حراسة الأجسام

المتأمل في تكوين ووظائف الجسم يجد أنه لم يُترك مرتعًا لأعدائه المتربصين به، بل حباه الله تعالى بحرس عتيد. وفي الحروب، ذو بأس شديد. وهذا “النظام الأمني” قد استبان بعض جوانبه، وقد يخفي الكثير، لكنه اليوم كعلم وتطبيقات، احتل مكانة بارزة، وأصبح مثار اهتمام كبير، ودهشة بالغة. الجسم البشري يشبه “دولة هائلة الحجم، فائقة النظام”. لديه جيش دفاع ينتظم في عدة خطوط وأصناف مُدربة ومتخصصة. فأول الخطوط الخارجية: الجلد، وما عليه. جهاز عازل واقٍ ضد أغلب الميكروبات، فلا تستطيع اختراقه إلا نادرًا. وعندما يتحطم هذا “الحصن المنيع” بجروح، وقروح، وحروق فإن أعداء الخارج يجدونها فرصة سانحة للغزو. فتحدث معارك داخلية أخرى. كما نجد في العرق الملحي، والإفرازات الدهنية. ترطيب، ووقاية.. ويمنع الحاجبان تساقط حبات العرق داخل العينين، لكن حراسها اليقظين المدافعين عنها دومًا هم الجفون. وما تحمله من رموش، تقيها من الأجسام الدقيقة، والأتربة، والضوء الزائد (تغلق الجفون تلقائيًّا مرة كل ست ثوان تقريبًا). وتحتوي الدموع (بتركيبها الفذ) على مضادات للبكتريا كالليسوزيمlysozyme.  فتحافظ على صحة العين، وتقيها من الميكروبات، وتحمي، باستمرار رطوبة العين من الجفاف. أما الجُدر المحصنة من الأغشية المُبطنة الموجودة بالأنف والجيوب الأنفية والبلعوم والقصبة الهوائية والشعبتين. فتصفي وتنقي الهواء مما يعلق به، وترشحه من الغبار، وتدفئه ليتناسب مع درجة حرارة الجسم. وتحافظ على نسبة الرطوبة المناسبة فيه. وذلك عبر الشعيرات والأغشية المخاطية والمخاط، وبلايين من الخلايا ذات الأهداب (مكانس حية). فضلاً عن مواد تشل نمو الكائنات الدقيقة وتمنع انتشارها، وأحيانًا تُميتها. وإذا ما حدث تهيج ما فيأتي السعال (العطس) ليطرد بقوته الميكانيكية عددًا هائلاً من العوالق، والميكروبات. وبالجهاز الهضمي أغشية قوية واقية.. ابتداءً من الفم، والبلعوم، والمعدة، والأمعاء. ويحتوي اللعاب موادًّا قاتلة للميكروبات. ولا تستطيع أغلبها أن تعيش في بيئة عصارات المعدة الحمضية. وفي إفراز الصفراء من الحويصلة المرارية.. وقاية وتحصين. أما في الأمعاء فتقوم الميكروبات المفيدة والمتعايشة معنا في وئام بمنع نمو الأنواع المُسببة للأمراض. فإذا أراد سبحانه تعالى، لحكمته، أن تنقلب هذه الأنواع المفيدة إلى أخرى ضارة، فلا راد لإرادته، ولا مُعقب على مشيئته. وفي الجهاز البولي التناسلي.. توجد أغشية طلائية وواقية للمثانة ومجرى البول. ولا تنمو معظم الميكروبات نتيجة حامضية البول، ووجود مادة البولينا فيه. فالبول الطبيعي السليم مُعقم Sterile/ خال من الميكروبات. وإفرازات المهبل الحامضية (وتعود لميكروبات صديقة) تقتل كثيرًا من الميكروبات الضارة، فتعمل على حماية الجهاز التناسلي للمرأة. وكذلك تفعل إفرازات البروستاتا في الرجال جهاز مناعي عجيب لغةً.. كلمة المناعة/ الحصانة Immunity، أو علمها Immunology مشتقة من اللاتينية Imunis وتعني: “منع الشيء منعًا، فهو خالٍ من العلل”. ويتشابه هذا الأصل اللاتيني ـ صوتًا ومعنىً مع الألفاظ العربية: “أمِن”، “يأمن”، و”آمن” أي: “عدم وجود ما يُخشى منه”. واصطلاحًا.. تدل “المناعة”: “على عدم تمكين ملايين من أعداء الأجسام من اختراقها لتُحدث بها ما تُحدت من أمراض”. وقد لاحظت شعوب كثيرة أن من نجوا من جائحات خطيرة لم يصابوا بها بعد ذلك. وفي اليونان القديمة من نجا من طاعون “بيلوبونسيان” لم يصب به ثانية. وبدأ البشر في استخلاص مواد من البثور التي يسببها الجدري وحقنها في آخرين ليقيهم المرض (مناعة مُكتسبة). ولما طاف وباء الطاعون/ الموت الأسود