خلق الله الكائنات الحية بتنوع هائل وجمال فريد، ولم يجعلها ساكنة هامدة كالجماد، بل منحها القدرة على التحرك والتأقلم، لكي تواجه مصاعب الحياة وتتلافى الأخطار الخارجية. وقد سن الله في مخلوقاته الحية سننًا ثابتة، وأحيا أجهزتها الحيوية لكي تقوم بوظائفها بشكل تلقائي ومبرمج. فالكائن الحي يتنفس ويخفق قلبه ويتدفق دمه ليل نهار تلقائيًّا دون توقف؛ وذلك لكي تظل خلايا جسده على قيد الحياة، تنمو وتتغذى وتتنفس بشكل لا إرادي.. لا يمنعها خمول ولا يوقفها نوم عن القيام بوظائفها إلى أن يحين أجلها. وتلك السنن هي وجه الفطرة، والحال التي أَودَع الله عليها خلقه.
كما فطر سلوك الكائن الواحد على فطرة واحدة لا تحتاج إلى اكتساب ولا تعلم؛ فحين قام الباحثون بفصل إحدى إناث الحيوانات عن أمها بعد ولادتها، وتمت تغذيتها صناعيًّا، ونمت تلك الوليدة بعيدة عن أمها -وهي لم تتعلم بعدُ سلوك الأمومة- وجدوا أنه لما حملت ووضعت وليدها قامت بسلوك الأمومة بشكل فطري غير مكتسب، فكان ذلك دليلاً على أن السلوكيات مبرمجة في جسم الكائن الحي، وهي فطرية إلهية لا تحتاج إلى اكتساب.
وتختلف الحيوانات والطيور في مستويات ذكائها، ومن الممكن أن يستدل الإنسان على ذلك بنفسه حين يحول بين وصول الحيوان إلى شيء يرغب فيه، فتجد من الطيور والحيوانات ما يلجأ إلى طرق عجيبة في سبيل الوصول إلى مراده. وقد اعتبروا استخدام الحيوان للأدوات، دليلاً على بلوغه قمة في الذكاء، ولم ينجح في هذا الاختبار سوى القليل من الحيوانات، مثل القردة والشمبانزي وغيرها من الثدييات العليا، حيث تستخدم بعضها العصى والرماح في تناول طعامها وفي صيدها ولعبها.
تكريم الإنسان
يتربع الإنسان على رأس كل الكائنات الحية مع أنه ليس بأقواها، ولكنه أعقلها، وهذا العقل هو مناط التكليف والتشريف. فلكي يصير الإنسان خليفة الله في الأرض، اقتضى الحال أن يُمنَح هبة ربانية فريدة تمكنه من تسخير الحيوانات والسيطرة عليها. غير أن هذا الاستخلاف لا يمنحه الحق في تعذيبها ولا تجويعها ولا قتلها بغير سبب، بل الإنسان مستخلَف ومكلَّف في نفس الوقت، والذي استخلفه شرع له من الدين ما يحذره من ظلم الحيوان وإيذائه. ولا أدل على ذلك من الحديث الشريف: “دخلت امرأة النار في هِرَّة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض” (رواه البخاري). ولا ألطف من مشهد توقف موكب النبي سليمان عليه السلام وجيشه، لكي يستمع لتحذير نملة لقومها قائلة لهم كما حكى القرآن عنها: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (النمل:18). وإذ بنبي الله سليمان يضحك ويستشعر نعمة الله عليه، ويرِق حاله لتلك النملة الضعيفة. فالدين يحث على الرحمة ويحذر من القسوة والظلم.
تكريم مشروط
وهذا التكريم الإلهي للإنسان ليس مطلقًا، فالإنسان مفضل على سائر المخلوقات ما دام يحفظ حق الله عليه ويقر بربوبية الله وألوهيته، لكن التشريف يسقط عن هذا المخلوق الذي تقتصر حياته على الأكل والشرب، ولا يُعمِل عقله، ولا يؤمن بالآخرة ولا يعترف بخالقه. فهذا السلوك يسقط بالإنسان إلى مرتبة دون الحيوان، فالعقل الذي رُكِّب فيه يدله على أن لكل صنعة صانعًا، ولكل مخلوق خالقًا، أما أن يتنكر الإنسان لنداء عقله وقلبه، ويخالف فطرته فيكفر بخالقه، فهذا -بلا شك- انحدار إنساني يصدق فيه قول الله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان:44).
دعوات ضد الفطرة
ما نسمعه اليوم من دعوات غربية تنادي بالشذوذ والمِثلية ما هي إلا دليل على هذا الانحطاط، إذ لم يكتفِ أصحاب تلك الدعوات بالتجرد من عباءة العبودية، بل تجردوا أيضًا من عباءة الفطرة السوية التي فُطِر عليها الإنسان والحيوان على السواء، فيبدّل خلق الله وتنتكس فطرته ويحاول كسر سنن الله في الخلق. ونحن لم نسمع مطلقًا عن شذوذ في الحيوان، بل إن تزاوج ذكور الحيوانات بإناثها فطرة وسنة سارية حتى قيام الساعة.
وإن التستر على هذا العبث بستار الحرية إسقاط لمفهوم الحرية النبيل، فالحرية أسمى وأعز من أن تكون مدعاة للانفلات والتجرد من القيم والمُثُل والفطرة السوية. وفي مثل تلك الدعوات إيذان بنزول الكوارث والفاجعات. فقد مضى قوم لوط عليه السلام في هذا العبث وقلبوا الموازين، حتى بلغ بهم التجاوز أن أعطوا لأنفسهم الحق في البقاء في قراهم دون سواهم من المصلحين، وطرد الصالحين منها: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56). فما كان من الله إلا أن قلَب قُرَاهم رأسًا على عقب وأهلك الظالمين جميعًا. وفي هذا إنذار إلهي ودرس للتاريخ، والتاريخ لا يعذر من لا يتعلم دروسه، يقول الله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137).
ولعل النوازل الأخيرة المتمثلة في انتشار وباء “كورونا”، وحدوث الأزمات الاقتصادية العالمية، واندلاع الحروب بين دول العالم، كل ذلك يعد نتيجة حتمية لتلك الصيحات الشاذة، وسكوت الناس عنها، وتجاوب البعض في الترويج لها ولشعارها الخبيث، فمتى انتشر الخَبَث عمَّت العقوبة. وفي الحديث الصحيح أن أم المؤمنين زينب رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم إذا كثر الخَبَث”. و”الخَبَث” هو الفسوق والفجور والمعاصي.
نداء الفطرة
ومن هنا نطالب أنفسنا والجميع، بأن نُعمِل صوت العقل والإيمان ونستجيب لنداء الحق، ولتتحد الإنسانية جميعًا في إنكار تلك المنكرات والتنكر وعدم الاستجابة لها، ولنتفق جميعًا -مهما اختلفت دياناتنا السماوية-على مبدأ توحيد الربوبية، فوحدانية الخالق عز وجل شيء لا يختلف عليه عاقلان. ولننطلق من ذلك التوحيد إلى الاستجابة لدواعي الفطرة السليمة وهجر ما تنفِر منه الفطرة السوية، ولنَشغَل أنفسنا بتعمير الأرض، والتعاون في نشر الخير وما ينفع الناس ويحل مشكلاتهم الحياتية الضرورية، كتوفير المأكل والمشرب والدواء والمأوى للمعوزين، فذلك هو الميدان الذي ينبغي أن نشغل أنفسنا به، كي لا نكون أممًا في مهب الريح. وصدق القائل:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت | فإن هُمُوا ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا. |
(*) طبيب بيطري وباحث علمي / مصر.