ليس من المنطق أن تشيد دولةً أو مدينةً أو منزلاً ولا تؤمِّن هذا البنيان وتجعل له أنظمة حماية ودفاع، وتجعله عرضة لكل غازٍ ومفسد. هذا بالنسبة لصنع المخلوق (الإنسان) فما بالك بصنع الخالق عز وجل إذن؟
نظام Asepsis
زُوِّد الجسم البشري بنظام تعقيمي حصين مانع لهجوم أي معتد؛ إنه الجلد السليم الذي يحمي ما تحته من أنسجة، ويمنع ولوج أي ميكروب إلى داخل الجسم. فما دام مسطح الجلد خاليًا من الجروح ونظيفًا بالقدر الكافي، فلن يتمكن أي ميكروب من الولوج إلى الداخل مهما حاول، حيث تفرز الغددَ العرقية والدهنية حمض اللاكتيك وأحماضًا دهنية من شأنها أن تزيد من حموضة سطح الجلد مما يمنع نمو البكتيريا والفطريات على الجلد. لكن هناك ثغرات تُعد نوافذ إلى الداخل، مثل العينين، وفتحتي الأنف، والأذنين، والفم، والفتحات التناسلية، وكلها محصنة، بل تعتبر نقاطًا حصينة (دُشمًا) مزودة بآليات دفاع تقضي على غالبية من يفكر بالاقتراب منها. يتجلى ذلك في تكوين الجفون وغشاء المُلتحمة، الذي يبطنها ويكسو صلبة العين والقرنية، وكذلك توزيع واتجاه الرموش عليها ليكون ذلك أول خط دفاع للعين، كما تساعد الطبقة الدمعية المبطنة لسطح العين، في توزيع الأكسجين والمواد الغذائية على خلايا العين السطحية لتحتفظ العين بنضارتها ومناعتها، كما يوجد بالدموع أنزيمات ومواد مضادة للميكروبات مثل الليسوزيم الذي يحلل جُدر البكتيريا؛ مما يحول دون توغلها بالعين، وقد تفرز الدموع بغزارة عن طريق الغدة الدمعية الرئيسية لتغسل وتزيل أي مواد عالقة (ميكروبات أو أتربة) بسطح العين.
قناة الأذن مزودة بغدد صغيرة تفرز المادة الشمعية (الصِملاخ Cerumen) الذي يحمي الأذن من أضرار المياه، والصدمات، والأجسام الغريبة، والحشرات، والالتهابات. كما يقوم بتليين وتنظيف قناة الأذن، ويصطاد الغبار، ويمنع دخول الماء إلى داخل القناة، ويحمي أيضًا الأذن الوسطى من البكتيريا والفطريات، وبالتالي يلعب دورًا مهمًّا بيولوجيًّا ووقائيًّا في نظام الجسم الدفاعي. وشعيرات الأنف وما يُفرز من مخاط يلتصق به من أتربة وميكروبات، تُعد سُبل حماية لثغر الأنف. باستثناء الأذن أنت مسؤول عن نظافة الفم والعين والأنف ومنع جعلها ممراتٍ آمنة للميكروبات.
الأمن الداخلي
إنه أفضل الأجهزة الأمنية على وجه الأرض. فكل فرد فيه يعلم مهامه جيدًا وينفذها بأقصى سرعة وعلى أتم وجه، ولا تشغلهم إجازات ولا مرتبات ولا مكافآت ولا ترقيات ولا مناصب.. أفراده أنواع متخصصة من الخلايا تعرف باسم “الأجسام المضادة” التي تهاجم أي دخيل تـسـول لـه نفسه التسلل إلى الجسم. المدهش أنها لا تهاجم خلايا الجسم الذي أنتجها ولا تمسها بأذى، بل تميزها من الكائنات الدخيلة المعادية في لحظات، وتبدأ في التعامل معها بكل شراسة بتدريب احترافي وأوامر مسبقة! إذن، كيف لهذه الجنود أن تميز العدو من الشقيق؟
نؤكد قبل الإجابة على هذا السؤال على عدة مُسَلّمَات، لكل إنسان بصمته المميزة، لست أعني بصمات الأصابع أو بصمة الوجه أو بصمة العين، بل بصمة الخلايا، ثبت ذلك عندما فكك العلماء قطعة من حيوان الإسفنج الأبيض تحت الماء إلى خلايا مفردة حتى صارت معلقًا. وتابعوا ردة فعل معلق الخلايا المفككة ميكروسكوبيًّا، وساد الذهول من هول ما حدث؛ تدور الخلية حول خلية أخرى تلامسها بلطف شديد كأنها تشمها أو تتحسسها، باحثة عن شيء محدد على سطحها، وبعد اطمئنانها لوجود ضالتها تلتصق بهذه الخلية مكوِّنة كائنًا من خليتين (متشابهتين تمامًا)، فتقترب منهما ثالثة ورابعه وعاشرة.. ويتكرر نفس ما حدث مع الخلية الأولى، وينتهي الأمر بإعادة قطعة الإسفنج إلى سيرتها الأولى.
