تميز البحث التاريخي في الوطن العربي خلال العقود الأخيرة بالتطور سواء من الناحية الكمية أو الكيفية، فقد تعددت الأبحاث مع تعدد المؤسسات الجامعية، وتكاثر عدد الباحثين في ميدان التاريخ بمختلف تخصصاته (قديم، وسيط، حديث، معاصر)، كما توزعت جهود المؤرخين العرب في اتجاهات كثيرة، مست ما هو عسكري وسياسي وديني وديمغرافي واجتماعي واقتصادي وذهني، إلا أن هذا التطور لم يشمل بعد فتح العديد من أوراش البحث التاريخي، التي يصعب حصرها، والتي لا تزال بِكْرًا، كما هو الحال بالنسبة للبحث في تاريخ المُهَمَّشين.
إلا أن مجموعة من الباحثين العرب سارعوا بجدهم واجتهادهم وتكوينهم المتميز في تسليط المزيد من الأضواء على مواضيع ظلت في الأمس القريب ضمن المسكوت عنه في التاريخ العربي، مستعينين بخلفية منهجية ونظريات أوربية فيما اصطلح عليه ب “التاريخ الجديد” الذي قاده ثلة من المؤرخين الأوربيين أمثال لوسيان فافر ومارك بلوخ، وهذا المسار المستحدث هو بمثابة “تاريخ من أسفل” أي أنه يركز على دراسة تاريخ المجتمعات المهمشة ومعتقداتهم وسلوكهم وحياتهم اليومية…
ولتطوير البحث في تاريخ المهمشين في الوطن العربي يمكن حصر آفاقه المستقبلية في ثلاث جوانب رئيسية، يتمثل الجانب الأول في ضرورة تكثيف الجهود للانتقال من استثمار المصادر التاريخية الإرادية إلى المصادر اللاإرادية، أو كما يسميها البعض بالمصادر الدفينة، ونقصد بها كتب النوازل والفتاوى وكتب الطبقات والتراجم والرحلات والأمثال الشعبية…
فمثلاً كتب التراجم والمناقب تتحدث في صفحاتها عن فئات المهمشين، وكتب الرحلات والجغرافية، تبرز الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لتجمعات السكان، وكتب النوازل كثيرًا ما تفصل في طبيعة العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية بين الأفراد والجماعات، وكتب البدع تعرض العديد من الممارسات والتقاليد، وهي بذلك تقدم معلومات مفيدة للغاية عن الحياة اليومية لهذه الفئات المهمشة، علاوة على كتب الفقه والحديث واللغة، وكتب النوادر…
كما يمكن استثمار الوثائق المجازية، ونقصد بها الأسطورة والحلم والأهازيج الغنائية والفلكلور وحركات الرقص…، فضلاً عن الوثائق الأخرى “الواقعية” مثل شواهد القبور ولوائح دفن الموتى وقوائم النذور ونصوص الوصايا وعقود الأكرية وسجلات العقارات…، وأيضًا يمكن الرجوع إلى ما يعرف ب “الكتب الصفراء” من قبيل مصنفات السحر والتعاويذ والجداول الفقهية ورسوم الأسود والأفاعي، وتوظيف الأمثال الشعبية والنكتة والحكايات الخرافية، وكتب الطبخ…، وكل ما له صلة بالمعيش اليومي في حياة الناس أو يمس حياة الجماعات المجهولة، فهذه المصادر أصبحت توفر نصوصًا ذات قيمة كبرى لمؤرخ الفئات المهمشة.
أما الجانب الثاني فيتجلى في ضرورة اقتناع المؤرخين الشباب، بالانتقال من التاريخ السلطاني الرسمي إلى تاريخ المجالات الجغرافية الهامشية والجماعات المهمشة، وذلك بتنويع الرؤية والأدوات المنهجية تبعًا لتغيير نوعية الشخصيات والأماكن والأزمنة، وحقول البحث ومجالاته، وستلزم هذا الانتقال مناهج متعددة بسبب مجموعة من “الارتحالات” التي عليه أن يقوم بها، والتي يمكن إبرازها كما يلي:
– ارتحال على مستوى الزمن: يرتحل المؤرخ من الزمن الخلافي أو الأميري أو الأسري المرتبط بالسنوات والقرون، إلى الزمن الاجتماعي الذي تتداخل فيه أزمنة قطاعية متعددة يفرضها تغير الذهنيات والمواقف من الكوارث الطبيعية والأوبئة والأمراض من قبيل: زمن البركة، زمن الخوف من الطاعون، زمن العبيد والإماء، زمن البركة، زمن الكرامات…، إنه ارتحال من الزمن التقليدي المتجانس والمتصاعد، إلى الزمن كظاهرة اجتماعية متشابكة، وهو كذلك ارتحال من الزمن القصير الأمد إلى الزمن الطويل.
