الاكتئاب جائحة العصر

يعد الاكتئاب السبب الرئيس لاعتلال الصحة والعجز في جميع أنحاء العالم حسب تقديرات صادرة عن منظمة الصحة العالمية (WHO). فهناك أكثر من 300 مليون شخص يعيشون الآن حالة اكتئاب، أي بزيادة تجاوزت نسبتها 18% في الفترة الواقعة بين عامي 2005-2015. ويمثل الاكتئاب أهم عوامل الانتحار الذي يحصد أرواح مئات الآلاف من الأشخاص سنويًّا. وتتنوع تقديرات معدلات الانتشار على نطاق واسع من 3٪ في اليابان إلى 17٪ في الولايات المتحدة. كما تؤكد الدراسات أن الاكتئاب يزيد من خطورة الإصابة بأمراض مثل داء السكري، وأمراض القلب، والأوعية الدموية، والسكتة الدماغية، ويصحّ أيضًا عكس هذا القول، مما يعني أن خطورة الإصابة بالاكتئاب مرتفعة لدى الذين يعانون من سائر هذه الحالات الصحية.

وقد أوضحت دراسة أجراها باحثون في “معهد يونيس كينيدي شرايفر الوطني” و”مستشفى ماساتشوستس العام” و”كلية الطب بجامعة هارفارد” و”المعهد الوطني للصحة العقلية بالولايات المتحدة” و”جامعة أوتاوا الكندية”، امتدت 59 عامًا (1952-2011)، وجود صلة وثيقة بين الاكتئاب وارتفاع خطر الوفاة المبكرة، وذلك على الرغم من زيادة الوعي بخطورته وتنوُّع سبل علاجه. كما أشارت دراسة أخرى إلى أن ارتفاع خطر الوفاة لا يرتبط بالاكتئاب الحاد أو المزمن فحسب، لكن أيضًا بمستويات الاكتئاب الأقل، لذا وصفت الدراسة الاكتئاب بأنه “أحد الاضطرابات المهدِّدة للحياة”.

ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فمع وجود طرق علاج معروفة وفعالة لعلاج الاكتئاب، فإن أقل من نصف عدد المتضررين في العالم (أقل من 10% في كثير من البلدان) يتلقون مثل هذه العلاجات.

إن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عدم علاج الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب أو القلق والاضطرابات، تقدر بمبلغ 1000 مليار دولار أمريكي سنويًّا، واستثمار دولار واحد في علاج الاكتئاب ومشكلات الصحة النفسية، سيجلب 4 دولارات من ناحيتي الصحة والإنتاجية.

طبيعة الاكتئاب وأعراضه

في غمرة الحياة قد يشعر أي شخص بالتذمر أو الحزن، لكن الأمر يصبحُ مصدرًا للقلق عندما تصبح الحياة “سوداوية” بالكامل أمام الشخص، لأن هذا التشاؤم قد يكون مؤشرًا على الإصابة بمرض الاكتئاب. وبحسب موقع “هيلب غايد”، فإن الشخص الذي يشعر بحالة من اليأس والحزن الشديدين قد يكون مصابًا بالاكتئاب، وهذا المرض يستوجب العلاج والاستعانة بطبيب، وليس مجرد حالة مزاجية يمكن التغلب عليها مع مرور الزمن.

والاكتئاب حالة من الاضطرابات النفسية والمزاجية السيئة التي يتعرض إليها الإنسان نتيجة تعرضه للضغوط المختلفة في الحياة، التي تجعله يشعر بالحزن لفترة طويلة، وقد يرفض التكيف مع الحياة، وعدم مقابلة الآخرين، والابتعاد عن المناسبات السعيدة. ويؤثر هذا المرض عادة على طريقة تفكير وتصرف الشخص المصاب به، ومن شأنه أن يزيد الاضطراب النفسي، كما يؤدي إلى العديد من المشاكل العاطفية والجسدية. وعادة، لا يستطيع الأشخاص المصابون بمرض الاكتئاب الاستمرار بممارسة مهامهم اليومية كالمعتاد، وفي حالات متقدمة، قد يسبب الاكتئاب رغبة بالانعزال عن الناس، بل وعدم الرغبة في الحياة.

وتشمل أعراض الاكتئاب، اضطرابات النوم، وعدم الرغبة في تناول الطعام، وانعدام الرغبة في القيام بأي شيء، وانعدام التركيز، وفقدان الشغف، وكثرة النسيان، والشعور بالاختناق في عديد من المواقف، وآلام المعدة المتكررة، والشعور الدائم بالإرهاق والتعب.. كل تلك العلامات في حالة استمرارها تعني إصابة الشخص بالاكتئاب.

