هل النسيان يحسن الذكاء؟

إن أغلب الناس يعانون من نسيان الأشياء من وقت لآخر، ويزداد معدل النسيان بنسب أكبر كلما تقدم الإنسان في العمر، مما قد يكون مخيفًا أو مثيرًا للقلق وإن كان النسيان الذي لا يستدعي القلق هو النسيان والسهو البسيط الذي لا يسبب مشاكل تؤثر على استقلالية الفرد، وتعيق ممارسته لحياته والعمل بشكل طبيعي.

هل النسيان نعمة؟ لعل الشخص الذي يحاول الخروج من أزمة عاطفية، يتمنى أن ينسى مشاعر الحب التي انتهت من قلب الطرف الآخر ويواصل حياته، أن ينسى التفاصيل والأيام الجميلة التي انتهت. لكن زيارة واحدة لعيادة الزهايمر، تقنعك بأن النسيان لم ولن يكون نعمة، بل ابتلاء من الله تعالى. فأن ينسى المرء اسم زوجته وأبنائه المقربين إلى قلبه، أو أن ينسى اسمه وملامحه على المرايا، وينسى كيف يعتني بنفسه، تصبح ذاكرته كقرص كمبيوتر صلب تم محو محتوياته.

أنواع الذاكرة

الذاكرة أنواع مختلفة، فهناك الذاكرة الحسية، حيث تساعد الحواس الخمس على عملية استقبال المعلومات، والمدخلات الحسية من العالم الخارجي، وتحويلها إلى معلومات وشفرات، فعندما تشم رائحة طعام يحترق في المطبخ -مثلاً- تفهم أن عليك المسارعة لإغلاق الموقد، وعندما ترى سُحبًا في السماء تعي أنها ستمطر، فدماغك قام بتخزين رائحة الحريق ولون السحاب، وربطها بمعلومات سابقة.

أما النوع الآخر من الذاكرة فيسمى الذاكرة قصيرة المدى، فعندما أخبرك برقم هاتفي -مثلاً- فأنت تحتاج أن تتذكره فيبقى في ذاكرتك القصيرة دقائق معدودة، ويمكن أن تنساه إذا لم تقم جاهدًا بترديده أو كتابته أو تكراره ليتم تخزينه في الذاكرة طويلة المدى، وهي مكان تخزين الأحداث والمعلومات لفترة أطول ليتم استدعاؤها عند الحاجة إليها.

يعرّف علماء النفس النسيان على أنه انعدام القدرة على استرجاع ذكريات من الماضي، أو عدم تذكُّر معلومات جديدة وأحداث تحصل في الوقت الحاضر أو كليهما، وهذا النسيان قد يكون مؤقتًا، وقد يبقى لفترة طويلة ويزداد سوءًا مع الزمن. يحدث ذلك لأنّ المعلومات لم تعد موجودة في الذاكرة، أو أنها لا زالت مخزنة لكن لسبب ما، لم يعد بالاستطاعة استرجاعها.

وقسم علماء النفس الذاكرة إلى ثلاثة أنواع، ذاكرة الحقائق، وذاكرة المشاعر، والذاكرة الإدراكية؛ فذاكرة الحقائق نخزن فيها المعلومات العامة أن يوم الجمعة إجازة، أن السيارة تحتاج إلى بترول، أن الجو يكون باردًا في الشتاء وحارًّا في الصيف.. معلومات عامة تختزنها أدمغتنا وتساعدنا في تسيير حياتنا اليومية.

أما ذاكرة المشاعر فتربط بعض الحقائق بمشاعر معينة؛ رائحة الخبز تذكرني بطفولتي عندما كانت تعده أمي كل صباح، رائحة العطر الذي كانت تستخدمه زوجتي في أول مرة نخرج فيها معًا بعد عقد القران.. في هذه المواقف يربط الدماغ استجابة حسية (رائحة العطر) بذاكرة معينة (مناسبة عقد القران)، وتلعب المشاعر دورًا في ترسيخ تلك الذاكرة.

أما النوع الثالث من أنواع الذاكرة فيسمى الذاكرة الإجرائية، التي تساعدنا على قيادة السيارة دون الحاجة إلى التركيز في كيفية استخدام المكابح وعجلة القيادة، وغيرها من المهارات التي نمارسها دون الحاجة إلى التركيز الشديد.

فروق النسيان ومشاكله

هناك فرق بين النسيان العادي الذي لا يرتبط بالإصابة بخرف والنسيان المرضي، فالنسيان المرضي يتميز بوجود أعراض تدل على أن سبب النسيان هو تدهور شديد في حالة الذاكرة والمهارات العقلية والمهارات العملية (كفقدان القدرة على أداء أعمال كان الشخص يتقنها سابقًا).

