علاقة العقل بالفلسفة

(الفارابي أنموذجًا)

حظى العقل كـ (قضية) من القضايا الفلسفية بالأهمية الكبيرة عند الكثير من الفلاسفة، سواءً كانوا قدماء أو معاصرين، وقديمًا بات مفهوم العقل في المرحلة التي سبقت أرسطو يحدوها كثير من الشك والتلبس، ولكن ما لبث أن جاء أرسطو، حيث وضع أول نظرية في العقل في تاريخ الفكر الفلسفي كله، إلا أن فلسفة العقل عند أبو نصر محمد الفارابي (874 – 950م) كان لها صفات قد تتفق تارة، وقد تختلف تارة أخرى، وذلك عما أورده الكثير من الفلاسفة، ممن سبقوه أو ممن أتوا بعده.

مؤسس الفلسفة الإسلامية

وشأنه شأن الفلاسفة الغربيين، حظي الفارابي بمكانة عظيمة، أثرت الحياة والفكر الإسلامي بثقافتها وفلسفتها، التي كانت تضاهي فلاسفة اليونان القدماء، كما يرى الفارابي أن علم الفلسفة هو فوق كافة العلوم، مؤكدًا على ذلك بقوله (وهذا العلم هو أقدم العلوم وأكملها رياسة، وسائر العلوم الأخرى، هي تحت رئاسة هذا العلم)، كما آمن بوحدة الحقيقة لاعتقاده أن الحقيقة الطبيعية الفلسفية واحدة، وليس هناك حقيقتان في موضوع واحد، بل هناك حقيقة واحدة، وهي التي كشف عنها أفلاطون وأرسطو، وعلى حسب رأي الفارابي فإن كل الفلسفات التي تقدم منظومة معرفية وجب عليها أن تحذو حذو أفلاطون وأرسطو.

ويؤكد على أن فلسفة أفلاطون هي عين فلسفة أرسطو، ومن أشهر مصنفاته كتاب حصر فيه أنواع وأصناف العلوم والذي أسماه (إحصاء العلوم) ولكونه كان مهتما بالمنطق وشارحا لمؤلفات أرسطو المنطقية، فقد سمي الفارابي بـ (المعلم الثاني) نسبة إلي المعلم الأول أرسطو، وهناك من يؤكد على أن الفارابي كان همزة الوصل بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية، وأن الإرث الأساسي للفلسفة الإسلامية تم تأسيسه على يديه وبفضل جهوده، هذا وقد عرف الفارابي أيضا الفلسفة على أنها هي (العلم بالموجودات بما هي موجودة)، وأخذ فلسفته من أرسطو وأفلاطون. إلخ، كونه كان من أجود الدارسين لكافة كتبهم وآرائهم، لكن فلسفته كانت ذات صبغة إسلامية شديدة الوضوح.

العقل النظري  والعقل العملي

في مجمل حديثه عن العقل في رسالة التنبيه أكد الفارابي على أن اسم العقل، قد يقع على الشيء الذي به يكون إدراك الإنسان، وبما يعني أن الإنسان بذلك العقل يدرك ويعلم الأشياء ويقوم بالتفرقة بينها، مؤكدًا على أنه جرت العادة من القدماء أن يسموه المنطق، وفي كتابه (الجمع بين رأيي الحكيمين) يقول الفارابي عن العقل (هو شيئ غير التجارب ومهما كانت هذه التجارب أكثر كانت النفس أتم عقلاً)، وحول مفهوم العقل النظري اعتمد الفارابي على ما ذكره أرسطو في التعريف بين أربعة عقول فيقول (وهو الذي يتم به جوهر النفس ويصير جوهرًا عقليًّا بالفعل) وينقسم العقل النظري إلي أربعة تقسيمات أولها العقل بالقوة، ثم العقل بالفعل، يليه العقل المستفاد، وأخيرًا العقل الفعَّال، ويؤكد الدكتور إبراهيم العاتي على أن ذلك التقسيم غير موجود في كتاب النفس لأرسطو، إلا في ترجمته الحديثة أو ترجمته العربية القديمة، وأن أرسطو لم يقم بالإشارة سوى إلى عقلين، هما العقل المنفعل والعقل الفعَّال، بينما جاء العقل عند الفارابي من تلك القوة الناطقة، والتي هي من قوى النفس الإنساني والنفس في الأجسام.

