قيل في الترجمة الكثير، وفي عرفي، كما نقول في تونس، هي “صنعة اللّي ما عندو صنعة”، أي “عمل لا طائل من ورائه”. لماذا أقول ذلك؟ أذكر قبل ثلاثة عقود خلت، لما تخرّجت من الجامعة الزيتونية وكنت أبحث عن شغل، اقتربت مني الوالدة وقالت ماذا تفعل؟ فقلت: أترجم من الفرنسي إلى العربي، فلم تعِ قولي. فأوضحت “أقلب الكلام من السوري إلى العربي”، و”السوري” في الدارجة التونسية هو مرادف الفرنسي، فردّت ساخرة “صنعة اللي ما عندو صنعة!”. اكتشفت لاحقًا أن أجرة الترجمة في لغتي، لا سيما مع دور النشر الخاصة، لا تزال بـ “بارك الله فيك!” و “شكر الله سعيكم!” في معظم الأحوال. مع هذا سكنتني الترجمة منذ ذلك العهد البعيد في الجامعة الزيتونية في تونس، لما كنت طالبًا في دراسات الأديان، ثم لاحقًا لما التحقت بالجامعة الغريغورية في روما أثناء دراسة اللاهوت المسيحي. استبانت لي الحاجة إلى قول الآخر، من خلال إدراك النقص الحاصل لدينا في الاطلاع على المناهج العلمية في دراسة الظواهر الدينية. أقصد سوسيولوجيا الدين وسوسيولوجيا الأديان، والأنثروبولوجيا الدينية، وتاريخ الأديان، وعلم النفس الديني، وما شابهها من العلوم الحديثة في مقاربة المقدس والظواهر الدينية. اطلعت حينها، لما كنت طالبًا في تونس، على كتاب الفرنسي ميشال مسلان “Pour une science des religions” الصادر عن دار سوي (1973)، فأغراني مقوله فقررت ترجمته لذاتي لا غير. كنت لا أفقه فنّ النشر ودهاليز الناشرين. بعد بضع سنوات لما استقر بي المقام في روما أرسلته إلى “المركز الثقافي العربي” فقبل مدير الدار حينها، حسن ياغي، بنشره في التو، اكتسبت ثقة لا توصف في شخصي وقدراتي. ولكن حلمي الجميل بتطوير المناهج العلمية في دراسة الظواهر الدينية والمقدس والأديان لازمني من الزيتونة إلى روما في ظل تشظّي المقدّس في عالمنا العربي.
ترجمت أعمالاً أخرى لعالم الاجتماع الإيطالي إنزو باتشي منها “علم الاجتماع الديني” و”سوسيولوجيا الأديان” و”الإسلام في أوروبا”، و”الإسلام الإيطالي” لستيفانو أليافي ولا زلت في ذلك المسار بحثًا وترجمة.
لكن الشيء العرضي، وربما الجميل، في رحلة الترجمة انزلاقي نحو الرواية، ولذلك أقول دائمًا عن نفسي “وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى” (نحو الرواية). فقد كنت في قراءاتي وأبحاثي غارقًا في عوالم التوراة والإنجيل والقرآن، وكانت الرواية عرضًا بالنسبة إليّ كسائر قرّاء الرواية العابرين. وجدتني أتابع الروايات التي تُتَرجم من الإيطالية، ناهيك عن أعمال أخرى في تخصصات شتى وذلك مع “مشروع كلمة” في أبو ظبي. أقصد انشغالي بمتابعة ما يُتَرجم وتقويم ما اعوجّ من ركيك الكلام. وقد ذكّرني شغلي هذا إلى جانب شغل التدريس في جامعة روما، بأن أسلافي الزواتنة قد سبقوني إلى صنعة المراجعة من الإيطالية. فلما أسّس أحمد باي “مدرسة باردو الحربية” (1840) وتكفل بها جهاز أغلبه من الإيطاليين. كانت المدرسة تحتاج إلى نصوص معرّبة فجاءت الترجمة مثلّثة. يترجم الأستاذ الإيطالي رفقة طالب تونسي إلى الدارجة التونسية أو إلى عربية ركيكة، ثم يتولى زيتوني تقويم العربية وتنقيتها من الشوائب. للذكر بلغت تلك الترجمات في ذلك العهد ما يربو عن المئة نصّ، بقيت مخطوطة في المكتبة الوطنية في تونس.
قلت جئت إلى عالم الرواية من باب المراجعة والتصحيح والمتابعة لِـما يصدر بالإيطالية، لا سيما الأعمال التي تهمّ القارئ العربي وتتعلق بالثقافة العربية.
وقد بقيت أترجم في العلوم الإنسانية والاجتماعية من اللغة الإيطالية تحديدًا، لسببين: أولاً لأني أؤمن بالتخصص في الترجمة، وثانيًا لأني أعتبر إيطاليا مجهولة ثقافيًّا بالنسبة إلينا كعرب، وهو أمر يحزّ في نفسي، وكأنّ تاريخ صقلية وإمارة باري لم يكن. في البدء، أقصد مع سنوات الإقامة الأولى في إيطاليا، كنت قد نقلت شعرًا عربيًّا إلى الإيطالية لعبد العزيز المقالحي ومحمد الخالدي، وقمت بالعكس أيضًا بنقل أعمال شعراء إيطاليين إلى العربية. غير أنّ الكلف بعوالم اللاهوت لدينا ولديهم غالبني مجددًا. فما زلت أؤمن أن إخراج الثقافة العربية من الرتابة الطاغية على مقولاتها، ومن هشاشة طروحاتها، ومن وَهَن نظرتها في حقول متنوعة، لن يتأتى هذا التجاوز سوى بتحويرات بنيوية تشمل قطاعات عدة، ومنها تكثيف نقل تجارب الآخرين عبر الترجمة. أحيانًا يراودني حلم أن انكبّ على الترجمة من الإيطالية، وأخصّص لها وقتي وجهدي، دون غيرها من أصناف الفنون الأخرى التي تهدر طاقتي؛ ولكن المترجم العربي ليظفر بعيش كريم، يجد نفسه مكرهًا على تنويع مصادر الدخل، على طريقة تنويع مصادر السلاح، حتى لا يقع في ضائقة، وإلا داهمته الخصاصة والحاجة، فالترجمة وحدها في لغتي لا تكفي لسدّ الرمق. ولذلك لا تزال الترجمة لدى كثيرين صنعة عابرة.
أحيانًا أودع ترجمة لدى مؤسسة وتبقى سنوات لتُنشر، وأحيانًا تُنشر ويسقط منها اسمي سهوًا أو عمدًا، ومع ذلك أصرّ على الترجمة حُبًّا وطواعيّة.. سرًّا وعلانية، قياسًا على قول ذلك الشاعر.
(شهادة عن الترجمة ألقيت بـ “دار تونس” في باريس بمناسبة الاحتفاء بأسبوع الرواية العالمي بتاريخ 13_14 أكتوبر 2022)