ومن بعض الدلالات نسيان التجربة بالكامل، مثل نسيان كيفية قيادة السيارة، أو قراءة الساعة، أو نسيان حدث حصل مؤخرًا، أو نسيان شخص كان المصاب يعرفه جيدًا سابقًا.. ويرافق ذلك الشعور الارتباك والحيرة والانخفاض في التركيز والتشويش. وتزداد شدة النسيان وتدهور القدرات الذهنية بوتيرة سريعة مع مرور الوقت.

هناك العديد من الأسباب التي قد تؤدي إلى تعرض الشخص لمشاكل النسيان، منها:

1- الأمراض المزمنة: الكثير من الأمراض التي تقود إلى مشاكل في الذاكرة والدماغ، فيجب كشفها مبكرًا ومحاولة علاجها، أو تخفيفها لأكبر قدر ممكن. ومن بين هذه الأمراض التي تؤثر على الذاكرة؛ نذكر السكري، والأورام الخبيثة وغير الخبيثة، والزهايمر، والشيخوخة المبكرة.

2- التوتر والقلق: يمكن أن تؤدي الأمور التي تجعل من الصعب على الشخص التركيز وحجز المعلومات والمهارات الجديدة، إلى مشاكل في الذاكرة، وهذا ما يؤدي له الإجهاد والقلق، حيث يمكن أن يتعارض كلاهما مع مقدار الانتباه، ويمنع تكوين ذكريات جديدة أو استرجاع ذكريات قديمة.

3- الاكتئاب: تشمل الأعراض الشائعة للاكتئاب الحزن الشديد، وعدم وجود دافع، وقلة المتعة في الأمور التي يستمتع بها الشخص عادة.. ويمكن أن يكون النسيان علامة على الاكتئاب أو نتيجة له، لذا يجب على الشخص طلب المشورة من الطبيب لرؤية ما إذا كان هناك أي حل للمشكلة التي يعاني منها.

4- سوء التغذية: فيتامين “ب 12” وهو أحد فيتامينات “ب” الضرورية لوظائف الأعصاب العادية يمكن أن يؤدي نقصه إلى الارتباك وحتى الخرف، لذا ينبغي على الشخص تناول حوالي 2.4 ميكروجرام من فيتامين “ب 12” يوميًّا، ويمكن أن يكون ذلك من مصادر طبيعية مثل منتجات الألبان واللحوم والأسماك، أو من الأطعمة المدعمة بفيتامين “ب 12” مثل الحبوب المحصنة.

5- قلة النوم: يمكن أن يكون عدم الحصول على قسط كاف من النوم هو السبب الأهم لمشكلة النسيان، كما قد يؤدي عدم الحصول على ما يكفي من النوم المريح، إلى تغيرات في المزاج وإلى القلق، مما يساهم بدوره في التعرض لمشاكل النسيان.

6- الأدوية: تشمل الأدوية التي قد تسبب النسيان، كلاًّ من المهدئات ومضادات الاكتئاب وبعض أدوية ضغط الدم وأدوية أخرى، مما يجعل من الصعب على الشخص التركيز على أمور جديدة. لذا ينصح بالتحدث إلى الطبيب في حال كان الشخص يشك أن دواء معينًا قد أثر على ذاكرته.

يتضمن النسيان الطبيعي فقدان أجزاء من تجربة، مثل نسيان مكان ركن السيارة، أو نسيان حدث من الماضي البعيد، أو نسيان اسم شخص، ولكن غالبًا ما يمكن تذكر هذه الأمور لاحقًا. وقد أظهرت الإحصائيات أن نصف الذين تجاوزوا عمر الستين عامًا لديهم درجة من درجات النسيان بدرجة متوسطة، وغالبًا يكون سبب النسيان الطبيعي هو التوتر المفرط، أو انشغال البال بعدة أمور، أو تغيرات في الذاكرة نتيجة لتقدم العمر والشيخوخة.

تعزيز التغير بالدماغ

توصلت دراسة حديثة أجراها فريق من جامعة بوسطن نُشرت في مجلة “نيتشر العلمية”، أن جزئين من الدماغ معروفَين بتخزين واسترجاع المعلومات عزَّزا بشكل متواضع تذكر الكلمات فوريًّا لدى الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا.

وقال مسعود حسين، أستاذ طب الأعصاب وعلم الأعصاب الإدراكي بجامعة أكسفورد، غير المشارك في الدراسة، في بيان أصدره: “لا يزال يتعين اختبار ما إذا كانت هذه التحسينات ستطال الذكريات اليومية، وليس قوائم الكلمات فقط”.

