(مقاربة الأستاذ فتح الله غولن في الحوار بين الأديان وتوجيهاته في مواجهة إقصاء الآخر)

لقد أدت عملية العولمة إلى تزايد الاهتمام العالميّ بقضايا الحوار على المستويات كافّة الدينيّة والثقافيّة والحضاريّة وذلك بعد تفاقم النزاعات والمواجهات العنيفة ذات الطبيعة العرقيّة والدينيّة والسياسيّة التي شهدها العالم منذ عقود. ولم تلبث هذه الصراعات من بعده أن تخطى طابعها الاجتماعي أو السياسي، لتكتسي لبوسًا دينيًّا، وقد استلزمت هذه الحاجة إلى التفاهم بين الأشخاص والأديان والثقافات من أجل تحقيق هدف العيش الكريم معًا. فكما شهدت السنوات الأخيرة ظهور عدد كبير من الدراسات حول الحوار بين الأديان والثقافات كإطار نظري للتعامل مع أزمات الحداثة من الصراعات الثقافية، والدينية، والعرقية، والوطنية.

وأصبح الاعتراف بالعالم المعولم بشكل متزايد وتحديات العيش معًا من الدواعي التي دفعت الأستاذ فتح الله غولن إلى القيام بالتعبير عن الحوار بين الأديان من وجهة إسلامية من حيث النظرية والتطبيق العملي. فالحوار في خطابه هو جزء لا يتجزأ من الخطاب التربوي الأخلاقي والتدريب، الذي يعزز الحب والسلام والتعاون والتفاهم المتبادل، ويعترف بالتنوع والتعددية كحقيقة طبيعية / إلهية ويهدف إلى الحل السلمي للنزاع إن وجد.

وكانت الثقافة والتقاليد الحوارية موجودة تقليديًّا في جميع المجتمعات تقريبًا غير أن الحداثة ودورها في ترويج ثقافة التجانس وزيادة اعتماد حياة الإنسان على التكنولوجيا أدت إلى تقليص مساحة الثقافة الحوارية وتآكل التعددية الداخلية في جميع المجتمعات.

ومع ذلك، فإن الكنيسة الكاثوليكية هي التي أطلقت في المقام الأول جهودًا متضافرة في اتجاه الحوار بين الأديان منذ المجمع الفاتيكاني الثاني الذي انعقد بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرين بين عامي 1962 و1965. بينما يؤكد المجمع، من بين أمور أخرى أن الوحي في شكله الكامل لا يوجد إلا في الكنيسة الكاثوليكية وشيء منه في كنيسة الأرثوذكسي والبروتستانتي، يعترف بأن “بعض الجزيئات” من الوحي موجودة في جميع الأديان غير المسيحية. وهذا الاعتراف يلغي عقيدة الكنيسة الراسخة “لا نجاة إلا في الكنيسة” وفتح الباب اللاهوتي المسيحي للحوار مع الأديان غير المسيحية.

وكما جاء في بيان حول “علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية” (Nostra Aetate) في هذا الصدد:

“فالكنيسة الكاثوليكية لا ترذل شيئًا مما هو حقّ ومقدّس في هذه الديانات، بل تنظر بعين الاحترام والصراحة إلى تلك الطرق، طرق المسلك والحياة، وإلى تلك القواعد والتعاليم التي غالبًا ما تحمل شعاعًا من تلك الحقيقة التي تنير كل الناس، بالرغم من أنها تختلف في كثير من النقاط عن تلك التي تتمسك بها هي نفسها وتعرضها. فهي تحثّ أبناءها على أن يعرفوا ويصونوا ويعزّزوا تلك الخيور الروحية والأدبية، وتلك القيم الاجتماعية والثقافية الموجودة لدى الديانات الأخرى، وذلك بالحوار والتعاون مع أتباع هذه الديانات بفطنة ومحبة وبشهادتهم للإيمان وللحياة المسيحية.”