أعاد الباحثون التجربة بمزج معلق من خلايا مفككة من قطعتين من نوعين مختلفين من الإسفنج (أحمر وأبيض)، وزاد الانبهار والعجب؛ إذ عندما تدور الخلية البيضاء حول الخلية الحمراء عدة دورات تنفر منها بسرعة وتبتعد، لكنها بعد عدة لفات حول توأمها الأبيض سرعان ما تحتضنها وتلتصق بها، وتفعل الخلايا الحمراء نفس الشيء، فلا تلتصق إلا مع الخلايا الحمراء فقط. وفي نهاية المطاف تتكون القطعتان من الإسفنج تمامًا كما كانتا دون خطأ في خلية واحدة.
إنها بصمة الخلايا التي بحثت عنها كل خلية في نظيرتها لتتعرف عليها. وبالبحث تبين أن هذه البصمة عبارة عن جزء من بروتين خاص يرتبط بجدار الخلية ويبرز على جدار الخلية في وضع مُمَيز. وتركيب هذا البروتين وشـكـلـه وطريقة التوائه حول نفسه على السطح الخارجي للخلية يمثل العلامة المميزة، بل نستطيع أن نقول “البصمة” أو ما يعرف بـ”ID Identifier number”.
إن غرض عملية التلامس التي تقوم بـهـا خـلايـا الإسفنج، هـو الـبـحـث عـن هـذه الـعـلامـات الجزيئية (Molecular Markers) للتعرف على الخلايا التي من نفس النوع، والتمييز بينها وبين غـيـرهـا من الخلايا. وهذه العلامات الجزيئية، أهم عناصر نظام الدفاع والأمن في جسد الكائن الحـي. فـهـذه الـعـلامـات عـلـى درجـة قصوى من الأهمية لكل كائن حي.
إن امتلاك الكائن الحي وسيلة للتعرف على خلاياه والخلايا الدخيلة المعادية أمر غاية في الأهمية، وإلا أصبح مستباحًا من قِبل الميكروبات الدخيلة، أو تتعرض الخلايا لمهاجمة نفسها، وفي الحالتَين يَكتبُ الكائن الحي شهادة وفاته بيده.
دوريات سيارة
إن الكائن الحي يمتلك جنودًا (أجسامًا مضادة) على درجة عالية من التخصص، تقوم بدوريات سيارة تتجول من أقصى الجسم إلى أقصاه دون أن تُغفل ملليمترًا واحدًا، وخلال تجوالها الدقيق تتحسس كل خلية، فإن فحصتها واطمئنت لعلامتها الجزيئية أو ID الخاص بها، فحصت أخرى وهكذا، وإن وجدت خلية تحمل ID مخالفًا لما تبحث عنه وتأكدت أنها معادية، هاجمتها على الفور وأبادتها.
يمثل نخاع العظام القيادةَ العامة للدفاع والأمن، حيث تُنتَج فيه أنواع خاصة من الخلايا تعتبر هي الأصل في تكوين الأجسام المضادة التي يحتاجها الجسم.
وينتج الجسم ثلاث أنواع من الخلايا:
• ليمفوسايت أو (الخلايا الليمفاوية) أو خلايا T، وهي تمثل سلاح الإشارة في الجيوش الحديثة، إذ تطلق إشارات الإنذار بوجود الدخيل في الجسم.
• مونوسايت: وهي القوة الضاربة الرئيسية بين قوات الدفاع في الجسم.
• ليمفاوية متخصصة B: وتعد بمثابة سلاح الإمداد والتموين، فـمـنـهـا تـنـطـلـق أعداد هائلة من الأجسام المضادة تكتسح كل ما يصادفها من الخلايا الدخيلة.