تاريخ الاكتئاب

تعد مختلف الأمراض والاضطرابات النفسية بما فيها الاكتئاب، ملازمة لتاريخ البشرية، وعايشتها جلّ الحضارات الإنسانية، وقد أسهمت الثورات الصناعية والتقنية التي عايشتها البشرية طيلة القرون الثلاثة الأخيرة في دفع أنماط الحياة الاجتماعية والنفسية للإنسان نحو حدودها القصوى، كما فتحت المجال أمام الدماغ البشري للتفاعل مع ضغوطات الحياة الحضرية والتقنية الجديدة. فمنذ ظهور التصنيع والتمدين، وصولاً إلى الحياة دائمة الاتصال، وثورة البيانات الضخمة (The Big Data)، صارت الإنسانية تتفاعل مع قدْر كبير من البيانات والمعلومات والتقنيات، وأنماط الحياة الجديدة التي لم تعايشها طيلة وجودها. والانتقال من نمط الحياة القروية نحو الحياة الحضرية، والتفاعل اليومي مع مليارات المعلومات المتداولة اليوم في عالمنا الرقمي الأنفوسفير، كفيل بأن يغيّر نظرة الإنسان لذاته، وللعالم وللآخرين. وفي نفس الوقت، يرفع من درجة وحدة “الضغوطات” الشعورية واللاشعورية التي تنتج عن هذا التفاعل المستمر مع “العصر الجديد”. حتى صارت التركيبة العصبية للدماغ البشري لـ”الإنسان الراهن”، غير قادرة على التعامل مع هذا القدر الكبير من الضغوطات والمعلومات، لذلك كان من الطبيعي أن تنخرط الإنسانية في “أزمة الصحة النفسية” طيلة القرنين الماضيين.

ولم يكن هناك اهتمام كبير بالطب النفسي في الماضي نظرًا لمحدودية الأثر الاقتصادي لهذا النمط من البحث العلمي من جهة، وانتشار التمثلات الثقافية والاجتماعية السلبية حول هذه الاضطرابات نفسها من جهة أخرى. لهذا، ومع ترافق تطوُّر حدّة الاضطرابات النفسية بضغوط العمل والحياة الحضرية الجديدة، فأنه كان علينا الانتظار إلى لحظة تطور الطب التجريبي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وانتباه المنظومة الرأسمالية للإمكانات التي يوفرها سوق الأدوية والأمراض النفسية لتزايد الاهتمام بها.

فأمام تطور الطب التجريبي والقبول الاجتماعي لمقولات المرض النفسي، ازدادت نسب الإصابة والكشف والبحث عن العلاج والنقاشات العامة حول مرض الاكتئاب في أرجاء العالم. لهذا يؤكد “سادوسكي” على أن الاكتئاب ظاهرة عرفتها وتعايشها جلّ المجتمعات، فضلاً عن إسهام الشروط الثقافية والاجتماعية في تعزيزه بنفس درجة المحددات البيولوجية والنفسية. ففي نهاية المطاف يظل المرض بناءً اجتماعيًّا مرتبطًا بالثقافة التي تقرِّر ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي.

وبعد أن كان الكلّ مضطربًا بالأمس من وصم المرض النفسي، أصبح الجميع اليوم خائفًا من هذه الأمراض. لهذا أضحى الناس يقبلون على الفحوص النفسية، من أجل البحث عن علاج لحالات كآبة وحزن ظلَّت طبيعية واعتيادية طيلة تاريخ البشرية. صحيح أن حدة هذه الاضطرابات قد زادت، كما أن ثقافة المرض النفسي لا زالت غير منتشرة على نطاق واسع، إلا أن المنظومات الرأسمالية قد انخرطت لعقود في صراعات طويلة مع الجماعات العلمية؛ لربط علاج الأمراض النفسية بالعقارات، وتحرير سوق الطب النفسي بالضرورة. وفي ظل هذه الضبابية، تزايدت حدة الانقسامات بين الجماعات العلمية والساسة ورجال الاقتصاد والعموم، ولم تسهم سوى في تضخيم الصورة الجمعية للمرض، عوض البحث عن بناء تشخيص دقيق وعلاجات واعدة له.

واليوم، أعادت الجائحة تسليط الضوء على هشاشة الصحة النفسية والعقلية للإنسان المعاصر. لهذا يجب البحث عن علاجات واعدة لأمراض العصر (الاكتئاب، السرطان، الزهايمر، وغيرها) التي تهدِّد صحتنا العامة ونوعنا البشري في المستقبل.