ورغم هذا الإعلان، لم يتم إحراز تقدم نحو الحوار والوصول إلى أعضاء الديانات غير المسيحية إلا بعد ما يقوم المجلس البابوي للحوار بين الأديان في الفاتيكان بنشر وثيقة “موقف الكنيسة من أتباع الديانات الأخرى”في عام 1984، هو الذي قدم تبريرًا لاهوتيًّا مسيحيًّا مفصلاً للحوار والتعاون مع الأديان غير المسيحية. ومن هنا يمكن القول إن الكنيسة الكاثوليكية والعديد من الكنائس الطائفية المسيحية الأخرى من خلال دعوتها وأعمالها الاجتماعية قد نجحت في جلب قضية الحوار بين الأديان على المستوى العالمي.

وعلى الرغم من المبادرات بين الأديان التي أطلقها الكنيسة، إلا أن الإمكانية النظرية للاعتراف بالأديان غير المسيحية على أنها “دين موحى به بالتساوي مع إمكانية كاملة للنجاة” في عقائد الكنيسة قد خضعت لنزاعات شديدة بين العلماء وتمت مناقشتها من خلال ثلاث وجهات نظر رئيسية: حصرية وشاملة وتعددية. والافتقار إلى القبول الواضح والمؤكد للتقاليد الدينية غير المسيحية، ولا سيما الديانات غير التوحيدية، في المذاهب المسيحية الكاثوليكية ينطلق جزئيًّا من حقيقة أن هذا التحول الشامل في نهج الكنيسة الكاثوليكية تجاه الأديان غير المسيحية لا ينجم من العقائد الأساسية للإيمان المسيحي كما هو منصوص عليه في الإنجيل أو الكتاب المقدس، بل وما يبدو أنه نتيجة للبراغماتية السياسية للكنيسة.

ويرجع تعزيز الحوار بين الأديان من قبل المنظمات والأفراد المرتبطين بالدين والتقاليد المسيحية، ولا سيما الكاثوليك لأربعة أسباب رئيسية:

أولاً: معالجة الصورة السلبية للمسيحية التي اكتسبتها في سياق الاستعمار الغربي والهولوكوست والهيمنة على العالم غير الغربي، ويسمح مبدأ الحوار بين الأديان للمسيحية بتجديد صورتها وتعزيز قبولها الاجتماعي في العالم من خلال الاعتراف بالدين غير المسيحي ك “شريك حوار”.

ثانيًا: مواجهة تحديات التهديد الناشئ للاشتراكية والشيوعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكما خضعت العديد من الدول الأوروبية المسيحية للوصاية السياسية للشيوعية السوفيتية آنذاك.

ثالثًا: إن النتائج السلبية المتصورة لفلسفة الحداثة – انهيار الأسرة، وتكثيف الصراعات والحروب، والانحدار الأخلاقي، وارتفاع مستوى عدم المساواة، وما إلى ذلك- وفرت السياق للكنيسة لإعادة تأسيس الدين باعتباره “خطابًا شرعيًّا بديلاً” لتنظيم الحياة البشرية التي مزقت خلال الثلاث مائة سنة الماضية من السيطرة والهيمنة العلمانية. ويساعد إطار الحوار بين الأديان بتركيزه على حل الصراعات والتعاون والتسامح والسلام والتنمية الاجتماعية على تحقيق هذا الهدف.

رابعًا: لقد استلزمت عملية إعادة تعددية الغرب، وخاصة أوروبا -التي بدأت تظهر في سياق موجات العمالة المهاجرة، وخاصة المهاجرين المسلمين، الذين تعاقدت معهم أوروبا لإعادة إعمارها في أعقاب فترة الحرب العالمية الثانية- الحاجة إلى حوار بين الأديان مع التركيز على الحوار المسيحي الإسلامي من أجل التعامل مع مشكلة “اندماج” مجتمع المهاجرين في المجتمع المضيف. وكما شجعت حكومات مختلفة في البلدان الأوروبية الحوار بين الأديان لمواجهة تحديات التعددية الدينية الناشئة.

والسبب الثاني للتردد في قبول الكنيسة الكامل للتقاليد الدينية غير المسيحية ربما يكمن في معالجتها الحصرية لمفهوم “الأنا” و “الآخر”.