بالأندلس في ربيع 1347م، رصده “أبو جعفر أحمد بن خاتمه الأندلسي” (1307ـ 1369م). وراقب سيره، وعرّفه، ورصد أسبابه وأعراضه وانتقاله “بالعدوى”. وشاهد المصابين به، وذكر كيفية التحرز منه، وعلاجه إذا نزل. وسجل ملاحظاته ومشاهداته تلك بعد عامين من انتشاره في كتاب وحيد له في الطب عنوانه: “تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد”. وفيه يؤكد بوضوح علمي على نظرية انتقال “عدوى الطاعون” بالمخالطة: “وكما أن الضرر يحصل من تلقي أنفاسهم، فكذلك يحصل من الأبخرة المتصاعدة من أبدانهم.. وكذلك من استعمال ملابسهم وفرشهم التي تقلبوا فيها زمن مرضهم، ذلك يشهد له العلم والتجربة.. ولقد شاهدت أهل سوق “المرية” الذي يبيعون بها ملابس الموتى وفرشهم مات أكثرهم، ولم يسلم منهم إلا الأقل”. كما لا ينسى علم المناعة فضل العالم الفرنسي “لويس باستور”L. Pasteur (1822- 1895) الذي اكتشف عددًا من الميكروبات. وكان له سبق في التطعيم والتلقيح ضد عدد من الأمراض، وبخاصة اللقاح ضد داء الكلِب Rabies. ثم يومًا بعد يوم تزايدت المعارف بهذا الجهاز المناعي العجيب. وحظي جهاز المناعة باهتمام بالغ، لأسباب منها: الانتشار الدرامي لمرض نقص المناعة المكتسب (AIDS). وزيادة أمراض التحسس المناعية ضد الذات Auto immune diseases. وإمكانية تطويع الجهاز المناعي في علاج الأمراض. فضلاً عن تحسين نتائج زراعة الأعضاء، وعدم رفض الجسم لها. يعمل الجهاز الأمني القوي على التحري والتعرف على مسبب المرض. فيرصد ويلتقط أي تغير كيمائي يطرأ على تركيب المواد المسببة لتنشيط خلاياه. وهو ما يعرف بـ “التخصص”، كما له خاصية أرشفة “ذاكرته” بصورة قوية فعند مواجهة الجسم الثانية مع مسبب مرضي تصل الأجسام المناعية لذروتها في وقت أقل مما أخذته عند المواجهة الأولى. أما الخاصية الثالثة فهي تمييز جهازنا المناعي بين “الأصيل، والدخيل”، بين “المواطن، والمتسلل”، بين “ذواتنا، والأغيار” علينا. كي لا تعم مشاكل وأمراض المناعة الذاتية Auto immune diseases. للجنين مَنعته، ومناعته منذ بدايات تكوين الإنسان جنينًا له جهاز “أمن وقائي” يتمثل في الأغشية المشيمية التي تقيه أغلب الميكروبات والمواد الضارة. كما جعل له من مواد وأجسام المناعة التي تعطيها له الأم (عبر الحبل السري، والدورة الدموية الجنينية) ما يقيه أعدائه أثناء الحمل وعقب الولادة. حتى يعتمد على جهازه المناعي “المتنامي” الذاتي. فبواكير حليب الأم (اللبأ/ السرسوب) به كميات وافرة من الأجسام المناعية “كحائط صد” تساعد الطفل حديث الولادة على مقاومة هجوم الكائنات الدقيقة. وسائل المناعة يعمل جهاز المناعة بروح الفريق، وكجوقة موسيقية”. فلكلِ عضو وخلية وظيفته محددة، و”عزف باهر” منفرد. لكن، مع الجماعة، ودون “نشاز”. هذه الوظائف ترتبط، إيجابًا وسلبًا، بوظائف أعضاء وخلايا أخرى. فهناك الأعضاء الليمفاوية المركزية، وتشمل نخاع العظام. وهو مصنع لتكوين خلايا الدم البيضاء (بأنواعها المختلفة)، وخلايا الدم الحمراء، والصفائح الدموية. وهناك الغدة الثيموسية Thymus خلف عظمة القص. وتتكون في الجنين، ويكتمل نموها عند الولادة، وأقصى حجم لها عند البلوغ. وفيها تبدأ الخلايا الليمفاوية التائية T. Lymphocytes في التخصص. وتصبح مسئولة عن استجابة الخلايا المناعية، وعليها التعرف والتمييز بين الخلايا الخاصة بالجسم، وتلك المناوئة له. أما الأعضاء الليمفاوية الطرفية: بعد أن تخرج الخلايا الليمفاوية من النخاع العظمي وتتخصص في الغدة الثيموسية، وتصل إلى الدم ومنه إلى الأنسجة والطحال. ثم تصل إلى الغدد الليمفاوية الموزعة في أماكن مختلفة (كاللوزتين). وفي