وكانت التحسينات أكثر وضوحًا لدى الأشخاص الذين عانوا من أسوأ نسيان في الدراسة، والذين “يُعتبرون مصابين بضعف إدراكي بسيط”، بحسب “رودي تانزي” عالم الأعصاب وأستاذ علم الأعصاب بكلية الطب في جامعة هارفارد غير المشارك في الدراسة. كان العلماء يعتقدون أنه بحلول نقطة معينة في بداية مرحلة البلوغ، يكون الدماغ ثابتًا، وغير قادر على النمو أو التغير.

واليوم، أصبح من المفهوم على نطاق واسع أن الدماغ قادر على التمتع بالمرونة، أي القدرة على إعادة تنظيم بنيته، أو وظائفه، أو ارتباطاته طوال الحياة. ويحاول تحفيز التيار المتردد عبر الجمجمة، كما يمكن تعزيز وظائف الدماغ بجهاز يطبق تيارات كهربائية أشبه بموجة، على مناطق معينة من الدماغ بواسطة أقطاب كهربائية توضع على فروة الرأس.

ويمكن للموجات الكهربائية أن تحاكي أو تغير نشاط الموجات الدماغية لتحفيز النمو، وتغيير الشبكات العصبية في الدماغ بحسب ما هو مرجو. وقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) على نسخة بديلة تستخدم المجالات المغناطيسية لعلاج الاكتئاب، وهي تسمى التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة.

وحلل باحثون في جامعة بوسطن الذاكرة طويلة الأمد، والذاكرة قصيرة الأمد بشكل منفصل، في تجربتين شملت كل منهما مجموعات عشوائية من 20 شخصًا تتراوح أعمارهم بين 65-88 عامًا.

وتناوبت التجارب بين تطبيق موجات “جاما” التي بلغت 60 هرتزًا، وموجات “ثيتا” التي بلغت 4 هرتز لمركزين في الدماغ يلعبان دورًا رئيسيًّا في الذاكرة. وقد عقدت الجلسات البحثية على مدى 4 أيام متتالية، وخضع كل شخص لخمسة اختبارات لتذكّر 20 كلمة خلال جلسة التحفيز اليومي التي تمتد لـ20 دقيقة.

وطُلب منهم تذكّر أكبر عدد ممكن من الكلمات على الفور في نهاية كل اختبار من الاختبارات الخمسة.

أما بالنسبة للأشخاص الذين تلقوا تحفيز “جاما”، أظهرت النتائج تحسنًا بالقدرة على تذكر الكلمات بين 17 من أصل 20 من المشاركين منذ بداية الاختبار، أو ما أشار إليه العلماء بالذاكرة طويلة الأمد.

وبالمثل، حسّن 18 من 20 مشاركًا خضعوا لتحفيز “ثيتا” ذاكرتهم العاملة قصيرة الأمد، أو قدرتهم على تذكر الكلمات التي سمعوها في الآونة الأخيرة.

وبالمقارنة مع مجموعة الأشخاص الذين تلقوا التحفيز الوهمي، شهد أولئك الذين تلقوا العلاج، نتائج “تجلت بتذكر الأفراد الأكبر سنًّا، 4 إلى 6 كلمات أخرى في المتوسط من قائمة الكلمات الـ20 بحلول نهاية الجلسات التي استمرت 4 أيام”، بحسب الباحث المشارك في الدراسة “روبرت راينهارت”، وهو مدير مختبر علم الأعصاب الإدراكي والسريري في جامعة بوسطن.

وقال تانزي: “من المهم التأكيد على أن الدراسة تُظهر بشكلٍ أساسي تحسنًا متواضعًا، ولكن ملحوظًا بالذاكرة قصيرة الأمد، لكنها لا تظهر تأثيرات واضحة على الذاكرة طويلة الأمد، لأن الاختبار اعتمد على تذكر الكلمات فقط.

 

(*) أستاذ ورئيس قسم جراحة العظام والتقويم سابقًا، كلية الطب بجامعة الإسكندرية / مصر.

المراجع

(1) النسيان أصعب من التذكر والأمر أصعب مع الاكتئاب، العلوم الحقيقية، الطيب عيساوي.

(2) Mondesire, S., & Weigand, P. (n.d.). Forgetting Classification and Measurement for Decomposition-based Reinforcement Learning.

(3) Maddox, G. B., Balota, D. A., Coane, J. H., & Duchek, J. M. (2011). The role of forgetting rate in producing a benefit of expanded over equal spaced retrieval in young and older adults. Psychology And Aging,

(4) Sangha, S., Scheibenstock, A., Martens, K., Varshney, N., Cooke, R., & Lukowiak, K. (2021). Impairing forgetting by preventing new learning and memory. Behavioral Neuroscience,

(5) Wayne, W. & McCann, D. (2020). Psychology: Themes & Variety 2nd Canadian ed. Nelson Education Ltd: Thompson Wadsworth Publisher.