قصة أمل

الأشياء التي نحب معرَّضة للفقدان دومًا، لكن الحب سيعود دومًا بشكل مختلف. (فرانز كافكا)

عندما غادر جميع المعزين إلى حال سبيلهم، عادت “أمل” إلى صالة الاستقبال. تهالكت فوق الكنبة وتركت الفرصة للصمت ليطبق عليها وحدها وساوسها وهواجسها يتعالى ضجيجها حتى تهيأ لها أنها تمعن الانصات إلى دبيب أذنيها المتراكم ليشكل هوة من الفراغ الدافع نحو الجنون والعدمية! رغم ذلك لم تستجب للنحيب، ولا للدموع العفوية كالعادة، فقد كانت صدمتها أقوى منهما. وهي تتحرق في نار تلك الحالة العصيبة تداعى من أعماقها صوت الأنا وهو يصارع زحف الأفكار السوداء: تعقلي يا امرأة.. لست الأولى ولا الأخيرة!

كانت تريد أن تلعن ذلك الصوت، وأن تقول له أنها صارت أرملة! وأنها فقدت حبيبها.. سندها.. وكثيرًا من أحلامها.. ومن بين كل ذلك نطقت شفتاها: لقد أخلف وعده وتركني في مواجهة هذه الوحشة الرهيبة!

تهادى الصوت إلى مسمعها من جديد وسرى في أوصالها كسم زعاف:

كنت تعلمين منذ البداية أنكِ أغرمت بجندي يصارع الموت بين الكَرِّ والفَرِّ! كان عليكِ أن تضعي حسبانًا ليوم كهذا!

أرادت أن ترد من جديد مستندة إلى وعوده، لكنها لم تفعل وانتصبت واقفة كالمصعوقة ثم قصدت غرفة النوم. أخرجت أحد قمصانه من الدولاب، كانت رائحته تتجاوز أنفها وتتسرب إلى أعماقها، فلمحته ينتصب واقفًا خلفها: هل صَدَّقْتِهم يا حبيبتي!

استدارت بلهفة، كان يقف متجسدًا أمامها يصلب طوله، أخفت القميص خلفها بينما عقد الصمت لسانها، واغرورقت عيناها بالدموع هذه مرة. وعندما مررت يدها تمسح شلالات دموعها اكتشفت أنه اختفى، تناولت من فوق الأباجورة صورة تذكارية لزفافهما، تأملتها وكأنها التُقِطَت للتو، ثم تمتمت وهي تعيدها إلى مكانها: فليحمك الله يا عزيزي..

عادت إلى غرفة الضيوف تجر شبشبها وتسحب كرسيًّا، توقفت عند النافذة الكبيرة للبهو، أزاحت الستارة جانبًا بحيث صارت الطريق الرئيسية مكشوفة، جلست تنتظر الذي يأتي ولا يأتي، هذه المرة حال حفيف الأشجار وزقزقات الطيور وهي تشاكس بعضها البعض دونها والصمت الموحش والمطبق على الأنفاس. كلّما تراءى لها قادمٌ على شكل نقطة سوداء على جانبي الطريق المُتْرَبَة المؤدية إلى البلدة؛ إلا واتخذت طرف الكرسي مجلسًا وهي تمعن النظر في مواصفاته في تحفز يبلبل دواخلها ويرهقها، وبمجرد أن يتبدى لها القصر أو السمنة عندما يقترب القادم رويدًا رويدًا، حتى يخيب ظنها ولا تلبث أن تعود أدراجها بعد أن تكتشف أنه ليس إلا أحد أبناء البلدة.

تذكرت عندئذ عودته المفاجئة كل مرة؛ محمَّلاً بالهدايا والورود وكثير من الحب، بعد أن يكون قد قضى شهورًا في الصفوف الأمامية لجيوش الوطن، تَتَذَكَّرُ كيف أن الساعات والأيام تنقضي مسرعة، ساحبة إياه من بين دراعيْها غَصْبًا، فلا تجد إلا أن تقف لتودعه في كل مرة منتظرة وعده الدائم بالعودة سالمًا.

تنهدت في استسلام، تلمست بشرة وجهها الجافة، تَتَبَّعَتْ بعض شقوق التجاعيد التي تكتسحها بلا هوادة، تم همهمت متحسرة: ليتكَ تركتَ لي شيئا منكَ! قالت وهي تتراجع بظهرها نحو الكرسي وأفكارها تتجاوز أسوار الغرفة وحدود البلدة، متذكرة لقاءهما الأول في بيت خالته، لا يمكن أن تنسى ذلك النظرة الأولى، وشهد عيد المولد النبوي عشقهما، هناك ولد حبهما كبيرًا عذريًّا جرافًا.

إذا صَدَّقْتِهِمْ! فأنتِ من أخلف الوعد!

كانت غارقة في سأمها، وبمجرد أن تهادى إليها صوته حتى انتفضت من جديد، وهي تبحث عن مصدر الصوت كشاة ظمْأَى تسمع صوت خرير المياه ولا تَجِدُ إليه سبيلاً، لم يكن ببعيد عنها، النافذة وحدها تفصل بينهما، كانت أنفاسه تتسارع لتوازي تسارع نبضات قلبها، كان عليها أن تتحدث وأن تغالب دموعها حتى لا يختفي من أمامها كما حدث في المرة السالفة، لهذا قالت دون أن تفكر في أي شيء محدد: اشتقت إليك كثيرا! قالت وهي تحشر يديها الباردتين بين فخذيها طلبا للدفء.

شوقي لكِ أكبر يا أميرتي.. أبشري.. فرؤسائي يقولون إن الحرب شارفت على النهاية! 

ماذا تقصد…! هل تعني أن الرسالة! تلك الرسالة اللعينة التي توصلت بها لا أساس..

قالت وقد اختلط عليها الفرح بالاستغراب، فارتبكت ملامحها.. طبعًا، لا أساس لها من الصحة! ربما هو تشابه ألقاب! ما أكثر صُدَفًا من هذا القبيل يا عزيزتي!

رغبت في أن تزكي طرحه بكلمات من قبيل: “أنت على حق يا حارسي الأمين” لكن الكلمات لم تسعفها، واكتفت بتحريك رأسها إيجابًا.

لا شك أنكِ تذكرين ما حدث منذ ثلاث سنوات يا حبيبتي؟ ثم قهقه حتى ارتسم بخار أنفاسه على زجاج النافذة.

هيء.. هيء.. يوم أخبروني أنكِ نقلتِ إلى المستشفى وأنهم بتروا رجلكِ اليمنى! ولكنكِ عدتِ بعد شهر برجلين طبيعيتين!! قالت قبل أن يغرقا في مَعْمَعَان القهقهات.

سعيد لأنكِ لم تصدقيهم!

طبعًا لم ولن أصدقهم…! ردّت واثقة.

إذن افتحي لي الباب قبل أن أبرد!

عندها فقط اختفى عن أنظارها وكأنه شبح، قبل أن يتهادى إلى سمعها بعد لحظات وقع طرقات مألوفة على الباب..