الفطريات ضارة أم نافعة؟

الفطريات، هي الكائنات الدقيقة الجسم، العظيمة التأثير في كوكبنا الأزرق، التي تتخلل نظامنا البيئي وتحافظ على توازنه، حيث تقوم بتحليل المركبات العضوية المعقدة إلى مكوناتها البسيطة، وتحمينا -مع غيرها من الكائنات الدقيقة- من تراكم المخلفات العضوية في الطبيعة، ومن ثم من التلوث. ويكاد لا يمر يوم لا نجني فيه منفعة من الفطريات، أو يصيبنا ضرر منها، فمنها الطعام الشهي، والدواء الشافي، والمنتجات النافعة، وفي نفس الوقت تسبب أمراضًا كثيرة للنباتات والحيوانات والإنسان.

أساطير وخرافات حول الفطريات

كان القدماء يلاحظون وجود أمراض على الغلال، فكانوا يعزونها غالبًا إلى الأرواح الشريرة والسحر، أو عدم رضا الآلهة. فكانوا يقدمون القرابين لتزول اللعنة وتسلم زراعاتهم من الأمراض. وتناقلت الأجيال هذه الخرافات لتصبح عقيدة ثابتة حتى نهاية القرن الثامن عشر. وظل الأمر غامضًا حتى عام 1853، وهو العام الذي يمثل مولد علم أمراض النبات على يد العالم “أنتون دي باري” (Anton de Bary)، عندما نشر أبحاثه التي أوضح فيها أن بعض الفطريات تسبب أمراضًا للنباتات، مثل الفطريات المسببة لأمراض الصدأ، والتفحم لمحاصيل الغلال. وبالرغم من أن دراسة الفطريات لم تبدأ إلا منذ أقل من ثلاثة قرون، إلا أن الإنسان تعرَّف على نشاطها الحيوي منذ فجر التاريخ، وأظهر العلم الحديث بعد ذلك بآلاف السنين دور فطر الخميرة في عملية التخمر.

حوادث تاريخية غامضة

في القرن الثامن عشر، كانت حوادث غريبة تقع في قصور الأمراء والنبلاء ببعض الدول الأوروبية، كانت الفطريات أشبه بالسفاح الذي يختار فصل الشتاء ليقوم بجرائمه، وكانت تقع حوادث تسمم زرنيخي غامضة الأسباب برغم كل الاحتياطات الأمنية والصحية. وأثبت العلم بعد ذلك أن الفطريات -حتى مع استخدام المبيدات الفتاكة- لا يمكن القضاء عليها بشكل تام، إذ المبيد الذي يصلح لمقاومة فطر ما، بمنطقة ما، وعلى محصول معين، لا ينجح استخدامه لمقاومة فطر آخر. وتفقد الكثير من المبيدات فاعليتها بالتقادم، إذ تكتسب الفطريات مناعة ضدها، فيضطر العلماء لاختراع أنواع أخرى.. وتستمر هذه الدائرة المعقدة التي تحمل في طياتها تلوثًا شديدًا لغذائنا وبيئتنا.

في أيرلندا عام 1845، حدثت مجاعة رهيبة بسبب الهلاك الذي حل بمحصول البطاطس، المحصول الرئيسي الذي يعتمد عليه السكان في التغذية. وتسببت المجاعة في وفاة مليون شخص نتيجة سوء التغذية، وهاجر نحو مليون نسمة إلى أمريكا، وتكرر الأمر ببعض دول أوروبا. وكالعادة امتدت أصابع الاتهام إلى أشياء غير عقلانية، لكن السبب كان هو فطر (اللفحة المتأخرة) الذي أصاب البطاطس. تحير العلماء في تفسير تسلل الفطريات إلى عدسات المناظير المحكمة الغلق، واتضح أن حشرات ضئيلة تَنْدَسّ في فجواتها الصغيرة وتموت في مكمنها، فتنمو جراثيم الفطريات عليها، وتتفرع خيوطها في كل اتجاه حتى تصل إلى العدسات، وتثبت نفسها على سطحها الأملس، فتحدث بها حفرًا دقيقة وتجعلها غير صالحة للاستخدام.

