أرسل الله تعالى رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه الوحي الشريف متمثِّلاً في القرآن الكريم فيه الهدى والنور، والسُّنَّةِ النبويةِ المشرفة التي هي البيان والتفصيل لهذا الكتاب العزيز، فكلاهما وحيٌ من الله سبحانه وتعالى، وهو أصله ومصدره.. وقد قال في كتابه الكريم واصفًا حبيبه ﷺ في بلاغه الأمرين معًا: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، وقال سبحانه: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، فذكر سبحانه وتعالى الأمرين: (الكتاب، وهو القرآن الكريم، والحكمة، وهي السُّنَّة النبوية) وعبر بالنزول عنهما، وفي حديث حسان بن عطية قال: «كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسُّنَّة كما ينزل عليه بالقرآن».
وقال تعالى مخاطبًا أمهات المؤمنين: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾، فوصفها بالتلاوة مع الآيات أولاً، ثم قرنها بها ثانيًا.
فالقرآن الكريم والسنة النبوية صنوان متلازمان، لا ينفكَّان عن بعضهما، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، فبهما معًا بُني الإسلام، ومنهما استُنبطت الأحكام، وعليهما قام الشرع الشريف.
يقول النبي ﷺ: “تركتُ فيكم ما إن تَمَسَّكْتُمْ بهما لن تضلوا بعدي أبدًا: كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ ﷺ“.
“كِتابَ اللهِ”، وهو القُرْآنُ الكريمُ، كلامُ اللهِ سُبحانه وتَعالى الهادي إلى الصراط المستقيمِ، “وسُنَّةَ نَبِيِّه” وهي كُلُّ ما ورَدَ عن النبيِّ ﷺ مِن أقوالٍ، وأفعالٍ، وأُمورٍ أقَرَّها ﷺ ووافَقَ عليها، فهما أصْلُ الدِّينِ، وفيهما النَّجاةُ لمَن تَمسَّك بهما.
فالسُّنَّة: هي هدي النبي في أصول الدين، وما كان عليه من العلم والعمل والهدى، وما شرعَه أو أقرَّه.
وهي عبارة عن كلِّ ما أُثِرَ عن النبي ﷺ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ خَلْقيَّة أو خُلُقيَّة أو سيرة، قبل البعثة أو بعدها.
كل هذا يطلق عليه سُنَّة؟! ولهذا الحد نجعلُ كلَّ ما صدر عن النبي ﷺ من حركة وسكون، يقظة ومنامًا، سُنَّة؟!
نعم.. رسولُ الله ﷺ هو الأسوة الحسنة، وهو المثال الأكمل الأتم، وهو القائد، وهو الشهيد الذي يشهدُ على مَنْ يشهدُ على جميع الأمم: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾..
فعَنْ عبداللهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص (رضي الله عنهما) قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ عَن ذَلِكَ، وقَالُوا: تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَرَسُولُ اللهِ يَتَكَلَّمُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ؟ فَأَمْسَكْت، ثم ذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ إلى فِيهِ، فَقَالَ: “اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلاَّ حَقٌّ“.
فرسولُ الله ﷺ لا يقول إلا حقًّا، ولا يتكلم إلَّا صدقًا، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)..
ومن يتأمل الشرعَ الشريف؛ يجد أنَّ النبي ﷺ نُقِل لنا من هديه المُنيف ما يزيد على ستين ألفًا من الأحاديث النبوية المباركة، كل حديثٍ منها خُدِم بعدد من الأسانيد والطرق والمخارج ووجوه الرواية.
ولم نعرف على مدار التاريخ البشري كله في أمة من الأمم أنها حافظت على ما قاله نبيها أو فعله، لتنقله الأجيال لمن بعدها؛ جيلاً وراء جيل، وقرنًا بعد قرن.. إلَّا في هذه الأمة المُحمَّدية الكريمة، حتى صار ذلك من خصائصها.. فنستطيع أن نعلم الآن وبعد أربعة عشر قرنًا من الزمان، كيف كان كلامه صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف كان فعله، وسيرته، وهيئته، ومشيته، حاله مع أهله، مع أصحابه، وكأننا نحضر في مجلسه ونستمع لحديثه صلى الله عليه وآله وسلم..
والحديث الشريف هو الذي فتح الباب للكتابة ونشأة العلوم؛ ولولا الحديث ما وجدت طبقات الرجال، ولا كتب التاريخ، ولا التراجم والسِّيَر؛ بل إن هذا العلم (علم الحديث) هو الذي تفرعت على أساسه العلوم الدينية، من تفسير وفقه وسيرة وما إلى ذلك.
وقد بدأ تدوين السنة النبوية المشرَّفة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. فكان يكتب سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص، فكتب صحيفته التي سُميت بـ “الصادقة”، وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلاَّ حَقٌّ” مشيرًا إلى فمه الشريف، فهذا أمرٌ بالكتابة منه صلى الله عليه وآله وسلم.