الأعضاء الليمفاوية الطرفية تتمركز الخلايا في أماكن مٌقدرة مخصصة لكل نوع منها. أما نصف الجيش المناعي الدفاعي الاخر فهو الخلايا. وتشمل: الخلايا الآكلة، والخلايا اليمفاوية (البلغمية)، وخلايا الدم البيضاء، ومصل الدم، وبروتيناته الخاصة بالمقاومة ضد الأعداء. فالخلايا الآكلة Phagocytic Cells تقوم ببلع الميكروبات، وهضمها، وقتلها. وفي الجسم نوعان من هذه الخلايا الآكلة وهي الخلايا الكبيرة الحجم Macrophages، والخلايا متعددة الأنوية من خلايا الدم البيضاء Polymorph nuclear Leucocytes. وتعتبر الخلايا ذات النواة الواحدة Monocytes الموجودة في الدم من الخلايا الآكلة كبيرة الحجم. وبمجرد دخول الميكروب الجسم فتصدر مواد كيمائية تجب الخلايا الآكلة إلى موقعه فتسرع لمحاربته ومقاتلته. وما الصديد إلا جثث القتلى من الميكروبات وجثث هذه الخلايا الاكلة التي استشهدت في ميدان المعركة.. دفاعًا عن أجسامنا. لكن بعض أنواع الميكروبات تستطيع أن تعيش داخل الخلايا الآكلة (مثل ميكروبات السل، والجذام، والسيلان، ومن وحيدات الخلية مثل الليمشانيا والترابانوسوما) بل، وقد تتكاثر بداخلها. وللفيروسات عمومًا تلكم الخاصية في استعمار هذه الخلايا. أما الخلايا اليمفاوية Lymphocytes فمنتشرة في الدم وفي أنسجة الجسم. وتندرج تحت قسمين: فصيلة الخلايا التائية “T. cells” ومصدرها التيموسية. وفصيلة الخلايا البائية “B. cells”، ومصدرها نخاع (نقي) العظام. والخلايا التائية عدة أنواع ولكل منها وظيفته الخاصة، منها: الخلايا التائية المتعرفة على الميكروب وتهاجم الجسم الغريب. والخلايا التائية المنشطة: T. helper cells والتي من وظائفها تنشيط ومساعدة الخلايا البائية التي تنتج بأمر منها أجساما مضادة تتولى الفتك بالميكروبات. وهناك الخلايا التائية المقيدة T. suppressor cells وتضع حدا للنشاط الزائد عن الحاجة لجهاز المناعة. وتكون نسبة الخلايا التائية المنشطة إلى المقيدة “2: 1”. أما الخلايا البائية “B. cells” فمختصه بشكل رئيس بصناعة قذائف صاروخية مضادة للميكروبات المهاجمة، والأجسام الغريبة. وتعمل بأمر من الخلايا التائية المنشطة. فإذا ما دخل الميكروب تعرفت عليه ونفرت إليه، وتعرفت عليه وصنعت له القذيفة المضادة له. وتمتاز هذه الخلايا بذاكرة عجيبة. فتعرف شكل كل عدو وسلاحه المضاد، وتفرزه شكلاً ومضمونًا وقدرًاـ كل مرة يحاول فيها الغزو. فتتكاثر بسرعة رهيبة ومن ثم تحاصره، وتنهال عليه بالقذائف، فتتلفه. ولا يفلت منها إلا أن يشاء الله فيجعل لذلك الميكروب قدرة على صنع أسلحة مضادة لهذا القذائف الصاروخية. فتكون المعركة عندئذ رهيبة ومنتشرة ساحتها أنسجة الجسم وخلاياه. ويكتب الله الغلبة والنصر لمن يشاء من خلقه. ثم هناك حرس عتيد من خلايا “ماسحة كانسة” عليها ابتلاع كل الضحايا التي سقطت في ميدان المعركة “الجسم المضاد، والميكروب المهاجم” وتنظف ساحة الميدان منهما جميعًا. وتوجد “ترسانة” متخصصة صاروخية من البروتينات “الحربية” جاما جلوبيولين Gammaglobulin، أو الأجسام المضادة Antibodies. ومن الوسائط البروتينية المفرزة من بعض خلايا الجهاز.. الأنترفيرونات Interferones التي تعتبر صواريخ مضادة للفيروسات.

جملة القول: على قدر ما يتأمل المرء ويتدبر بديع صنع الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس يزدد إيمانًا ويقينًا: “وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ” (سورة الذاريات:20-21). فتحسن بذلك معرفته بربه وخالقه، وتكثر عباداته، وتحسن معاملاته مع سائر البشر. إذ لا يُتصور حسن سير إلي الله تعالي إلا بعد تأمل وتدبر، ومعرفة وإدراك.