الاكتئاب والعالم العربي

أفادت إحدى نتائج الاستطلاع الذي قامت به شبكة البارومتر العربي البحثية لصالح هيئة الإذاعة البريطانية على مدى عامي 2018 و2019، وشمل عشر دول عربية والأراضي الفلسطينية، أن نحو 30% من المواطنين العرب، إما أنهم شعروا بالاكتئاب أو عانوا من أعراضه. ويتربع على رأس قائمة الدول العربية التي استطلع مواطنوها حول المعاناة من الاكتئاب؛ العراق بنسبة 43%، وتونس 40%، وفلسطين 37%، والأردن 34%، ولبنان 30%، وفي مصر استقرت النسبة عند 25%. وأشارت دراسة أخرى إلى أن نسبة انتشار الاكتئاب في دول الخليج العربي تتراوح بين 20-25%.

وبالمقارنة مع نتائج دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية في أبريل 2017 حول انتشار مرض الاكتئاب في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد زادت نسب انتشار حالات الاكتئاب في العالم العربي. ففيما أشارت المنظمة -حينها- إلى أن عدد المصابين بهذا المرض بين مواطني الدول العربية إجمالاً لم يتجاوز 20%، بينت الدراسة التي أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية، أن هذه النسبة تضاعفت اليوم في كل من العراق وتونس والأراضي الفلسطينية، وارتفعت في كل من الأردن ولبنان واليمن ومصر وليبيا.

وقد نجد تفسيرًا لهذا الوضع في تقارير منظمة الصحة العالمية حول الاكتئاب التي أفردت المراتب الأولى عالميًّا في انتشار هذا المرض للدول العربية، والتي تعاني منذ 2011 من أزمات سياسية، وتردي الأحوال الاجتماعية والمالية التي تفاقمت بسبب البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة والعنف والحروب الخارجية والصراعات الداخلية، وما يتأتى عن ذلك من تداعيات شعور بعدم الاستقرار.

الوقاية من الاكتئاب

ينتج الاكتئاب عن نوع من التفاعل المعقد بين العوامل الاجتماعية والنفسية والبيولوجية، لذلك يكون مَن عانوا مِن أحداث حياتية صعبة (البطالة، الفجيعة، الصدمات النفسية)، أكثر تعرضًا للاكتئاب. ويمكن أن يؤدي الاكتئاب بدوره إلى التوتر، وعدم القدرة على أداء الوظائف، وتردي حياة الشخص المصاب. وهناك علاقة متبادلة بين الاكتئاب والصحة الجسدية؛ فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدي الأمراض القلبية الوعائية إلى الاكتئاب، والعكس صحيح. وقد ثبت أن برامج الوقاية فعّالة في مواجهة الاكتئاب، وتشمل البرامج المدرسية لتعزيز نمط التفكير الإيجابي لدى الأطفال والمراهقين، وتقديم تدخلات لآباء وأمهات الأطفال الذين يعانون من مشاكل سلوكية، قد يحد من أعراض الاكتئاب لدى الوالدين، ويحسن النتائج بالنسبة لأطفالهم. ويمكن أن تكون برامج التدريب لكبار السن فعّالة كذلك في الوقاية من الاكتئاب.

إن الوقاية من الاكتئاب تبدأ من المناخ الأسري السليم الذي يحرص على إحاطة الطفل بالحنان والرعاية، فيشعر الفرد معه بوجود الدعم والمساندة الاجتماعية تجاه أي ضغوط حياتية أو عملية تواجهه، أو أية صدمات، كما يبرز دور التنشئة الأخلاقية والدينية التي تعمل على دعم الجانب الروحي والوجداني للإنسان وغرس القيم فيه، بما يوفر الوقاية من الاكتئاب وعوامله.

كما تبرز الحاجة إلى وجود برامج إعلامية وتوعوية بالمشكلات والأمراض النفسية وكيفية التعامل معها بصورة سليمة، والاستعانة بالطبيب النفسي. ولذلك أطلقت منظمة الصحة العالمية حملة “الاكتئاب: دعونا نتحدث عنه” في مارس 2017، للإشارة إلى أهمية الشفافية، ومواجهة الوصم المستمر الناجم عن الإصابة باعتلال نفسي.

 

(*) كلية التربية، جامعة الإسكندرية / مصر.

المراجع

(1) امبراطورية الاكتئاب: تاريخ جديد لجائحة القرن، محمد الإدريسي (2020)، مجلة الدوحة.

(2) بي بي سي (2021): كيف يتعامل المواطن العربي مع مرض الاكتئاب؟

(3) ويكبيديا (2021): معدلات انتشار الاكتئاب.

(4) World Health Organization (2021): Depression, https://www.who.int, 15/9/2021.

(5) Jonathan Sadowsky (2020): The Empire of Depression: A New History, Polity, https://www.psychiatrictimes.com/view/people-history-depression.