– ارتحال على مستوى المكان: يتم ارتحال المؤرخ من أروقة البلاط وصالونات البرلمانات والمكاتب الوزارية، إلى المزارع وأرصفة الطرقات والساحات العمومية والكهوف والأماكن المهجورة ومن الحواضر ودوائر العمران، إلى البوادي والقفار والجبال والأماكن المنعزلة النائية، ومن المركز إلى الهامش.
– ارتحال على مستوى الأشخاص المؤرخ لهم: تحول المؤرخ من دراسة رموز السلطة وعلية القوم وطبقات الأعيان، إلى دراسة التعساء والمجهولين والمتسولين والخدم والعبيد والبهاليل…، فضلاً عن الذين عصفت بهم نوائب الدهر، فتحولوا من قمة الهرم إلى شخصيات منبوذة.
– ارتحال على مستوى الجنس: يترحل مؤرخ المهمشين من المجتمع الذكوري الذي يكون فيه الرجل محور النص ونقطة ارتكاز الحدث، ومن الوسط الذي تسود فيه قيم الرجولة والبطولة والمعارك والثورات، إلى العالم الأنثوي الذي يستقطب اهتمامات مغايرة كالجمال وعقلية المرأة ومشاعرها…
– ارتحال بين المجال الشرعي والفضاء المحظور: إن التأريخ للمهمشين يلزم المؤرخ بالارتحال من المجال الشرعي المألوف، إلى الفضاء المحرم الذي يغلق المجتمع أبوابه في وجهه، ويحظر تداوله كمجال البغاء والدعارة والرشوة وشرب الخمر والسحر والشعوذة…، التي كان التاريخ السلطاني يعتبرها من الخانات المُسيجة التي لا يسمح بالاقتراب منها.
– ارتحال على المستوى الثقافي والحضاري: يبحر المؤرخ في سياق الصفة الثقافية للمؤَرَّخ لهم من عالم النخبة العالمة، نحو عالم الأميين ليكتب عن تاريخ أُناس لا يعرفون القراءة والكتابة، كما يرتحل تبعًا لذلك من مجال الثقافة المكتوبة إلى الثقافة الشفهية بكل تمثلاتها، وفي ذات الوقت نجده يرتحل من تاريخ الأكثرية إلى تاريخ الأقليات الإثنية، والطوائف الدينية التي طالها التهميش، إنه بتعبير آخر ارتحال من تاريخ الغالب إلى تاريخ المغلوب.
– ارتحال على مستوى حقول البحث: في تأريخه للهامش والمهمش يرتحل المؤرخ أيضًا من مجال القرار السياسي والمعاهدات الدبلوماسية إلى مجال تحليل الآليات الذهنية المعقدة التي تروم دراسة المشاعر والسيكولوجية الجماعية، وتفاعل الإنسان مع الطبيعة ومع وسطه البيئي والسلوكي، فتطرح مواضيع جديدة من قبيل: الحب والجنون والعواطف والسلوكيات المرتبطة بالكوارث والأمراض والأوبئة والزلازل والمجاعات والفيضانات، والموقف من الأزمات ومن الموت…، كما يجب الاهتمام كذلك بالمواضيع ذات الصلة بالتغذية واللباس والجسد أو القضايا التواصلية كاللغة…، وعلى المستوى الاقتصادي يجب أن تتجه بوصلة المؤرخ من البحث في الإنتاج الاقتصادي، إلى دراسة الإنسان في علاقته بالآلة ووسائل العمل، ومن رصد المنتوج المادي، إلى البحث عن قيمته وموقعه من الثروات الوطنية ومستوى المعيشة وكيفية استهلاك الإنسان له.
وأخيرًا الجانب الثالث يتمظهر في ضرورة تشجيع الدراسات الأكاديمية بمختلف الجامعات العربية، للنبش أكثر في تاريخ المهمشين، سواء في إطار مشاريع بحوث شهادة الإجازة، أو رسائل الماستر، أو أطاريح الدكتوراه، لكي تتضح الصورة أكثر عن ماضينا الاجتماعي والذهني والاقتصادي، الذي لا زال يعتريه غموض في زوايا متعددة.
المراجع المعتمدة:
– القادري بوتشيش إبراهيم، “من التاريخ السلطاني إلى تاريخ المهمشين: نظرات في تجديد الأدوات المنهجية للمؤرخ”، مقال منشور ضمن أعمال مؤتمر: دراسة المجالات الاجتماعية المهمشة في تاريخ المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية -ابن مسيك-، مختبر المغرب والعوالم المغربية، الدار البيضاء، 2011.
– القادري بوتشيش إبراهيم، “إسهامات في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لمدينة مكناس خلال العصر الوسيط”، منشورات عمادة جامعة مولاي إسماعيل، مكناس، 1997.
– المنوني محمد، “الكتابة التاريخية عند العرب”، مجلة الفكر العربي، العدد.2، يوليوز- غشت 1978.