس العاديين في الحياة الاجتماعية. وهذا البعد والابتعاد أو هذه الحالة غير المنسجمة والاغترابية بين المبدع والمجتمع، تؤدي إلى معاناة المبدع من نظرة المجتمع إليــه كمضطرب عقليًّا أو مجنون، أو ما يشبه تلك الصفات التي يتم إطلاقها عليه سواء كانت دقيقة أم اعتباطية، الأمر الذي قد ينعكس عليه نفسيًّا بآثار سيئة ربما تصل إلى المرض، لذا يقول سوفيت: “عندما يظهر عبقري في العالم فإنك تستطيع أن تعرفه بهذه العلامة وهي تحالف الأغبياء جميعا ضده”.

لا شك في أن سرّ الإبداع هو بحق واحد من أسرار الإنسان، التي يصعب الإحاطة بها جميعًا، فهو أحد أسرار الدماغ البشري الذي حاول العلماء والفلاسفة والمفكرون والشعراء والباحثون على مر السنين، سبر أغواره أو تفسير الإبداع تفسيرًا مقبولاً منذ أقدم العصور، ولكنهم لم يوفقوا في جهودهم إلا بشكل ضئيل، إلا أن الإبداع هو القدرة على ابتكار حلول جديدة لمشكلة ما، أو أساليب للتعبير الفني.

إن العلماء يبحثون في نظام مظاهر الطبيعة من خلال اكتشاف تشابهات جزئية، لأن النظام لا يكشف عن نفسه بنفسه، فلو أمكن القول بوجود النظام بشكل مطلق فإنه غير موجود عبر النظرة المجردة، وليس هناك من طريق يحدد هذا النظام بمؤشر ما أو بآلة تصوير، لذا يجب أن يستكشف هذا النظام أو بمعنى أعمق “يُـبتدع”.

لم يكن هذا المبدع العبقري وحده الذي اهتم بمرحلة التميز إبداعيًّا في حياة الناس، بل هناك العديد من أمثاله وأنداده -أدباء وعلماء ورجال فكر- تحدثوا بإسهاب في مرحلة الشيخوخة وظروفها المختلفة، ولم يخف أحد من هؤلاء حالته ذاتيًّا ونفسيًّا ووجدانيًّا، غير أن الفرق هو أن النازلة هي بمثابة تبارٍ وتنافس في شرح وتحليل جوهر الواقع المرتبط بهذه المرحلة التي لا مفر من اجتيازها لكل إنسان قدر له أن يتمم رحلته في قطار الحياة.

إن المرض والإبداع نقيضان لا يجتمعان للأسباب التالية:

إن وجود تذبذب انفعالي في حياة المبدع هو صورة مفتعلة من خلال إدارة الفنان نفسه، وقدرته على السيطرة على الانفعالات وضبطها حسبما يريد.

الخيال المتخذ في عملية الإبداع ليس خيالاً مريضًا، وإنما يستخدم عقليًّا من قبل المبدع كعنصر شفاء. وهذا ما أشار إليه الطبيب السويدي “بارسيليوس” عندما قال: “إن الخيال يمكن أن يسبب في القرن السادس عشر الميلادي، المرض للإنسان، كما يمكن أن يشفيه منه”.

وتعتقد كاتبة هذه السطور أنه مهما كانت الاعتقادات والنظرات المجتمعية إلى المبدع، إلا أن هذا المبدع يحتاج إلى وجهات نظر معقولة ومرنة وموضوعية، وإذا كان بعض العباقرة ترافق نبوغهم بحالات نفسية وعقلية غير طبيعية، فإن هذا لا يعني وجود حالة ارتباطية بين الإبداع والاضطراب العقلي، ولا يمكن التعميم في هذه المسألة، ويمكن أن نتفق مع قول الدكتور مصري عبد الحميد حنورة: “إن الأمر المؤكد أن النشاط الإبداعي نشاط معقد ومركب على درجة عالية من الرقي، بما يجعلنا نجزم بأنه لا يتم إلا في ظل كفاءة نفسية نادرة”.