والبناء الحصري ل “الأنا” و “الآخر” هو تصور ضيق لمفهوم “التسامح”، الذي يقوم عليه تفعيل الحوار بين الأديان، في التقاليد الفكرية الغربية التي تتطلب الشروط المسبقة التالية:

(أ) الهيمنة العلمانية المطلقة للدولة وفكرة المواطنة العلمانية في المجال العام (ب) التمييز بين الدين والدولة (ج) مفهوم الحرية الفردية والضمير (د) الفصل بين نظام المعرفة الدينية والعلمانية.

وفي إطار التسامح هذا، تقوم فكرة التسامح الديني على مبدأ الاستقلال الذاتي والضمير الفردي. وبالتالي فإن المفهوم الغربي للتسامح محدود للغاية لأنه يأخذ في الاعتبار فقط الفروق الفردية وليس الاختلافات الثقافية. وبالإضافة إلى القيود المذكورة أعلاه، يعاني نموذج الكنيسة للحوار بين الأديان أيضًا من كونه نخبويًّا ونصيًّا بطبيعته.

وخلافًا للنموذج المشترك بين الأديان للكنيسة الكاثوليكية ومبادرات الدول الغربية والمسلمين في هذا الصدد، لا تعاني مقاربة فتح الله غولن عن التعددية والتسامح والحوار بين الأديان من محدودية البراغماتية السياسية، ولا تقتصر على إطار العلاقة بين الأقلية والأغلبية، ولا تستسلم للتوتر المتأصل في “الأنا مقابل الآخر”.

بل على العكس من ذلك، فإن خطاب الأستاذ غولن حول الحوار بين الأديان متجذر في فكرته الإنسانية المعتمدة على الحب وهو الحوار، وبالتالي فهو خال من أي براغماتية سياسية. ومن هنا يمكن القول إنه مستقاة من إعادة قراءته الأخلاقية والمعنوية للرسالة العالمية للإسلام ويرتكز تمامًا على منظور حقوق الإنسان. فالحوار في فكر الأستاذ فتح الله غولن يتبلور كنتيجة طبيعية لإنسانيته والإنسانية عنده مستمدة من مذهب الحب والرحمة.

ودون انتقاد التجارب والمبادرات السابقة في مجال الحوار بين الأديان، سواء التابعة للكنيسة أو المبادرات الغربية، فإنه يرحب أولاً بدور الكنيسة والدول الغربية في تسهيل الحوار بين الأديان، والتعرف على القيود الهيكلية التي حالت دون أن يكون المسلمون جزءًا من مثل هذه الممارسة لفترة طويلة، والتي تشمل عوامل الهيمنة الغربية على أراضي المسلمين، الجدل المعادي للإسلام في الغرب، وظهور الإسلام السياسي وكذلك الشك الداخلي في المجتمع الإسلامي تجاه مبادرات الأديان للكنيسة والدول الغربية. ومن ثم فإن هذا التحول يحفز المجتمع المسلم على أن يكون في طليعة هذه الممارسة من حيث الوصية الواضحة للإسلام وفهم الإيمان. فكما قال بشكل قاطع: “—-إن المصادر الإسلامية الأولية تحث المسلمين على الخوض في الحوار مع الأديان الأخرى”.

وعلى الرغم من أن الأستاذ غولن يشيد الكنيسة واهتمامها الإنساني والأخلاقي ومحاولاتها نحوالحوار بين الأديان، أنه يقدم نموذجًا مستمدًّا من القرآن والسنة وأكثر شمولاً للحوار بين الأديان. وبعبارة أخرى، أن ما يمكن الأستاذ غولن من بناء نموذج شامل للحوار بين الأديان هو فهمه الشامل للإسلام ومبادئه ومعاييره وخطابه وتاريخه، وإيمانه بالهدف المشترك والقيم المشتركة لجميع التقاليد الدينية والحوار كقيمة أساسية للإنسانية.

فالحوار عنده ” يشكل نشاطًا ترابطيًّا بين شخصين أو أكثر. ولا يكمل هذا الترابط إلا بوضع الإنسان في محورالحوار. وبالتالي يصبح الحوار، في معناه الحقيقي “امتدادًا روحيًّا وواقعيًّا للإنسانية”، وينبع كنشاط بشري من الاعتراف بإنسانية الشخص دون مراعاة مشاعره وآرائه. فإن الحوار باعتباره “خطابًا محوره الإنسان”، في مقاربة الأستاذ غولن جزء لا يتجزأ من فهمه الإسلامي للبشر باعتبارهم نوابًا لله على الأرض. وهذا الفهم للبشر يخلق المساواة الأخلاقية لجميع البشر ويتطلب بالمساواة الأخلاقية بين الثقافات التي يمكن أن تتعلم من بعضها البعض على قدم المساواة. وهكذا، من خلال الاحتفاظ ب “الأنا” لله فقط و “الآخر” للبشر بأكملهم، يحل الأستاذ غولن الصراع الدائم بين “الأنا” و”الآخر” الموجود في الفلسفة الوضعية.