مشيرًا بذلك لقوى النفس الإنساني من خلال خمسة أقسام، أولها القوة الغازية، وهو ما يحدث فيه القوة التي بها يتغذى، ثم القوة الحاسمة وهي القوة التي يحس بها الملموس، يليها القوة المخيلة، وهي التي تركب المحسوسات مع بعضها البعض في تركيبات وتفصيلات مختلفة، فمنها الكاذبة ومنها الصادقة، مقترنًا بها نزوع نحو ما يتخيله، إضافة إلى القوة الناطقة والتي بها يكمن أن يعقل المعقولات وبها يمكن أن يميز بين الجميل والقبيح، وبها يحوز الصناعات والعلوم ويقترن بها كذلك نزوع نحو ما يعقله، وأخيرًا القوة النزوعية، والتي بها قد يمكن أن يشتاق المرء إلى شيء ما أو يبغضه، وفي تعريف أدق عرف الفارابي العقل النظري بقوله (هو قوة يحصل لنا بها بالطبع، لا ببحث ولا بقياس العلم اليقين بالمقدمات الكلية الضرورية، التي هي مبادئ العلوم، وذلك مثل علمنا أن الكل أعظم من جزئه وأن المقادير المساوية لمقدار واحد متساوية، وأشباه هذه المقدمات، وهذه هي التي منا نبتدئ، فنصير إلي علم سائر الموجودات النظرية، التي شأنها أن تكون موجودة لا بصنع الإنسان، وهذا العقل قد يكون بالقوة عندما لا تكون هذه الأوائل حاصلة له، فإذا حصلت صار له عقلاً بالفعل، وقوى استعداد لاستنباط ما بقي، وهذه القوة لا يمكن أن يقع لها خطأ فيما يحصل لها، بل جميع ما يقع لها من العلوم، صادق يقيني لا يمكن غيره).

وبخلاف ما سبق عرَّف الفارابي العقل العملي بأنه قوة، يحصل بها للإنسان عن كثرة تجارب الأشياء، وعن طول مشاهدة الأشياء المحسوسة يحدد بها مقدمات، يمكن بها الوقوف على ما ينبغي أن يؤثر أو يجتنب شيء من الأمور التي فعلها إلينا، وتلك المقدمات بعضها تصير كلية، تنطوي تحت كل واحدة منها أمر مما ينبغي أن يؤثر أو يجتنب، وبعضها مفردات وجزيئه تستعمل مثالات لما يريد الإنسان أن يقف عليه من الأمور التي لم يشاهدها، وهذا العقل إنما يكون عقلاً بالقوة ما دامت التجربة لم تحدث، ففي حالة حدوث التجارب وحفظها صار عقلاً بالفعل، ويتزايد هذا الفعل بازدياد وجود التجارب في كل سن من أسنان الإنسان في عمره.

العقل الإنساني والعقل الفعَّال

ميز الفارابي بين نوعين من العقول، أولها العقل الإنساني أو القوة الناطقة، وفيه قام بالتمييز اعتباريًا بين ثلاثة أنواع من العقول تندرج من الأدنى إلي الأعلى، وهي (العقل بالقوة والعقل بالفعل والعقل المستفاد)، والثاني كان العقل الفعال على اعتباره عقلاً كونيًّا يمثل آخر العقول المفارقة في نظرية الفيض، وعلى الرغم من كون العقل الفعال جوهرًا كليًّا وعقلاً مفارقًا، تفيض منه الحقائق الكلية والخلقية والميتافيزيقية على العقل الإنساني، لم يجعله الفارابي بعيدًا عن العقل الإنساني، لأنه عمد إلى إيضاح الوسائل التي يتم فيها الاتصال بين العقل الإنساني والعقل الفعَّال ليميز بين طريقتين، أولها طريقة التأمل النظري وهي نظرية الفيلسوف، وآخرها طريقة المتخيلة، وهي طريقة الأنبياء.

وعلى عكس تفسير أرسطو بأن العقل الفعال، بدا ملاصقًا بالعقل الإنساني، أكد الفارابي على أنه فصل فصلاً تامًّا عن العقل الإنساني، ليتبوأ مرتبة ثالثة في العقول المفارقة، وبذلك وظف العقل الفعَّال في نسقه الفلسفي من خلال رؤيته الخاصة ليكسبه دلالة وجودية ومعرفية ولتأثره بنظرية العقل الأرسطية، وأفاد من رسالة الأفروديسي في العقل، واستخدم بعض من مصطلحاتها في بعض الأحيان، كما أنه أفاد من شروح ثامسطيوس حتى اعتبرت قضية العقل عنده من أهم القضايا الفلسفية، التي عمل بجد على معالجتها، حيث أفرد الفارابي رسالة خاصة موسومة بـ (رسالة في العقل)، بجانب عدة مواضيع متفرقة وردت في ثنايا مؤلفاته.