الخيط الرفيع

إن المبدع وهو يمارس إبداعه يعشقه ويتماهى فيه، وربما ينعزل عن المجتمع الذي قد ينظر إليه على أنه شخص غير طبيعي أو مريض عقليًّا أو مجنون.. إنها مسألة شائكة حقًّا ولا تخلو من الفضول المعرفي، كما أنها لا تخلو من حالة استمتاعية تشويقية لكونها مسألة لم يحسم النقاش فيها بعد، وما زالت تثير العديد من الآراء المختلفة والمتعارضة والمتناقضة في آن، لذا فإن مسألة العبقرية والمرض تتبعها في نفس الفضول المعرفي.

لقد قال “دريادان”: “إن أصحاب العبقرية والمجانين شديدو القرب من بعضهم البعض” وإذا كان معنى هذا أن الذين يتمتعون بخيال خصب ونشيط جدًّا أو مضطرب جدًّا، ولديهم أفكار رفيعة جدًّا أو متقلبة جدًّا، يبدون شيئًا من التشابه مع المجانين، وهذا صحيح، ولكن إذا كان المعنى المقصود هو أن الذكاء العظيم يخلق الاستعداد للجنون، فإن هذا خطأ، لأن أعظم العباقرة في العلوم والفنون، وأكبر الشعراء وأنبغ الموهوبين من المصورين، قد احتفظوا بسلامتهم العقلية إلى سنوات متقدمة من العمر، ولقد تحدث الكثير من الأدباء والكتاب عن العبقرية والإبداع في مرحلة الشيخوخة، وما بعد السن الثالث، فأجادت القرائح، وبرعت في وصف هذه المرحلة شعرًا ونثرًا وقصة.

لقد أكدت الأبحاث والدراسات أن هناك أشخاصًا بلغوا سن الشيخوخة، وظلوا يتمتعون إلى آخر لحظة من حياتهم بالإبداع العبقري والعقل السليم والفكر المبدع، والأمثلة على ذلك كثيرة من أجدادنا السابقين الذين كانوا يواجهون سكرات الموت وهم يؤلِّفون روائع الكتب في العلم، والأدب، والفقه، والرياضيات، والطب، وخير الكلام في هذا المقام قول الله عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:140).

وإن كانت العبقرية تقترب أحيانًا من المرض العقلي، فقد راقب “أسكيرول” عددًا لا يحصى من مرضى العقول من كل دروب الحياة، وعرف الموضوع الذي يكتب عنه معرفة دقيقة، ولهذا استطاع أن يرفض التعميم الذي وقع فيه داريدن، وأن يقدم تفسيرًا للحالات التي يتعرض فيها العباقرة للجنون. وشاهد “تشارلز لامب” كذلك عن قرب حالات المرض العقلي، وأقر باستحالة أن ينتج مرضى العقول أو المجانين أعمالاً عظيمة، ففي مقالة عن “الصحة العقلية للعبقري الحقيقي” كتب يقول: “بعيدًا جدًّا عن موقف القائلين بأن الموهبة العظيمة (أو العبقرية بأسلوبنا المعاصر) ملازمة بالضرورة للجنون، فإن معظم الموهوبين على النقيض من ذلك هم دائمًا أعقل الكتاب، ومن المستحيل على العقل أن يتصور أن شكسبير كان مجنونًا”.

إلا أن أهم دراسة في هذه المسألة قامت بها السيدة “أدلة يودا” التي درست 294 من العباقرة من المعترف بهم في محيط البلدان الناطقة بالألمانية منذ عام 1650م، وشملت الشخصيات التي اقترحتها 113 فنانًا، و181 عالمًا ورجل دولة، ووافقت عليهم شخصيات لها مكانتها كل في مجالها، وجمعت معلومات موسعة عن حياتهم وسيرهم الذاتية، ورجعت إلى السجلات الطبية المتاحة للحالات موضع الدراسة ولأقاربهم، مما جعل بحثها عملاً ضخمًا وشديد الدقة، وقد تبين أن 4.8% من الفنانين، و4% من العلماء ورجال الدولة، كانوا يعانون من ذهان وظيفي، كما خرجت “أدلة” بنتائج مهمة تتلخص فيما يلي:

لا توجد علاقة محددة بين القدرة العقلية الفائقة والصحة العقلية أو المرض العقلي.