ويرى الأستاذ غولن أن ما يتوقع من البشر كخليفة لله في الأرض هو أن يعكس الصفات مثل السلام والعدالة والرحمة والمحبة والتعاون والاحترام وما إلى ذلك من أجل العيش في وئام مع بعضهم البعض. ويلفت الأستاذ غولن انتباه البشر بشكل عام والمسلمين بشكل خاص إلى “البسملة” التي اتخذها كنقطة انطلاق لتطوير مقاربته بشأن حوار الأديان حيث إن “البسملة” تنطوي على تكرار لاسمين من أسماء الله الحسنى”الرحمن الرحيم” ويستدل بهما على أن الله تعالى يدعو الناس كلهم إلى تطوير قيمة التعاون والتسامح والرحمة والمحبة تجاه بعضهم البعض.

ويرى الأستاذ غولن أن ما يتوقع من البشر كخليفة لله في الأرض هو أن يعكس الصفات مثل السلام والعدالة والرحمة والمحبة والتعاون والاحترام وما إلى ذلك من أجل العيش في وئام مع بعضهم البعض.

ويوكد الأستاذ غولن على ضرورة تنمية هذه القيم من أجل التعايش السلمي وتطوير فهم مشترك لأن الله خلق”مخلوقات متنوعة “عن قصد. وبالمعنى الأوسع، يعتمد التوازن في “مخلوقاته المتنوعة” على تنمية هذه القيم لأنها تضمن توازنًا دقيقًا بين مخلوقاته الحية وغير الحية على حد سواء حيث إنها كلها تتمتع بقدرات مختلفة. أما الحداثة الغربية -لا سيما تأثيراتها الوضعية والمادية المفرطة- قد هزت إلى حد كبير التوازن الإلهي المفترض بين الإنسان والطبيعة وقسمت أيضًا وحدة المعرفة بين العلوم الدينية والعلوم العلمانية التي أدت ولا تزال تؤدي إلى صراع وعنف مستوطنين بين الثقافات والحضارات والأديان. فإن دعوة الأستاذ غولن للحوار عامة والحوار بين الأديان خاصة موجهة جزئيًّا لاستعادة “التوازن الإلهي” بين الإنسان والطبيعة وتأمين وحدة نظام المعرفة.

ويتصورالأستاذ غولن هذا العالم المعولم كقرية لا يمكن فيها ضمان السلام والنظام إلا من خلال الالتزام بمبدأ الاحترام والتسامح مع الاختلافات وحرية التعبير. كما يقول، “ولم تزل توجد المعتقدات والأعراق والعادات والتقاليد المختلفة في هذه القرية. وكل فرد يشبه عالمًا فريدًا في حد ذاته. ولذلك فإن الرغبة في أن تكون البشرية جمعاء متشابهة مع بعضها البعض ليست إلا طلب شيء مستحيل. فلا يكمن سلام هذه القرية (العالمية) إلا في احترام هذه الاختلافات، واعتبارها جزءًا من طبيعتنا وفي دفع الناس كلهم إلى أن يقدروا هذه الاختلافات”.

ويجد الأستاذ غولن جذورأفكاره في ألآيات القرآنيه والسنة النبوية فيعتقد مثلاً أنّ الأديان السماويّة من وجهة نظر إسلاميّة هي واحدة بالأخص في مبادئها العامّة، وإنّما الاختلاف هو في التفاصيل التي اقتضتها الظروف، وبالتالي إنّ الإيمان بالإسلام لا يتحقّق إلا بالإيمان بسائر الأنبياء، والرسل السابقين ورسالتهم وكتبهم، ويستشهد بما جاء في محكم تنزيله: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة 136).