وسيدنا أبو هريرة رضي الله عنه وهو الذي كان متفرغًا للعلم وللحديث نجده يقول: لم يكن أحد من صحابة رسول الله أكثر رواية مني للحديث، إلَّا ما كان من عبد الله بن عمرو.. فإنه كان يكتب ولا أكتب.
أيضًا قال صلى الله عليه وآله وسلم: “اكتبوا لأبي شاه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت مكة قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر الخطبة خطبة النبي قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي فقال: “اكتبوا لأبي شاه“. بحيث إذا رجع إلى قومه يحدثهم بما سمع، فلا ينسى منه شيء.
وكان هناك صحيفة تُسمى صحيفة أبي بكر في المواريث، وصحيفة علي بن أبي طالب في (الديات والمقادير)، وصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وكتبَ عبد الله بن أبي أوفى، وأُسيد بن حضير الأنصاري، وكتب زيد بن أرقم، رضي الله تعالى عنهم جميعًا.
إذن: السنة حُفظت ودونت منذ العصر الأول، ثم دوَّن بعدهم جماعة من العلماء؛ كالحسن البصري (110هـ) والذي تربى في بيت أم سلمة رضي الله عنها، وأيضًا دوَّن ابن شهاب الزهري (124هـ)، والإمام مالك بن أنس (179هـ) جمع كتابه الموطأ، وكتاب الموطأ رواه عن الإمام مالك أربعون من العلماء، أعلاهم الإمام الشافعي، حتى عرفت روايته بسلسلة الذهب.
ولا يعترض على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحَّ عنه أنه قال: “لا تكتبوا عني“؛ وذلك لأنهم كانوا يكتبون بنفس طريقة كتابة القرآن الكريم، وكان الوقت وقت نزول القرآن، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتبوا بهذه الطريقة المخصوصة التي قد يختلط بها الحديث بالقرآن، فهو نهيٌ مخصوص لطريقة مخصوصة.
ثم من يتدبر كتاب الله (عزَّ وجلَّ) يجد أن الله سبحانه وتعالى قد جمع بين أوامره تعالى، وأوامر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، وقرن طاعته بطاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وجعل سبحانه هذه الطاعة سببًا في الرحمة: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وتتحقق هذه الطاعة باتباع سنته صلى الله عليه وآله وسلم، يقول تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقرن بين رضاه سبحانه ورضا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)، بل جعل فعلَه فعلُه وقضاءَه قضاؤه (وما رميتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رمى)، (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).
وما نعتقده نحن المسلمون أنَّ السُّنَّة هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله، والبعْدية هنا إنما هي في الفضل والمكانة، أما في الاحتجاج فحجية السُّنَّة كحجية الكتاب، حيث إنها شارحة ومفسِّرة ومبيِّنة لما جاء في كتاب الله (عز وجل)، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أعلم الناس بمراد ربه.
ولقد دلَّ على أن السنة مصدر أساسي في التشريع الإسلامي القرآن الكريم، والسنة النبوية نفسها، وإجماع الأمة (النظري والعملي):
ففي القرآن الكريم: قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، فسماها ربنا الذكر، وهو مما أخبر الله تعالى بحفظه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وفيها دليل على حفظها بما ألهم الله أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من توثيقها وتدوينها وابتكار العلوم التي حفظتها بعد ذلك إلى يومنا هذا.
ومن الآيات أيضًا قوله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر :7]، ومنها قوله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا﴾.
فدلت تلك الآيات على حجية كلام النبي وفعله، وضرورة الالتزام به، لأنه صدر من الوحي، ونفس المشكاة التي صدر منها القرآن الكريم.
ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن ما يقوله من السنة هو مثل القرآن في الاحتجاج به، ويؤكد ذلك المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما حرم الله» فيغضب من أُولئك الذين يريدون هدم الدين بحجة التمسك بالقرآن وحده، ويحذر من هذا المسلك منذ بداية الأمر.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى».
وقد أجمعت الأمة عبر القرون والأعصار على حجية السُّنَّة النبوية المشرَّفة، والإجماع العملي من عهد الرسول إلى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلاً تستمد منه الأحكام، فإن المسلمين في جميع العصور استدلوا على الأحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في “السنة”.
فيجب الاحتجاج بالسنة النبوية والعمل بها، وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي طاعة لله، وعصيانه عصيان لله تعالى، وأن العصمة والنجاة إنما يتحقق بالتمسك بالقرآن والسنة جميعًا، ولا يجوز العدول بأحدهما عن الآخر، ومن رامَ العمل بأحدهما وترك الآخر كان مُضَيِّعًا لهما معًا.