أفعال الفضيلة واجتناب الرذيلة

حملت لفظة العقل عند الفارابي العديد من المعاني والدلالات، من أهمها الشيء الذي به يقول الجمهور في الإنسان إنه عاقل، والعقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقولون هذا ما يوجبه العقل وينفيه العقل، والعقل الذي يذكره الأستاذ أرسطاليس في كتاب البرهان، والعقل الذي يذكره أرسطو بالمقالة السادسة من كتاب الأخلاق، والعقل الذي يذكره أرسطو في كتاب النفس، والعقل الذي يذكره أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة، وتعني لفظة عقل في المعنى الأول، وهو التعقل لدى الجمهور كدلالة، والعقل من كان فاضلاً وجيه الرؤية، في استنباط ما ينبغي أن يؤثر من خير أو يتجنب من شر، والعقل من خلال ذلك المعنى أداة لفعل الخير، وتجنب الشر، ولذا؛ فهو يتطابق مع الرأي الأرسطي بالمعنى الكلي والقائم على التمييز، بين ما هو خير وما هو شر.

ما يعني أن العاقل هو الذي يستعمل جودة رؤيته في أفعال الفضيلة ليفعل، وفي أفعال الرذيلة ليتجنب، وعن العقل في المعنى الثاني الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم، فيقولون في الشيء هذا ما يوجبه أو ينفيه العقل أو يقبله العقل أو لا يقبله العقل، وهذا المعني قائم على قاعدة السلب والإيجاب، مستندًا إلى فكره السائد بين الجمهور والناس أو الشائع في بادئ رأي الجميع، وذلك على غرار الآراء الأكثر شيوعًا وشهرة عند كافة الناس، أو عند الجزء الأكبر منهم، أو عند العلماء منهم، والمعنى قائم أيضًا على ما يعرف بقاعدة الإجماع، أو ما يسميه الفارابي الرأي المشترك عند الجميع، لكن العقل الذي يذكره أرسطو بكتاب التحليلات الثانوية هو ما يعني قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدمات الكلية الصادقة والضرورية، لا عن قياس أصلاً، ولا عن فكر بل بالنظر والطبع، وتلك القوة جزء ما من النفس تحصل لها المعرفة الأولى، لا بفكر ولا بتأمل أساسًا.

وذلك المعنى هو إدراك طبيعي للمبادئ الأولية الضرورية في المعرفة الإنسانية، وعن المعنى الخامس الذي ذكره أرسطو في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق وعلى حد تعبير الفارابي إنما هو العقل العملي، الذي يخضع للإرادة في معرفة ما ينبغي أن يفعل، أو ما يجب الابتعاد عنه، ومن مزايا ذلك العقل استناده للمعرفة التراكمية في مسائل التطبيق أو الممارسة، وعليه يختلف الناس في ذلك العقل وفقًا لكثرة ممارساتهم أو لندرتها وما يكتسبونه من قدرات بتلك الممارسة، ما يعني أن العقل من خلال ذلك المعني، يقوم على الخبرة الشخصية للإنسان في مدة زمنية طويلة في حياته، وهي الفطنة الأخلاقية التي تمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر، وبذلك يتضح أن دلالة العقل الرابعة تتطابق مع دلالة العقل الأولى، بينما المعنى الخامس للعقل هي أهم معاني العقل من ناحية الدلالة الفلسفية، والتي أشار إليها أرسطو في كتاب النفس، وعلى ذلك قام الفارابي بتأسيس نظريته الخاصة في العقل.

 

المصادر

(1) فلسفة العقل لدى الفارابي/ ويكيبيديا – الموسوعة الحرة.

(2) رسالة في العقل أبو نصر الفارابي ط 1/ موريس بويج – المطبعة الكاثوليكية– (بيروت) 1938م.

(3) نظرية العقل عند الفارابي/ د – سليمان الضاهر/ مجلة جامعة دمشق (مجلد 30) عدد (1 – 2) 2014م

(4) نظرية الإنسان في فلسفة الفارابي/ محمد قشيقش – دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع/ بيروت 2011م.

(5) كتاب العقل النظري عند الفارابي/ على محمد كريم – معهد العلوم الاجتماعية للدراسات العلىا – وان (تركيا) 2017م.

(6) معاني ومراتب العقل في فلسفة الفارابي/ محمد جلال – مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث 20/7/2022م.