تكون هذه الأسلحة الثلاثة، أكبر الجيوش البيولوجية في الجسم، حيث تستطـيـع التعرف على الدخلاء والمتسللين بدقة بالغة، ثم تدمرها بعد ذلك بسرعة وبكل قوة.
ساعة الصفر
تبدأ أفراد سلاح المخابرات (الاستطلاع والإشارة) المعروفة بالخلايا T، تتعرف على الدخلاء والمندسِّين، فإذا ما عثرت على دخيل واحد ترسل ثلاث رسائل بالغة الأهمية؛ الأولى عبارة عن الأوامر والتعليمات الخاصة بتنشيط تكوين خلايا T نفسها حتى يمكنها إرسال المزيد من الإشارات وإبلاغ الرسالة إلى كل مكان.
أما الرسالة الثانية فهي استدعاء لخلايا “المونوسايت” التي تتحول بمجرد ملامستها للخلايا الدخيلة، إلى خلايا ماكروفاج (الملتهمة) وهي خلايا أكبر حجمًا وشديدة الشراهة في ابتلاع الخلايا الدخيلة، لتصب عليها مجموعة من الأنزيمات التي تذيبها.
الرسالة الثالثة عبارة عن أمر موجه للخلايا الليمفاوية، كي تتحول لنوع خاص من الخلايا تسمى خلايا البلازما التي لها كفاءة عالية في إنتاج الأجسام المضادة.
لقد تم الاستعداد للمعركة فورًا، حيث تكونت أعداد غفيرة مـن خـلايـا T وأطلقت الإنـذار والنفير، وسرعان ما تحـولـت الخـلايـا B إلى خـلايـا البلازما المفرزة للأجسام المضادة وهي سلاح المعركة الفتاك، وفي نفس اللحظة تكونت أعداد هائلة من خلايا ماكروفاج التي لا تبقي ولا تذر، فتَلتَهم الأعداد وتهضمها وتذيبها.
الجميل والمدهش في الوقت ذاته، أن رسالة الخلايا T إلى الخلايا الليمفاوية التي تنتج خلايا تعرف بخلايا البلازما على شكل Y بأعداد مهولة تفوق عشرات المرات الأعداد المتكاثرة من البكتريا الممرضة الدخيلة، بل وتطاردها تجاه خلايا الماكروفاج، ومنها ما يمسكها بطرفيها كالملقط ويقدمها لخلايا الماكروفاج ليلتهمها، وتحولها إلى جزيئات خاملة ما تلبث أن تتخلص منها في تيار الدم.
هل شعرت ولو مرة واحدة بوطيس هذه المعارك التي عادة ما تتم في جسمك؟ بالتأكيد لم ولن تشعر أو تحس أو تسمع منها أي صوت أو تجد لها دُخانًا، إلا إذا كانت أعداد الأعداء هائلة، أو لم يسبق التعامل معها من قبل، فتتفوق تفوقًا مؤقتًا على قوات الجسم الدفاعية، فتشعر ببعض التوعك وترتفع حرارة الجسم، كأن جسمك يطلب الدعم الخارجي للإجهاز على تلك الميكروبات الشرسة.
وتقوم المدرسة الطبية الحديثة على إعطاء المضادات الحيوية المتخصصة وخافضات الحرارة والمسكنات، كما يجب تناول تلك المضادات بحذر حتى لا تضر أكثر مما تنفع، بل من الأفضل أن تُعطى بجرعات محدودة، كي تفسح المجال لتنشيطِ الجهاز المناعي وعمله في الجسم، حيث تبقى ذكرى هذه المعركة عالقة بذاكرة الخلايا المناعية، وتكون قد تعلمت أخطاءها فتتحاشاها، وتدربت وحصلت على الخبرة الكافية كي تُحسن التعامل مع تلك الميكروبات الشرسة، وعند تكرار دخولها للجسم لا تظهر أي أعراض، حيث تكونت هناك مناعة مكتسبة تجاهها.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال، لماذا لا ينجح الجسم في هزيمة مرض السرطان؟ والإجابة ببساطة، لأن الخلايا المتكاثرة والناتجة من الانقسام الهائل تكون لها نفس الشفرة الجزيئية لخلايا الجسم فلا تعتبرها أجهزة الجسم الدفاعية جسمًا غريبًا أو فردًا مُعاديًا.