وتتمحور فكرة الأستاذ غولن عن حوار الأديان حول هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (سورة الحجرات: 49/13).

ويرى الأستاذ غولن أنّ الحوار ليس مجرد جهد إضافي وتكميلي، بل هو مبدأ من مبادئ الدّين ويستدل بما قيل في القرآن العظيم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون) (سورة آل عمران َ 64).

وكذلك يقدم الأستاذ غولن أمثلة كثيرة مستمدة من حياة رسولنا تدعو إلى التسامح وإقامة الحوار مع الآخرين كما يقف نبينا عليه الصلاة والسلام لجنــازة تمر من أمامه، فأخبروه بأنه يهودي، فقال “أليست نفسًا” ومن ذلك اســتقباله نصــارى نجــران فــي المســجد، وتوقيعــه صلح الحديبيــة مع المشــركين وما إلى ذلك.

ويوكد أنّ الحوار لا يقصد الحوار العقائديّ والوصول إلى صحّة أو بطلان معتقدات وأفكار الآخرين الدينية، بل يقتضي الاعتراف بالآخر والقبول به: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ*وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 1 – 6).

وهكذا، فإن فكرة الأستاذ غولن في الحوار والحوار بين الأديان تنبع مباشرة من فكرته عن “الدين” من حيث المصير المشترك، والإنسانية المشتركة. ولهذا السبب، يشدد غولن على العناصر “المشتركة” للتقاليد الدينية والحضارات والثقافات كأساس للحوار والعيش معًا. كما قال: “إن ما يشترك فيه الناس أكثر بكثير مما يفرقهم”.

بالإضافة إلى مفهوم الدين من حيث الإنسانية المشتركة والرسائل المشتركة لجميع التقاليد الدينية التي يستخدمها الأستاذ غولن للحوار بين الأديان، يبطل الأستاذ ادعاءات التفوق لأي مجتمع ديني في ضوء الآيات القرآنية وتقاليد النبي محمد من أجل توفير “أرضية متساوية” للحوار بين الأديان. ومن دراسة التاريخ يبدو أن تأكيد “أنا” على أنها “الأنا العليا المتمحورة حول الذات” ضد “الآخر” الأدنى المفترض هو مصدر الصراعات البشرية والبؤس والمعاناة.

وبعد أن حدد الأستاذ غولن الأساس الإسلامي والشروط الإسلامية للحوار بين الأديان، أعلن أن “الحوار بين الأديان أمر لا بد منه اليوم، والخطوة الأولى في تأسيسه هي نسيان الماضي، وتجاهل الحجج الجدلية، وإعطاء الأسبقية للنقاط المشتركة، التي يفوق عددها بكثير النقاط الجدلية.

“إن الإنسانية تمر الآن بعصر المعرفة والعلوم، وإن العلوم سوف تحكم العالم على نطاق أوسع في المستقبل، ولذلك فإن معتنقي الدين الإسلامي -بمبادئه التي يدعمها العقل والعلم- ينبغي ألا يتشككوا أو يجدوا أي صعوبة في محاورة معتنقي الأديان الأخرى”.

فاستيعاب فتح الله غولن لمفهومي البشرية والإنسانية يودي إلى مساواة وتوافق بين الذات والآخر ويقود إلى المحبة والتسامح والحوار. وترفض إنسانية عند فتح الله غولن قطعيًّا اعتبار الآخرين نقيضًا جدليًّا. وبدلاً من ذلك يقدم أنظمة تفكير وطريقة حياة تأخذ البشرية جمعاء كوحدة مكونة من “الذات والآخرين” وكموضوع للمحبة والحوار. وتدفعه هذه الفكرة إلى تقديم ثلاثة مراحل للحوار حسب ما يصف بعض المتخصصين. فالمرحلة الأولى هي قبول الآخرين مع مواقفهم الخاصة. والمرحلة الثانية هي احترام موقف الآخرين، والمرحلة الثالثة هي تقاسم التي تؤدي إلى الاندماج الاجتماعي بشكل أفضل. وفي هذا النموذج الحواري، لا يخلق الأستاذ غولن أي تسلسل هرمي للقيم داخل المسلمين أو حتى بين المسلمين وغير المسلمين.