ليس هناك دليل يدعم الافتراض القائل بأن ظهور القدرة العقلية العالية يتوقف على الشذوذ النفسي.

ثبت أن حالات الذهان والفصام بوجه خاص، ضارة بالقدرة الإبداعية.

ولقد ذهب “جالتون” إلى أن العبقرية شيء بيولوجي نابع من مصادر خارجية عن الشخصية وتجاربها، في حين ذهب “فرويد” إلى أن القوة الأساسية المحركة للعملية الإبداعية كامنة في داخل الفرد، وقد اعتقد أن الجزء الجوهري من إبداعات العباقرة، إنما ترد إليهم على شكل إلهام نتيجة للتفكير اللاشعوري.

وهناك اتجاهان في النظر إلى تلك المسألة الشائكة، أولهما يربط بين ظاهرة الإبداع والمرض العقلي، وأنصار هذا الاتجاه كثر، وعلى رأسهم “لامبروزو” الذي كان يرى أن العبقرية هي مرض نفسي أو عصابي، وكثيرًا ما تكون ذهانًا أي مرضًا عقليًّا. ويرى “كرتشمر” أن العبقرية تسير جنبًا إلى جنب مع المرض العقلي. ويرى “برجلد” أن الكاتب هو إنسان عصابي بطبيعته، ذلك أن الأسوياء من الناس لا يحسون -في نظر “برجلد”- بحاجة قهرية للكتابة. ولعل مسوغات هذا الاتجاه في ربط الإبداع بالمرض العقلي، تتلخص في كون الإنسان المبدع يعاني من الطغيان الانفعالي، مما يؤدي به إلى الاستجابة للمثيرات البسيطة التي لا تثير غالبية الناس، وكذلك الإنسان المبدع يعاني كثيرًا من الانفعال الذي يؤدي به إلى أن يكون ضعيف الضبط لذاته، مما يفسح مجالاً كبيرًا للانحرافات السلوكية.

وكذلك فإن الحلم والخيال هما المادة الأساسية للفن والإبداع، وهما في الوقت ذاته آليات دفاعية هروبية في مواجهة الواقع الذي يكون قاسيًا ومتعبًا، وهذا يشير إلى درجة المتاعب التي يعانيها المبدع من إحساسه بالنقص لغلبة الواقع عليه، وعدم قدرته على مجاراته ومواجهته مثل غالبية الناس مما يمثل مدخلاً مناسبًا للألم النفسي.

أما الاتجاه الثاني أو الآخر، فهو الذي يرفض بشدة احتمال أن يكون الإبداع مرتبطًا بالاضطراب العقلي، باعتبار الإبداع عملية عقلية منظمة، والجنون حالة ضعف واضطراب وتشويش، والجمع بين العنصرين عملية غير ممكنة وغير جائزة.

إذن، الإبداع في معناه يتناقض مع الاضطراب والجنون، إذ الإبداع عملية تنظيم للعالم الداخلي.

(*) باحثة وكاتبة مغربية.

المراجع

(1) العبقرية تاريخ الفكرة، بنيوبي مرى، ترجمة: محمد عبد الواحد محمد، عالم المعرفة، الكويت 1996م.

(2) مأزق الفنان بين سوء التوافق النفسي و متعة الإبداع، محمد أحمد كرم الحاج، الفيصل، مايو 2000م.

(3) الإبداع و المستقبل، د. مصري عبد الحميد حنورة، التقدم العلمي، أبريل 2000 م. العبقرية والجنون، يوسف ميخائيل أسعد، مكتبة غريب ط1، القاهرة.

(4) الموسوعة العربية الميسرة، إشراف محمد شفيق غربال، مصر، 1972م.

(5) مقالة في الإبداع، نيل ماك إلير، ترجمة: عماد الهادي، مجلة الثقافة العالمية، العدد:49، الكويت.

(6) Jacob Bronowski; The Natعز وجلre of Scientific Reasoning; The Norton Reader (New York, London, 1984), p:555.