ما هو الفطر؟

الفطر كائن حي دقيق خالٍ من “الكلوروفيل”، فهو غير ذاتي التغذية، ويعتمد في غذائه غالبًا على تحليل المواد العضوية بواسطة إنزيمات يفرزها، على عكس النباتات الراقية التي تصنع غذاءها بواسطة التمثيل الضوئي. وتعيش أنواع أخرى من الفطريات، متطفلة على النباتات أو الحيوانات أو الإنسان. وأرقى الفطريات هو فطر “عيش الغراب”، ويطلق عامة الناس على الفطر لفظ “العفن”. ومن الشائع مشاهدة العفن على ثمرة خضار أو فاكهة متعفنة أو رغيف خبز في حالة تعفن، حيث يظهر على هيئة عفن أسود أو أخضر أو أزرق أو أبيض حسب نوعه. وينشط الفطر في وجود الرطوبة وسوء التهوية. والفطريات تتبع المملكة النباتية ضمن شعبة الكائنات الأولية النباتية، ويوجد نحو مائة ألف نوع منها. وعند النظر إلى الفطر تحت الميكروسكوب، نرى عالَمًا عجيبًا، فهذه الخيوط الضئيلة الهشة التي ينسجها تنتشر وتتكاثر، وعند وقوعها على مادة معينة، تنبت مكونة خيوطًا فطرية، وتتفرع مكونة مستعمرة فطرية يطلق عليها “النسيج الفطري”.

الفطريات تتغذى على كل شيء

على الرغم من أن تركيب معظم الفطريات بدائي جدًّا، إلا أن قدراتها الغذائية تتفوق على قدراتنا، حيث تستطيع أن تعيش على أبسط المواد وأعقدها. تستطيع -مثلاً- أن تتغذى على الخشب الرطب وتهضمه بإفراز إنزيمات معينة عليه، وتحلله إلى مواد سكرية تمتصها لتعطيها الطاقة. ولديها القدرة -في وجود الرطوبة المناسبة- على تفتيت جلود الأحذية بتكوين مستعمرات فطرية عليها، وإفراز إنزيمات معينة تحلل مكونات الجلود وتمتصها. ويمكن أن نجد العفن الفطري ناسجًا خيوطه المنتفشة على جذوع الأشجار، والبذور الرطبة، والبقول سيئة التخزين، وعلى جميع أنواع الخضر والفاكهة، وفي بعض مناطق جسم الإنسان والحيوان.. والفطريات لها تخصصها الدقيق في تطفلها على الكائنات.

منافع الفطريات

بالرغم من مساوئ الفطريات، إلا أن لها حسنات كثيرة. لقد اكتشف الإنسان الخدمات التي يمكن أن يقدمها له الفطر شيئًا فشيئًا، إما بالصدفة البحتة أو من خلال البحث العلمي أو من خلال خبرات الأجيال السابقة. وقد أنشئت معاهد علمية ومصانع ضخمة، تسخر هذه الكائنات الدقيقة من أجل فائدة الإنسان، وجني الأرباح الكبيرة بالاستفادة من منافعها.

ومن أبرز منافع الفطريات، الاستفادة من أنواع معينة من فطر الخميرة في تخمير مخلفات مصانع السكر (مولاس القصب)، وتحويله إلى كميات وفيرة من الكحول، والذي يستخدم كمطهر طبي ضد الميكروبات، ويدخل في تصنيع الروائح. ومن منافعها أيضًا، صناعة الخميرة المضغوطة، وقد كون رجل مجرَي اسمه “فلايشمان”، ثروة طائلة من فطر الخميرة بعد هجرته إلى أمريكا ومعه فقط أنبوبة صغيرة تحتوي على فطر الخميرة.

ومن الصناعات الهامة التي قامت في معظم أنحاء العالم، صناعة الأحماض العضوية بواسطة بعض الفطريات، وأهمها فطر “العفن الأسود” (Aspergillus)، ويكفي أن روسيا أنشأت منذ زمن طويل معهدًا بحثيًّا كبيرًا لدراسة هذا الفطر والاستفادة من خصائصه. ويمكن أن يقدم لنا هذا الفطر سنويًّا آلاف الأطنان من حمض الليمونيك بتحليله لنفايات الصناعات الأخرى، أما الليمون المزروع على مستوى العالم، فلا يقدم إلا بضعة آلاف فقط من هذا الحمض، وبذلك يسهم هذا الفطر في تعويض هذا النقص. ويفيد فطر عفن الخبز في صناعة حمض اللبنيك من السكر، ولهذا الحامض فوائد طبية وصناعية هامة. أما حُقن الكالسيوم التي تعطى لمرضى العظام، فأصلها ملح للحمض العضوي (الجلوكونيك) وهو جلوكانات الكالسيوم. وهذا الحمض تنتجه بعض الفطريات بكميات كبيرة ورخيصة، كما يخدم الفطر مرضى لين العظام والحوامل.

وهناك بالطبع فطر “عيش الغراب” الذي يستخدم حاليًّا على نطاق واسع في إعداد المأكولات، حيث يضاف لأنواع مختلفة من المعجنات وغيرها. ولقد عرف الناس منذ القدم، أنواعًا مختلفة منه تعد بالآلاف، ولكن ليست كلها تصلح للأكل، فبعضها يكون له رائحة نفَّاذة غير مستساغة، والبعض الآخر يحوي سمومًا قاتلة. ومما سجلته الوقائع التاريخية، أن هذه الأنواع السامة من فطر “عيش الغراب”، قد دست لبعض الملوك والأمراء في الطعام، فمات عدد غير قليل منهم بسبب أكلها. ولهذا يجب التدقيق في اختيار النوع الصالح للأكل لتجنب السام. وعمومًا، يوجد نوعان هما الأشهر في الاستخدام في الأطعمة. وقدمت لنا الفطريات بعض أنواع الجبن الفاخرة مثل جبن “الريكفورت”، و”الكاممبرت”، وهو جبن غير عادي له مذاق مميز، ونكهة لاذعة محببة، وشكل مميز لمثلثاته المبرقشة باللون الأخضر، وكأن بداخله قطعًا من البقدونس.. وسبب هذا اللون هو نوع من فطر العفن الأخضر الداخل في صناعة هذا الجبن، بل إنه السبب في إكسابه الطعم اللذيذ المميز، بما يفرزه من مواد خاصة أثناء نموه فيه. وبالطبع فإن هذا النوع من فطر العفن الأخضر الذي تعتمد عليه صناعة الجبن الريكفورت، ليس ضارًّا بالصحة ولا بجودة الجبن مثل غيره من الأعفان الخضراء.

فبجوار ما يسببه فطر “الأرجوت” من تدهور في المحاصيل نتيجة إصابته لسنابل القمح وتحويل حباتها إلى كتل صلبة سوداء، فإن هناك خطورة بالغة على من يأكلون خبزًا مصنوعًا من دقيقه الملوث بكتل الفطر السوداء، حيث يصابون بمرض “الأرجوت” الذي كانت أعراضه تظهر على هيئة تآكل في الأصابع، وقد يمتد التآكل إلى الذراعين والساقين، وتحدث حالات قشعريرة ورعشة وغرغرينا وانقباضات تؤدي أحيانًا للوفاة. وفي عام 994 مات أكثر من أربعين ألف فرد في فرنسا بسبب هذا الفطر. وتكررت الحالات على نطاق واسع، وبدأ العالم ينتبه لمخاطر تناول الدقيق الملوث بجراثيم فطر “الأرجوت”. ولكن، بعد ذلك، سُخِّر هذا الفطر المدمر لاستخلاص مادة فعالة منه، تعرف بـ”الأرجوتين”، لتستخدم في تسهيل حالات الولادة العسرة، وتساهم بتأثير هام في علاج حالات النزيف الرحمي للسيدات.

وبالرغم مما هو شائع، بأن الذي اكتشف “البنسلين” الذي يفرزه فطر “البنسيليوم نوتاتم” هو العالم “ألكسندر فلمنج” (Alexander Fleming)، فإنه يمكن القول بأن الفلاح البسيط في حقله قد توصل بفطرته -بشكل أو بآخر- إلى أن الميكروب الضار يحمل في طياته سلاح مقاومته، بما يكسبه للجسم من مناعة.

نعم. فالفلاح الفقير البسيط ربما لا يأنف من أن يمسح في جلبابه رغيف الخبز الذي بدأت بقع العفن تبرقشه، ثم يأكله. والحقيقة أن الخبز الرطب الذي تنمو عليه المستعمرات الفطرية الكثيرة -ومنها فطر البنسيليوم الأخضر- يفرز فطر “البنسيليوم” في الرغيف مواد يمكن أن تقتل غيره من الميكروبات المتعايشة معه على الرغيف في نوع من الصراع على البقاء. وأساس العفونة في البطن، هو بعض الميكروبات غير المرغوب فيها، التي تعيش في الأمعاء. وعندما يؤكل الرغيف المصاب ببعض العفن، إنما يؤكل بما أفرزته الفطريات من مواد كفيلة بقتل الميكروبات المسببة لعفونة الأمعاء، والتي ربما يكون من بينها مادة البنسلين أو غيرها من المضادات الحيوية بتركيزات بسيطة.

يواصل علماء الميكروبات جهودهم لاكتشاف ميكروبات جديدة، بعضها يغزو أجسامنا ويقتلنا، وبعضها الآخر لحمايتنا من غزو الميكروبات الأخرى. وحتى أضعف الكائنات تقاوم من أجل البقاء؛ فالميكروبات تواصل تطوير قدراتها للتكيف مع الأسلحة الموجهة ضدها من مضادات حيوية ولقاحات، باكتساب المناعة ضدها، فتكون النتيجة أن بعض المضادات الحيوية تؤدي فقط إلى كمون بعضها لفترة -دون موتها- حتى تواتيها الظروف للهجوم مرة أخرى. وبذلك فإن الكارثة الكبرى قد لا تكون في وجود الميكروبات، بل في رعونة الإنسان وعدوانيته في التصرف.